1 متقاعدون:يقول مدير المطبوعات الأردني، بلال التل، ان فلسفة مشروع قانون المطبوعات الجديد، تقوم على تحويل الاعلاميين الأردنيين الى »جنود في كتيبة مقاتلة«. ولكن النائب محمود الخرابشة، الذي يلحّ على ان تقييد حرية الصحافة يتعارض مع الدستور الاردني، يسأل عما اذا كان المطلوب من هذه الكتيبة ان تقاتل في الخندق الاسرائيلي بالذات، طالما ان مشروع القانون ذاك مصمم بحيث يؤدي الى منع التعبيرات المضادة لإسرائيل، والتطبيع معها، والتوطين، وقوى الفساد المتأسرلة التي يشكّل أعضاؤها ومن بينهم وزراء ومتنفذون ورجال أعمال »حزب اسرائيل في الأردن«.ويتزعم الخرابشة، الحملة النيابية ضد مشروع قانون المطبوعات، وبسبب ذلك، أطلق عليه الصحافيون الأردنيون لقبا: »نقيب الصحافيين في البرلمان«. وربما كان من سوء حظ حكومة الدكتور عبد السلام المجالي، ان يكون الخرابشة، بالذات، رئيسا »للجنة التوجيه الوطني« البرلمانية التي ستنظر في المشروع، وتفتح الحوار العام حوله، قبل ان ترفع توصياتها للبرلمان.لم يأت محمود الخرابشة من أحد أحزاب المعارضة او من الوسط الصحافي او الأكاديمي، بل جاء من دائرة المخابرات العامة، متقاعدا عن رتبة عقيد! وهو، اليوم، يتبع خطى رئيسه السابق، أحمد عبيدات، المعترف به بوصفه أحد الزعماء المرموقين للمعارضة الأردنية.تخلّى الخرابشة عن الحذر الذي يتصف به رجال المخابرات بمن فيهم السابقون وهو لطيف ولبق، ويتباهى بأنه لم يصطدم، طوال حياته المهنية، بالحركة الوطنية الاردنية، بل انه، من خلال سنوات عمله في المخابرات، كوّن انطباعا حسنا عن الشيوعيين الذين يكنّ لهم احتراما خاصا، ويأسف لأن الخلافات تعصف بحزبهم. ومع ذلك، فالخرابشة مجرد مثال على ظاهرة، ونزوعه الحالي لا يرتبط، فقط، بصفاته الشخصية. فالعملية الانقلابية التي ينفذها »حزب اسرائيل في الأردن«، حزب الكمبرادور، ضد الدولة الأردنية، بهدف تفكيكها من الداخل، وقطع صلاتها بالنظام العربي، وإلحاقها بإسرائيل باعتبار الأخيرة واسطة الاندماج في السوق العالمية أفرزت وتفرز قيادات وكادرات سياسية معارضة من قلب مؤسسات الدولة: أحمد عبيدات وطاهر المصري وسليمان عرار وهاني المضاونة ونجيب الرشدان وعبد الرحيم ملحس ومريود التل وتوجان فيصل ونزيه عمارين… وسواهم. وحتى ليث شبيلات، بدأ محسوبا على القصر.وهناك قائمة طويلة من المتقاعدين، المدنيين والعسكريين، الذين تحولوا الى المعارضة. وبعضهم لم يقطع مع الحكم، ولكنه يوافق على آراء المعارضة، ويدعم نشاطاتها. وبعضهم صامت بانتظار دور ملائم او يأسا. الا ان القسم الأهم من بين أولئك المتقاعدين، عشرات منهم يقطنون الريف، ويساهمون في تأطير حركاته الشعبية العفوية. وجدير بالذكر، هنا، ان دور هؤلاء كان ملاحظا في مظاهرات الخبز في آب 1996، والمظاهرات المناوئة للعدوان على العراق، في شباط 1998.ما يلفت الانتباه ان المتقاعدين ممن تحولوا الى المعارضة، غير نادمين على الماضي. وقد جادلت ضابطا كبيرا متقاعدا من القوات المسلحة، في أن العلاقات الاردنية الاسرائيلية، ليست جديدة، بحيث تصبح معاهدة وادي عربة، نقطة تحول في موقفه السياسي من الحكم، فقال: »كانت تصلنا إشاعات عن تلك العلاقات، ولم نكن نصدقها، طالما كانت عقيدتنا العسكرية ونشاطنا اليومي وتخطيطنا وتدريباتنا كلها تنصبّ على هاجس واحد هو صد عدوان اسرائيلي محتمل«.العلاقات الاردنية الاسرائيلية قديمة، ولكنها كانت محصورة بالمستويات العليا، وذات طابع سرّي، بينما كان جهاز الدولة يفكر ويعمل في إطار معطيات النظام العربي ومعادلته القطرية التقليدية: حماية النظام السياسي القطري مع التأكيد على التضامن العربي والعداء لإسرائيل. ولذلك، شعر العديد من أركان النظام الأردني وموظفيه وعسكرييه، ان انقلابا جذريا حدث عام 1994، حين تم التوقيع على المعاهدة الاردنية الاسرائيلية، وإعلان التعاون بين البلدين، والكشف عن العلاقات القديمة »عبر النهر«. وربما كان، بالفعل، انقلابا لم تنته فصوله حتى الآن. وهناك مسؤولون حاليون، من مستويات مختلفة، يريدون تجاوز آثار الانقلاب ذاك، والعودة بالبلاد الى »الصف العربي«. وقد لاحظ المراقبون السياسيون ان هؤلاء تحركوا عشية زيارة ولي العهد السعودي، الأمير عبدالله بن عبد العزيز الى الأردن، اوائل حزيران الحالي، للدفع باتجاه الاستجابة للمبادرة السعودية والمصالحة مع سورية. وقد أدى ذلك الى إشاعة الاضطراب حول نتائج المباحثات الأردنية السعودية، حيث حصل الاعلاميون على تأكيدات متضاربة.الأردن، اليوم، مختبر اجتماعي مهم للغاية. فعلى أرضه، تتقاطع صراعات اقليمية ووطنية وطبقية وثقافية، وتنشأ عنها ظاهرات أصيلة ذات دلالات عامة تتجاوز الخاص الأردني، ولكنها، للأسف، لم تحظ، بعد، باهتمام المثقفين العرب.2 صراع الديكة:بثت فضائية »الجزيرة«، حلقة من برنامج »الاتجاه المعاكس« موضوعها: التوطين. وكان ضيفا الحلقة: النائب الأردني أحمد عويدي العبادي والصحافي الفلسطيني المتأردن عريب الرنتاوي. وقد تعاركا كالديكة، وقدما للمشاهد العربي، صورة هابطة، ولكنها، للأسف، تعكس بعض أشكال الحوار الدائر بين الأردنيين والأردنيين من أصل فلسطيني.العبادي والرنتاوي كلاهما ينطلقان من الموقع السياسي نفسه. فهما يؤيدان السياسات الرسمية الأردنية ويدافعان عنها، سوى ان الأول يرفض التوطين، بدون ان يلاحظ ان تلك السياسات بالذات هي المسؤول الرئيس عن مشكلة التوطين في الأردن، بينما ينفي الثاني وجود المشكلة أصلا. وهو يعتقد ان الفلسطينيين في الأردن هم أردنيون »بشهادة ثلاثة ملوك«. وهو يعتبر نفسه، مع كونه فلسطينية، اردنيا اكثر من العبادي، بالإضافة الى أنه ملكي أكثر من الملك.ولا أعرف لماذا اختار معد ومقدم البرنامج، فيصل القاسم، هذين المتحاورين بالذات. فقد كان بإمكانه ان يختار آخرين اكثر ثقافة وصدقية وثقلا، بحيث يحصل المشاهد العربي على معرفة جيدة بالمشكلة المطروحة، لا على مشادة مثيرة. وأزعم، هنا، ان الفضائيات العربية كثيرا ما تسعى وراء الإثارة لا وراء المناقشة الجادة للقضايا.الصراع بين الأردنيين والأردنيين من أصل فلسطيني، مشكلة أردنية قديمة، نجمت عن ضمّ الضفة الغربية للأردن بعد حرب 1948، وسياسة تجنيس وأردنة الفلسطينيين، التي ما تزال مستمرة حتى اليوم، وسياسة الفرز الاجتماعي بعد 1970، حيث تم تحشيد الأردنيين في أجهزة الدولة والقطاع العام، بينما وجد الفلسطينيون أنفسهم مضطرين لتطوير قطاع خاص كان ما يزال، آنذاك، بدائيا.ومما هو جدير بالانتباه ان هذا الفرز الاجتماعي السياسي، أدى، بالفعل، الى تراجع الصراع الاردني الفلسطيني في العقد الممتد بين أواسط السبعينات وأواسط الثمانينات. كان الفلسطينيون، آنذاك، ما زالوا أقلية وان كبيرة حيث كانت نسبتهم الى السكان تدور حول 37$ في إحصاء عام 1979، وكانوا مستبعدين من السياسة، ومنخرطين في نشاطات تجارية وصناعية ومالية تلقى الرواج، بينما كان الأردنيون، بعامة، يشعرون بقوتهم السياسية، جراء احداث عام 1970، ويحصلون على مداخيل ثابتة بدينار قويّ.في عام 1988، انهار الدينار تحت وطأة المديونية الثقيلة، وبدأ تطبيق برنامج صندوق النقد الدولي، وسياسات تقليص القطاع العام والحد من التشغيل في الوظائف الحكومية، ومن الانفاق الاجتماعي، في إطار خطة متوحشة للخصخصة »ولبرلة« الاقتصاد. وانهار المستوى المعيشي لأغلبية الأردنيين، وفي محاولة يائسة من الطبقة الوسطى الريفية للحفاظ على مستواها، قامت ببيع ممتلكاتها العقارية الموروثة، ودائما الى بورجوازيين فلسطينيين، بينما أصبح القطاع الخاص، حيث يتمركز الفلسطينيون، هو مركز الثقل في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.وأدت الانتفاضة الفلسطينية المندلعة اعتبارا من عام 1987، الى هجرة آلاف الأسر الفلسطينية البورجوازية والبورجوازية الصغيرة من الضفة الغربية الى الأردن، هربا من المصاعب الأمنية الناشئة عن المواجهات بين الجماهير الفلسطينية والاحتلال الاسرائيلي. كذلك، فان ما لا يقلّ عن 300 ألف فلسطيني هاجروا الى الأردن من الكويت ودول الخليج أثناء حرب الخليج الثانية وبعدها. وبالنتيجة، غدا الفلسطينيون في الأردن، بعد 1991، لأول مرة، اكثر من الأردنيين، حيث أصبحت نسبتهم الى السكان، تدور حول 52 في المئة وفي الوقت نفسه، حدث تغيير في البنية الاجتماعية لفلسطينيين الاردن، حيث تكشف حضور الفئات البورجوازية (الآتية من الضفة الغربية والكويت) بينهم. وشكّلت هذه الفئات، قاعدة اجتماعية جديدة للنظام السياسي، ولخيار الصلح والتطبيع مع إسرائيل.وشهدت البلاد، أوائل التسعينات، موجة استثمارات فلسطينية جديدة، وخاصة في المجال العقاري، بالإضافة الى موجة ضغط على الوظائف المحدودة. فالقادمون من الخليج، لم يجلبوا معهم أموالا فقط، ولكن خبرات مهنية ايضا، وتمكنوا من شغل العديد من الوظائف، والتفوق في المنافسة. وقدم هؤلاء أنموذجا جديدا للفلسطيني »الموالي«، والساعي الى الثروة والاستقرار، والى الاندماج السياسي على أساس نبذ المرجعية الوطنية. وجاءت اتفاقات أوسلو، في صيف 1993، لتطلق هذا الانموذج الفلسطيني الجديد من إساره، بينما تراجعت الحركات الوطنية في صفوف الجماهير الفلسطينية التي كانت، في السابق، مصدر قلق للنظام السياسي.وفي خريف 1995، وفي إطار سياسة التنافس مع السلطة الوطنية الفلسطينية، ألغت السلطات الاردنية، كل القيود التي كانت مفروضة سابقا على انتقال مواطني الضفة الغربية، وإقامتهم في الأردن، وعرض عليهم، مرة اخرى جواز السفر الأردني الدائم، بعدما كانوا يحصلون على جوازات سفر مؤقتة لمدة سنتين. وقد أثارت هذه الاجراءات المعززة وبالخطاب الرسمي الداعي »وحدة الاردنيين من شتى المنابت والأصول«، ردود فعل حادة في الأوساط الأردنية. وفي شباط 1996، شكل عبد الكريم الكباريتي، حكومة ذات توجهات فلسطينوية واضحة، وبدأت، بالفعل، تشكل ثلاثيا سياسيا مع حزب العمل الاسرائيلي (الحاكم آنذاك) والسلطة الفلسطينية. وقد ساعدت حكومة الكباريتي على تطوير ودعم اتجاه سياسي وإعلامي بين فلسطينيي الأردن، يدعو، لأول مرة منذ 1970، الى المطالبة بالشراكة السياسية على أساس الولاء للنظام، ودعم العملية السلمية، والتنسيق مع السلطة الفلسطينية.وبالاستناد الى تحالفاتها الداخلية والخارجية هذه، بدأت حكومة الكباريتي حملة ضد الأوساط السياسية التقليدية وخاصة تلك المرتبطة بالعراق وضد التعبيرات الاردنية ووجهت ضربات أمنية للمعارضة البعثية واليسارية، ورعت تأسيس صحيفة يومية فلسطينوية هي »العرب اليوم«. وأخيرا تجرأت على المواجهة مع عشائر الجنوب، حين قررت، في آب 1996، رفع الدعم الحكومي عن القمح وأعلاف الماشية، ما أدى الى انتفاضة شعبية، وضعت حدا لحملة الكباريتي، ثم أدت الى إقالته.وفي ظل تحالف حكومة الدكتور عبد السلام المجالي مع حزب الليكود الحاكم، بالرغم من انهيار العملية السلمية على المسار الفلسطيني، وإصرارها (حكومة المجالي) على إلغاء هامش الحريات السياسية والصحافية، المكتسب منذ 1989، فقد عاد الاردنيون والفلسطينيون الى اكتشاف لغة مشتركة، والى التعاون، خصوصا في مجال الدفاع عن الحريات. وهذا الاتجاه الايجابي يحتاج الى حوارات معمقة وجدية لتطويره نحو إيجاد حل ديموقراطي ووطني لمشكلة التوطين في الأردن. ومن المفروغ منه، ان السعي وراء الإثارة بتصوير مشاهد رديئة من عروض صراع الديكة الأردني الفلسطيني، وبثها بالفضائيات، سيكون له آثار معاكسة.(*) كاتب وسياسي أردني.