نهاية قريبة لمحميّة كردستان الأميركيّة في العراق؟

*
أبلغت سلطات الاحتلال الأميركي المعنيّة، مزوّدين يعملون لحسابها في الأردن، بأنّها قرّرت عدم تجديد عقود التزويد في كلّ المجالات لقوّاتها العاملة في شمال العراق. ولم يتمكّن هؤلاء من معرفة ما إذا كانت تلك العقود سوف تنتقل إلى مزوّدين أكراد أو إلى آخرين، لكنّهم توصّلوا إلى إشارات غامضة تشير إلى عزم المحتلّين الأميركيين على الانسحاب من كردستان قريباً.
وسيكون علينا أن ننتظر بعض الوقت لكي نعرف ما الذي يخبّئه الأميركيّون لمستقبل محميتهم الكردية. إلّا أنّنا نستطيع أن نلاحظ أنّ واشنطن تجد نفسها بين شقّي رحى تحالفين متعارضين: مع أكراد العراق ومع تركيا.
والحماوة السياسية التركية باتجاه شمال العراق ليست ناجمة عن، ولا موجّهة إلى حزب العمّال الكردستاني التركي، إلّا بوصفه ذريعة. أساس التهديد بالنسبة إلى أنقرة هو في أنّ انفصال كردستان العراق في دويلة (محمية أميركية)، سوف يفتح وجودها، بحدّ ذاته، شهيّة الأكراد الأتراك على الانفصال، سواء تحت راية «العمّال» أو أي تنظيم سواه.
لذلك، فإن أية ترتيبات أمنية بين أنقرة و«الكيان» الكردي، أو بينهما وبين بغداد أو واشنطن، بوجه «المنظّمة الإرهابية» على الحدود، سوف تنتهي إلى الفشل الحتمي. فالمشكلة في أساسها سياسية، لا أمنية. وملخّصها أنّه من غير الممكن تأمين قيام واستمرار كيان كردي في العراق من دون أن يثير ذلك التطلعات الكردية الانفصالية في تركيا وإيران وسوريا. ولا يمكن، بطبيعة الحال، الحيلولة دون أن تكون كردستان العراق ملاذاً آمناً للحركات الكردية الانفصالية في البلدان المجاورة.
وقد تبلور لدى الأتراك أخيراً قرار بالقيام بعمل حاسم ضدّ محمية كردستان العراق، جرى تأجيله تحت الضغوط الأميركية القوية، ولكن المؤقتة حتماً. فقدرة الأميركيّين على الضغط تتضاءل مع تنامي فشلهم في إدارة الحرب. وفي الوقت نفسه، يهدّد تنامي الميول الانفصالية ـــــ والتوسعية ـــــ الكردية في العراق النزعة نفسها على المستوى الإقليمي. وسوف يصبح هذا الخطر جدّياً، إذا تمكّن عدوان أميركي على إيران من إضعاف حكومتها المركزية، ما يقود إلى إثارة وتعزيز الانفصالية الكردية في هذا البلد، وتحوّلها، مثلما حدث بُعيد عدوان 1991 على العراق، قضية دولية. سوريا أيضاً معرّضة للمصير ذاته. فهل ستبقى تركيا في مأمن؟
إنّنا أمام وضع معقَّد، يأخذ الدولة التركية غصباً، من موقع التحالف مع واشنطن إلى موقع مضادّ، تجد أمنها القومي فيه منوطاً بالمقاومة العراقية ووحدة العراق واستقلاله، وبالتحالف مع سوريا وإيران. وسيكون على الأميركيّين في النهاية الاختيار بين أكرادهم العراقيّين وبين الاصطدام مع تركيا.
لكن، أليست إقطاعيّتا البرزاني والطالباني هما الحليف الرئيسي القوي الباقي للأميركيّين داخل العراق، وأحد عمودي «العملية السياسية» الأميركية في هذا البلد؟ نعم، كانا كذلك، لكنّ «العملية السياسية» نفسها قد انتهت. ويحضّر الأميركيون الآن لتسيير عملية سياسية جديدة من شأنها، كما سنرى، تهميش الدور الكردي في العراق.
تيارات المقاومة الإسلامية والبعثية في غرب العراق منخرطة الآن، إلى جانب عشائر «الصحوة» في مفاوضات مع الأميركيّين وحلفائهم العراقيين. وما تزال هذه المفاوضات في مرحلة غير رسمية من جسّ النبض والتعارف والتفاهم على الإطار العام، مثلما حدث في اللقاء الجماعي للقوى العراقية على شاطئ البحر الميت في الأردن (من 7 إلى 9 تشرين الثاني الجاري) تحت إشراف ريتشارد مورفي، وتحت عنوان «المصالحة الوطنية».
تنطلق السياسة الأميركية، قيد التبلور، من تصور «واقعي» يرى أنه لا يمكن بناء نظام مستقر يكفل المصالح الأمنية والنفطية في العراق من دون دور قيادي للعرب السنّة داخلياً، ومن دون دور أوروبي ـــــ فرنسي ـــــ خارجياً.
وتأمل واشنطن، بوساطة إعادة إحياء قوّة العرب السنّة، تحقيق جملة من الأهداف، أهمّها وقف المقاومة، وتأمين إطلاق عملية سياسية جديدة ناجعة، مدعومة من دول الاعتدال العربي وتركيا، والحدّ من قوّة الأحزاب الشيعية والنفوذ الإيراني. وسيكون بالإمكان في النهاية، حسب هذه السياسة، التوصل إلى بناء نظام عراقي قوي، يسمح بإنهاء حالة الحرب والانسحاب، مع الإبقاء على قواعد في إطار اتفاق أمني. ولضمان نجاح هذا الترتيب، لا مفر بالطبع من إتاحة الاستثمارات النفطية العراقية لشراكة القوى الدولية.
القوى العراقية بدورها منهكة، وتسعى إلى حلّ وسط :
ـــــ فقد استنزفت «القاعدة» على مدار أربع سنوات دموية، الشيعة ثم السنّة، وحالت دون وحدة أطراف المقاومة في البلد، وصبّت كلّ جهودها الوحشية على تمزيقه، والسيطرة السوداء، الرجعية والإرهابية، على مناطقه الغربية الشمالية، تحت راية دولة طالبانية يأنف منها الإسلام العراقي المتمدّن.
ـــــ في المقابل، استنزف إرهاب الملالي والاستخبارات الإيرانية، في وسط العراق وجنوبه، قوى المقاومة، غير المتبلورة سياسياً، في الشارع الشيعي.
ـــــ وبالنسبة إلى الأحزاب الشيعية المهيمنة الآن على العملية السياسية في العراق، فقد فهمت أنه لا أفق لانفصال «شيعستان»، ولا مناص لها من القبول بالشراكة، على أساس المناصفة مع الأحزاب السنّية، بما فيها البعث.
المناصفة؟ نعم! ذلك أنّه من المستحيل الآن تجاهل قوّة الشيعة والعودة إلى صيغة ما قبل الـ 2003، لكنّ الحلقة الضعيفة التي يمكن استبعادها هي الحلقة الكردية. لماذا ؟
أوّلاً، الانفصالية الكردية هي التي تضعف الكفّة السنّية في العراق، من حيث إنها تقسمها على أساس عربي ـــــ كردي، وتترك للعرب السنّة مناطق فقيرة لا تستوعب قوّتهم السياسية. وبينما لا يستطيع الأكراد تأمين الاستقرار خارج مناطقهم، ويتبين أن حصّتهم في العملية السياسية الاحتلالية هي أكبر من دورهم في العراق، فإنّ أطماعهم التوسّعية في كركوك من شأنها إشعال المزيد من الحرائق التي تجتذب التهديد التركي إلى دائرة النار.
كردستان التي لا شأن لها يُذكَر في مجريات السياسة العراقية، أصبحت عبئاً سوف يتخلّص منه الأميركيّون، وبأسرع ممّا يعتقد الجميع. يبدو أنّ الصيغة الأميركية الجديدة للحلّ في العراق سوف تُلحق الأكراد سياسياً بالعرب السنّة، ما سيعزّز قوّتهم في بنية النظام الجديد المأمول، ويؤهّلهم للمناصفة، ويحدّ من نفوذ إيران، وينهي في الوقت نفسه المداخلة التركية.
ثانياً، إلغاء «كردستان» سوف يؤدّي تلقائياً إلى تحجيم القوّة الشيعية، ويدفع بها إلى القبول بالمناصفة السنّية ـــــ الشيعية. وقد يرى فيها آل الحكيم بديلاً واقعياً عن «شيعستان»، بينما يعتقد الصدريون بأنهم الأجدر بها، ويبحث كلّ حزب شيعي عن حصته فيها. وهو ما حدا بالقوى الشيعية إلى الجلوس مع الأحزاب السنّية، بما فيها البعث، على مائدة مورفي التي كان على هامشها أيضاً، ممثّلو الزعيم الكردي البراغماتي، جلال الطالباني. فالأخير، الحسّاس لاتجاه الريح، مستعدّ للاندماج في اللعبة الجديدة، ولن يرفّ له جفن وهو يرى خصومه البرازانيّين يفرّون مرة أخرى إلى الجبال.
هل سينجح الأميركيون الآن؟
لا بدّ من الإقرار بأنّهم هذه المرّة يقترحون خطّة أكثر واقعية من خططهم السابقة. وقد أدت، حتى الآن، إلى نجاحات أمنية، بل وإلى ما يشبه الهدنة بين المقاومين والمحتلّين، وجمع الأطراف المتحاربة للتفاوض على إطار سياسي.
لكن بالطبع، تظلّ هناك المسألة الرئيسية، وهي أنّ كل القوى المنخرطة في تأسيس النظام الجديد، هي قوى قديمة، مذهبية، منهَكة، عاجزة عن تلبية المتطلّبات التاريخية لوحدة العراق وإعادة بنائه وتقدّمه. وهي متطلّبات لن تلبّيها سوى الثورة العراقية القادرة على تجاوز الانقسام الشيعي ـــــ السنّي جذرياً، وتحرير البلد، وتوحيده من الداخل، وإطلاق قوى المجتمع العراقي الإبداعية.
* كاتب وصحافي أردني

Posted in Uncategorized.