حرب لا يمكن تلافيها******»لا تدفعوا روسيا الى عمل عسكري وإلا ستقع بالتأكيد حرب اوروبية وربما عالمية« هكذا خاطب الرئيس الروسي بوريس يلتسين عواصم حلف شمال الاطلسي. وتابع ان »روسيا لا يمكن ان تقبل بأن يجتاح الاميركيون يوغوسلافيا، ويجعلوا منها محمية«. وبغض النظر عن جدّية ما نقله عنه رئيس »الدوما« الشيوعي غينادي سيليزنيف من انهما بحثا »بتصويب الصواريخ العابرة النووية الى الدول التي تخوض الحرب ضد يوغوسلافيا«، فالحقيقة التي تبقى هي ان موسكو تتخبط في مواجهة حرب لا يمكن تلافيها، وانه، بالنظر الى مصاعب روسيا الاقتصادية والضعف التنظيمي لقواتها التقليدية وعدم اتصالها جغرافيا بميدان القتال، فإن الاداة المتاحة امام موسكو هي الاداة النووية.لقد بذلت الدبلوماسية الروسية جهودا لاستيعاب التحدي الاطلسي دبلوماسيا، عن طريق مبادرات متتابعة لايجاد حل سلمي لازمة كوسوفو. وينبغي القول انها نجحت بالفعل، في تقديم أسس ملائمة لتسوية مقبولة، وخصوصا باتجاه فتح باب التفاهم بين بلغراد وزعيم ألبان كوسوفو ابراهيم روغوفا. وتعرف واشنطن جيدا ان الدبلوماسية الروسية قادرة على تحقيق حل يرضي كل الاطراف، وانها مستعدة، بكثير من الرجاء، ان تمضي، ومعها بلغراد، الى اكثر من نصف الطريق. ومع ذلك، فإن الوساطة الروسية الوحيدة التي يقبلها الاميركيون، هي استخدام موسكو لنفوذها لحمل يوغوسلافيا على الاستسلام غير المشروط، وعلى الخصوص القبول باحتلال القوات الاطلسية لاقليم كوسوفو من دون مقاومة، اي تحقيق اهداف الحرب الاميركية ذاتها من دون ان تضطر الولايات المتحدة والدول الاطلسية الى تقديم خسائر.والجدار الاطلسي الصلب في وجه محاولات الكرملين الدبلوماسية، يكشفه امام الضغط الداخلي المتصاعد، ويلجئه الى لغة التهديد التي لا تأخذها العواصم الاطلسية بجدية حتى الآن، طالما ان موسكو تراوغ وتواصل مبادراتها السلمية العبثية، وتأمل بمعجزة تنجيها من حرب حتمية، بينما ألقت الولايات المتحدة بذريعة كوسوفو وراء ظهرها منذ الرابع والعشرين من آذار الماضي، حين شرعت وحلفاؤها بالعدوان على يوغوسلافيا، مفتتحة الحرب التي تريدها بإصرار… حربها التي لا مناص منها.الولايات المتحدة دولة امبريالية، بل هي وريثة الامبرياليات الغربية جميعا. وهذه حقيقة موضوعية تترتب عليها نتائج لا مجرد شتيمة مضى زمنها. وللامبريالية منطقها الداخلي القائم على التوسع المستمر، سياسيا وعسكريا، تأمينا للتوسع الاقتصادي الضروري لبقاء الرأسمالية وازدهارها.ولقد كان سقوط جدار برلين العام 1989، سلميا، محطة في الحرب العالمية الثالثة لا فصلها الختامي. ولعل الطابع السلمي لانهيار المنظومة السوفياتية والاشتراكية من الداخل، قد ولد تناقضات »مربكة« للامبريالية الاميركية، فسعت، طوال العقد الماضي، الى حلها كالتالي:(1) مواصلة انهاك روسيا وتدميرها من الداخل، والحيلولة بينها وبين التحول الى مركز رأسمالي.(2) استيعاب دول حلف وارسو السابق في حلف شمال الاطلسي مباشرة او في إطار اتفاقات ثنائية.(3) شن حملات عسكرية وسياسية ضد البلدان ذات الميول القومية والاستقلالية، افتتحتها بالعدوان ضد العراق العام 1991، وبسياسة الحصار الاقتصادي والعزل السياسي وتشجيع التفتيت الداخلي والانقلابات والضربات الجوية التي شملت العديد من البلدان في العالم »القديم«، لتأمين الانتصار الكوني للهيمنة الامبريالية.(4) فرض تسويات للصراعات القديمة بدون حلّها، على اساس قبول الاطراف بالمرجعية الاميركية (المثال الفلسطيني).وقد قطعت الولايات المتحدة شوطا كبيرا في استراتيجية استكمال الحرب العالمية الثالثة هذه، التي تتم في إطار استراتيجية اوسع هي استراتيجية العولمة القائمة على تفتيت العالم، والغاء خصوصياته الثقافية، وإلحاقه بالسوق العالمية بشروط المركز الاميركي، وهي استراتيجية تشمل البلدان »المستقلة« السابقة والامبرياليات القديمة معا.وفي هذا السياق، فإن الامبريالية الاميركية تواجه في اوروبا مهمتين (1) تحطيم المعقل القومي المعارض الاخير في يوغوسلافيا. (2) الغاء روسيا كقوة اوروبية، تمهيداً لتفتيتها. وهو ما تسعى إليه في عدوانها المتصاعد في البلقان منذ ثلاثة اسابيع. وحينما تنجح فسوف تنتقل الى آسيا، ونحو الصين اولا او أخيراً.هذه الحرب حتمية اذن، وعلى روسيا ان تواجهها، بأي ثمن، اذا ما ارادت البقاء. فهل تستطيع؟كان الجنرال شارل ديغول يلح على ان »الدفاع الوطني هو ارادة الدفاع« وهي بلاغة تلغي كل ما يتعلق بموازين القوى المادية عن عمد، ليس لانه يمكن بالفعل تنظيم الدفاع بمجرد الارادة. اي بدون وسائل مادية، ولكن للتأكيد على ان الحرب هي، في التحليل الاخير، قرار سياسي.لقد واجهت الحكومة البلشفية في روسيا اثناء الحرب الاهلية والتدخل الاجنبي (1917 1924) والحكومة السوفياتية اثناء الحرب العالمية الثانية، من المصاعب الاقتصادية والمجاعات والحصارات وضعف وسائل الحرب، ما تبدو معه روسيا الآن، بالرغم من كل شيء، اقوى بما لا يقاس. وفي المرتين، انتصرت روسيا لانها كانت تملك ما لا يملكه اعداؤها اي الارادة التاريخية الجبارة. وهي ارادة لن تستعيدها روسيا إلا بانقلاب.