عقب التوقيع على المعاهدة الأردنية الاسرائيلية (خريف 1994) كان رئيس الوزراء الاردني، الدكتور عبد السلام المجالي، يجادل منتقدي المعاهدة لتفريطها بالحقوق الأردنية والعربية، »وشرعنتها« التعاون الأردني الاسرائيلي في شتى المجالات، بالقول أن المعاهدة تلك، على رغم كل عيوبها، حققت للأردن مكسبا رئيسا هو »تكفين الوطن البديل«. وقد ظل الخطاب الرسمي يركز، في مواجهة كل نقد ناجع لمعاهدة وادي عربة، على هذا المكسب الرئيس بالذات. فمعاهدة وادي عربة، في هذا الخطاب، انتزعت »اعترافاً« اسرائيليا بالدولة الأردنية وحدودها، مكرسا في اتفاقية دولية، ووضعت حدا للمشروع الاسرائيلي الذي يحظى بتأييد فعلي في اوساط اميركية وفلسطينية، لإقامة الدولة الفلسطينية في الأردن. وكان يعزز هذا الوهم، الأجواء التفاؤلية التي سادت على المسار الفلسطيني في ظل حكومة حزب العمل ورئيسها رابين وخليفته بيريز. ومن المعروف ان حزب العمل لم يؤيد، علناً، في السابق إقامة دولة فلسطينية في الأردن او اعتبار الأردن دولة فلسطينية، كما هو مقرر في برنامج حزب الليكود.وفي محاولة لاستباق الأحداث، دعا الأمير الحسن، ولي العهد الأردني، بنيامين نتنياهو، رئيس حزب الليكود المعارض (آنذاك) إلى عمان، عشية الانتخابات الاسرائيلية الاخيرة (صيف 1996) ودعاه، من دون جدوى، الى العمل على حذف شعار »الأردن هو فلسطين« من برنامج الليكود. وكان نتنياهو قد ركز، في كتابه »مكان تحت الشمس«، على هذه الفكرة باعتبارها الأساس في رؤيته »للعملية السلمية« مع الفلسطينيين. وفي هذا الكتاب، يدعي نتنياهو ان الانكليز »تآمروا« على »الوطن القومي اليهودي« المنصوص عليه في وعد بلفور، وفي صك الانتداب على فلسطين، »وانتزعوا« منه ما مساحته 95 ألف كيلومتر من الأرض التي أنشأوا عليها إمارة شرق الأردن. وأنه، بذلك، تم، بالفعل، تقسيم فلسطين، وان العرب أخذوا القسم الأكبر، مما يجعل مطالبتهم بقسم آخر من »فلسطين الصغرى« »ظالما« بحق اليهود. وعلى هذا الأساس يتبنى حزب الليكود شعار »الأردن هو فلسطين«، ويلح نتنياهو، ووزيره آريل شارون، على رفض »اقامة دولتين فلسطينيتين الى الشرق من اسرائيل« مؤكدين، على رغم توقيع المعاهدة الأردنية الاسرائيلية، على اعتبارهما الأردن دولة فلسطينية.ولدى فوز الليكود بالانتخابات الاسرائيلية، وتشكيل حكومة يمينية برئاسة بنيامين نتنياهو، اختارت الدبلوماسية الأردنية، تكتيك التقرب من هذه الحكومة وملاطفتها وتعزيز التعاون معها، على رغم سياساتها المتعنتة التي أدت بها الى عزلة عربية ودولية. وأملت الدبلوماسية الاردنية، من وراء ذلك، وما زالت تأمل ان تستوعب البرنامج الليكودي وتقلبه لمصلحتها. فاذا كان هذا البرنامج يقوم على الحيلولة دون اقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وغزة، ويرمي إلى الربط بين كانتونات الحكم الذاتي والأردن في كونفدرالية او فدرالية تكون هي الدولة الفلسطينية العتيدة القادرة على استيعاب الشتات الفلسطيني واقتصاده ومشروعه السياسي، فلم لا تكون هذه الفدرالية او الكونفدرالية تحت سلطة النظام الأردني؟ وهو ما يعني توظيف مشروع الوطن البديل الليكودي لاستعادة صيغة معدلة مما كانت عليه الحال قبل حزيران 1967. وتحاول الحكومة الأردنية ان تؤلف تيارا فلسطينيا لهذه الصيغة. وهي تراهن على محمود عباس (ابو مازن) الذي بلور مشروعا فدراليا ناقشه قبل شهرين مع المسؤولين الاردنيين، ويقوم على السيناريو الآتي: يموت أبو عمار أو يصبح غير قادر على القيام بمهامه. وعلى خلفية اشتباكات بين القوى الفلسطينية، يبادر المجلس التشريعي الفلسطيني والبرلمان الأردني الى عقد اجتماع مشترك، وإعلان اتحاد فدرالي بين المملكة الأردنية الهاشمية والسلطة الوطنية الفلسطينية، وذلك بالاستناد الى معاهدة وادي عربة واتفاقية اوسلو. وهناك تفصيلات عدة في مشروع أبو مازن، نشرت مقتطفات موسعة منها صحيفة »المجد« الاسبوعية الأردنية، وهي تؤكد على استقلال كل من الكيانين داخليا، وتحويل مهمات التمثيل الدبلوماسي، والتفاوض مع الاسرائيليين، والدفاع والأمن، الى الحكومة الفدرالية. وهو ما يحافظ على مصالح كل من الاسرائيليين الذين يرفضون إقامة دولة فلسطينية مستقلة عن الأرض الفلسطينية، ومراكز النفوذ في سلطة الحكم الذاتي، الحريصة على مكاسبها السياسية والاقتصادية تحديدا، والحكومة الأردنية الحريصة على إعادة انتاج دورها السياسي والأمني على الساحة الفلسطينية، خصوصا وان هذا المشروع سيحظى بموافقة »حماس« في فلسطين و»الاخوان المسلمين« في الأردن، مما يوفر له قاعدة »جماهيرية«.غير أن هنالك آخرين ينتظرون »موت« ياسر عرفات، أو يحضرون لاعتباره »عاجزا عن أداء مهماته«. ومن أبرز هؤلاء العقيد جبريل رجوب، رئيس جهاز الأمن الوقائي في الضفة الغربية. وتقول تقارير ترد تباعا إلى عمان، بأن الرجوب »الذي تثق به اسرائيل ثقتها بأنطوان لحد«. يحضر، بالفعل، للقيام بانقلاب عسكري، على الطريقة التونسية، ضد عرفات، فيعلن ان الأخير لم يعد قادرا على ممارسة مهماته، ويتولى السلطة بديلا منه، مع كل مظاهر التكريم، مثلما فعل زين العابدين بن علي مع الحبيب بورقيبة. وتقول التقارير ان الرجوب قد تفاهم تماما مع الدوائر الأمنية الاسرائيلية، وانه يحشد المناصرين، ويخزن السلاح والأعتدة بكميات كبيرة، في انتظار »الضوء الأخضر«. وتضيف التقارير أن الرجوب سوف يستخدم »واجهة سياسية« لتنفيذ انقلابه، اذا كان تربعه مباشرة على سدة الرئاسة الفلسطينية غير ممكن وفقا للظروف. فهل يكون ابو مازن، او سياسي آخر على صلة بعمان، تلك »الواجهة السياسية«؟ إن ذلك لا يعود القرار فيه للرجوب، بل لإسرائيل التي لم تقرر بعد، في رأينا، كيف تستخدم هذه الورقة »الرابحة«،لا سيما وان هناك تطورا خطيرا في الحياة السياسية الاسرائيلية، كشف عنه حاييم رامون، الزعيم العمالي المعارض في الأيام الاخيرة من العام الماضي.فعلى هامش اللقاء الذي نظمته اليونان بين برلمانيين اسرائيليين وفلسطينيين في أثينا، واختتمت اعماله في 23/12/97، وربما من أجوائه، صرح رامون بأنه »صار يتفق مع قناعات رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير البنى التحتية آريل شارون بأنه لا مفر من تحول الأردن إلى دولة فلسطينية في غضون بضع سنوات«. وأوضح رامون بأن »ما لا يقل عن 70$ من سكان الأردن فلسطينيون (النسبة الحقيقية هي 50$) وان الملك حسين سيكون مضطرا إلى قبول فكرة إقامة اتحاد فيدرالي أو كونفدرالي تحت ضغوط فلسطينية واسرائيلية ودولية«. وهذا يعني ان سياسة الاسترضاء التي اتبعتها الحكومة الأردنية مع حكومة الليكود أدت، عمليا، الى نتائج معاكسة. فلم ينتقل الليكود الى تبني سياسات عمالية، بل ان حزب العمل يتجه الى الإعلان عن ان »الأردن هو فلسطين«، وان محاولات الحكومة الأردنية لقلب معادلة الكونفدرالية او الفدرالية لصالح صيغة ما قبل 1967، تكاد تنتهي الى الفشل. فالمطلوب، اسرائيليا، ليس قيام الأردن باستيعاب الحل النهائي للقضية الفلسطينية وهو ما تأمله الحكومة الأردنية وتسعى إليه لكن تحويل الأردن نفسه الى دولة فلسطينية. وهكذا تكون المعاهدة الأردنية الاسرائيلية مرحلة يتوطد فيها النفوذ الاسرائيلي في الأردن، وليس المرحلة النهائية للسياسة الاسرائيلية إزاء الأردن الذي ينبغي اولا، وقبل تحوله الى دولة فلسطينية، تسليمه الى قوى »موثوقة« من سوية انطوان لحد وجبريل الرجوب.المواطن الأردني لا يعرف حاييم رامون، ولكنه يعرف بنيامين نتنياهو وآريل شارون، وهما صديقان عزيزان للمسؤولين الأردنيين، ويظهران دائما على شاشة التلفزيون الأردني في مشاهد من زيارات ودية إلى عمان او العقبة او في نشاطات وتصريحات يحرص الإعلام الرسمي على تأطيرها ايجابيا. والمهم الآن أن حاييم رامون، العمالي المعارض، ونتنياهو وشارون، الليكوديين، انتهيا إلى حالة من »الاجماع الوطني« على ان »الأردن هو فلسطين« وعلى ان الفدرالية او الكونفدرالية بين الأردن وتلك الاجزاء من الضفة الغربية التي ستوافق اسرائيل على الانسحاب منها، هي الوسيلة الملائمة لإقامة دولة فلسطينية في الأردن. وهذا، بالطبع، يستوجب الادعاء الكاذب بأن 70$ من سكان الأردن فلسطينيون، مما يسهّل بالفعل تحقيق هذه النسبة وربما أكبر منها، وذلك بتحويل الأردن الى مَهْجر عام للفلسطينيين سواء من الضفة الغربية وغزة حيث تسوء الأحوال اكثر فأكثر او من سوريا ولبنان في إطار حل على المسار السوري اللبناني وبالتالي حل المشكل الديمغرافي والاقتصادي (حاجة البورجوازية الفلسطينية الى مركز »وطني«) الفلسطيني في إطار حل المشكل السياسي الفلسطيني في دولة تتربع على أرض الأردن، يحكمها موالون لإسرائيل، ويعتبرها الاسلاميون »أرضا للحشد والرباط«!لقد أصبحت السياسة الاسرائيلية تجاه الأردن، كيانا وشعبا وهوية، سياسة مهابدة صريحة، وليس لها معارضون في إسرائيل. وليس بدون دلالة ان يصرح حاييم رامون بموافقته على شعار حزب الليكود بأن »الأردن هو فلسطين«.على هامش حواراته مع برلمانيين فلسطينيين. فإقامة الدولة الفلسطينية في الأردن، بوصفها عملية وهدفا، تتطابق مع مصالح الاسرائيليين في التصفية النهائية للقضية الفلسطينية، ومع مصالح المشروع الكمبرادوري الفلسطيني في إقامة نظام فلسطيني يستند الى مقومات دولة فعلية غير متاحة في كانتونات الحكم الذاتي المحدود. وهناك اتجاه قوي في مراكز صنع السياسة الاميركية، يدعم هذا الاتجاه. ويحاول الملك حسين في جولاته الأميركية المستمرة، ان يخلق تأثيرا معاكسا، وان يكسب، لمصلحة نظامه، تأييد الأوساط الأميركية لا سيما اليهودية منها. وهو، لذلك، يظهر المزيد من حسن النوايا إزاء واشنطن، ويلحّ على الصحافة المحلية ان تكف عن منهجها المعادي للولايات المتحدة، تمسكا بالتحالف الأميركي الأردني باعتباره طوق نجاة.وتقترح أوساط الحركة الوطنية الأردنية، بالمقابل، انتهاج سياسات اخرى، لمواجهة مشروع الوطن البديل. ويقول بيان يجري جمع تواقيع المواطنين عليه: »فليعترف المسؤولون الأردنيون بأن نهج الاستخذاء امام تل ابيب، ومحاولة شراء رضاها بأي ثمن، هو نهج عقيم لن يؤدي سوى إلى المزيد من استهانة الاسرائيليين بالأردن، دولة وكيانا وشعبا« ويتابع البيان قائلا: »ان المزيد من التنازلات لاسرائيل، والتنسيق معها في كل المجالات بما فيها العسكرية، والقطيعة بالمقابل، مع العرب، بل والمشاركة في المناورات التركية الاسرائيلية الموجهة ضد سوريا والعراق، كل ذلك سيجعل الأردن اكثر ضعفا في مواجهة مشروع الوطن البديل«.وطالب البيان الحكومة الأردنية ب»تعليق المعاهدة الاردنية الاسرائيلية وربطها بمجمل عملية السلام بما في ذلك اقامة الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة على الأرض الفلسطينية بما لا يقل عن حدود 4 حزيران 1967، والانسحاب الاسرائيلي من الأراضي اللبنانية والسورية، وعودة جميع اللاجئين والنازحين الى أرض وطنهم فلسطين«. كما طالب البيان الحكومة الأردنية، بالاعلان الصريح عن رفض كل صيغة فدرالية او كونفدرالية للعلاقة مع الكيان الفلسطيني، ووقف التدخل في الشأن الفلسطيني أو الادعاء بحقوق أردنية في القدس، ودسترة فك الارتباط مع الضفة الغربية وتعديل قانون الجنسية الأردني بحيث تعود تابعية اللاجئين والنازحين الفلسطينيين في الأردن إلى السلطة الوطنية الفلسطينية.