نسخة معدّلة من المبادرة العربيّة على مكتب أوباما

*
لم يكن المسؤولون الأردنيون بحاجة إلى النصيحة البريطانية لاستقبال فرصة صعود نجم الرئيس الأميركي باراك أوباما، وما ظهر من انتهاجه سياسة خارجية مبادرة تقوم على طلب التسويات. ومع ذلك جاءت تلك النصيحة في وقتها. وهي تقول إن على العرب تقديم رؤية جديدة، ومطالبات وتنازلات عملية وملموسة للرئيس أوباما بشأن الحل النهائي للصراع العربي ــــ الإسرائيلي، تساعد سيد البيت الأبيض القوي، والممتعض من قيام حكومة يمينية متطرفة في تل أبيب تهدد سياسته التصالحية نحو إيران على تحقيق اختراق سياسي في الشرق الأوسط. وسرّبت لندن إلى عمان معلوماتها التي تفيد بأن أوباما وحده، على الضد من أركان إدارته، هو الذي يطمح إلى ذلك الاختراق، بينما يخشى كبار مساعديه، وخصوصاً وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، من فشل دبلوماسي يُفقد الإدارة الديموقراطية وهجها وقدرتها على إدارة ملفّي العراق وأفغانستان.
تلك الرؤية الجديدة وضعها الملك عبد الله الثاني،في واشنطن، يوم الثلاثاء الماضي، على مكتب أوباما. وإذا كان حوار الرجلين سيظل طيّ الكتمان فترة لا نستطيع تقدير مداها منذ الآن، فإن ما يمكن تلمّسه من الأجواء السياسية والتسريبات يدل على أن اللقاء ذاك قد انتهى إلى درجة مقبولة من التفاهم على، أو للدقة، من التفهّم الأميركي لـ«إطار» جديد للحوار مع تل أبيب هو نسخة معدّلة مرتين من المبادرة العربية. عدلت أولاً في الورقة المشتركة، المرنة للغاية، الصادرة عن لجنة وزراء الخارجية العرب التي انعقدت في عمان في 9 نيسان / إبريل الماضي، وفوّضت الملك عبد الله نقل رسالة عربية إلى الرئيس أوباما. وعدلت ثانياً في التصوّر الأردني الخاص لحل نهائي فوري يقوم على تنازلات متبادلة في العمق، على المسار الفلسطيني، من شأنها أن تحرج الحكومة اليمينية الإسرائيلية، من دون أن تصطدم مع القوة الرئيسية في جبهة الممانعة، أي سوريا، المطلوب لها استعادة الجولان حتى حدود 4 حزيران، أو مع لبنان، المطلوب له استعادة ما بقي من أراضيه المحتلة وحل مشكلة معظم اللاجئين الفلسطينيين المقيمين فيه (وهو ما من شأنه أن يحيّد حزب الله)، بينما سيكون بإمكان «حماس» أن تنال الاعتراف بها طرفاً أساسياً أو حتى طرفاً بديلاً، حالما تستجيب للشروط «الدولية» المعروفة، التي نسبتها كلينتون، في أول تصريح لها بشأن الموضوع، إلى المبادرة العربية بالذات.
فكرة الإطار الجديد هي تفكيك المطالبات، ومن ثم الاستجابة إلى كل طرف على أساس أولوياته الخاصة. فحدود 4 حزيران 67 هي أولوية سورية، وينبغي الاستجابة لها، ولكنها ليست أولوية للسلطة الفلسطينية المعنية بقيام دولة مستقلة، ينبغي قيامها حتماً، حتى لو في حدود 67 معدّلة على أساس تبادل الأراضي.
وفيما رفض التوطين هو أولوية لبنانية، بالنظر إلى أن استيعاب اللاجئين الفلسطينيين (السنّة) وتجنيسهم يخل بالتوازنات الطائفية الحساسة في لبنان، فإن نظراءهم في الأردن (وهم يمثلون غالبية لاجئي الـ48 ونازحي الـ67) يتمتعون أصلاً بالجنسية الأردنية وحقوق المواطنة. وما يضغط على الأردن كأولوية هو ضرورة قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة، تمنع المزيد من الهجرات من غرب النهر إلى شرقه، وتخلق المناخ الملائم لاندماج الأردنيين من أصل فلسطيني، وهم الذين أصبحوا يمثّلون القاعدة الاجتماعية الأساسية للنظام السياسي الأردني وضمانة استقراره. في المقابل، فإن الأولويات الإسرائيلية، المقبولة من وجهة نظر إطار الحل الجديد، هي: 1ــــ طيّ ملف حق العودة إلى مناطق الـ48 نهائياً، لكن من دون الاعتراض على عودة قسم من اللاجئين في لبنان إلى أراضي الدولة الفلسطينية. 2ــــ ضمّ تجمعات الاستيطان الرئيسية، بما فيها مستوطنات القدس الشرقية. 3ــــ تحييد سوريا وفك ارتباطها مع إيران وقطع الدعم السياسي والتسليحي للمقاومة في فلسطين ولبنان. 4ــــ إقامة علاقات طبيعية بين إسرائيل والعالمين العربي والإسلامي.
وترى عمان أنه يمكن تركيب لوحة البازل هذه في صفقة سياسية شاملة وفورية، بدلاً من استهلاك الجهود والقوى في «عملية سلمية» مستمرة، اتضح أنها أرضية خصبة لاستمرار الصراع وانفجاره في صدامات حادة تُحرج النظام العربي، وتشلّ المعتدلين وتضعف صدقيتهم لحساب «المتطرفين» الذين حققوا مكاسب سياسية ملموسة من خلال التصدي للغطرسة والعدوانية الإسرائيلية في لبنان 2006 وفي غزة 2008. وفي النهاية، من شأن استمرار هذا الوضع إضعاف حلفاء الولايات المتحدة، وتهديد هيمنتها على المنطقة. وهذا ما يجعل تحقيق السلام فيها، على حد تعبير المبعوث الأميركي للشرق الأوسط، جورج ميتشل، «جزءاً من الأمن القومي» لبلاده. هذه القناعة الأميركية المستجدة، والآخذة بالتبلور كرؤية استراتيجية، أعطت مزيداً من الدفع للنسخة المعدلة من المبادرة العربية التي سيكون على إسرائيل، بغض النظر عن الاتجاه السياسي لحكومتها، أن تتعامل معها كمخرج وحيد من المأزق الوجودي الذي يعصف بها جراء انكسار قدرتها على الردع، وتنامي روح المقاومة العربية، وظهور قوتين إقليميتين منافستين هما إيران وتركيا، تتجهان بالضرورة إلى تعزيز تدخلهما في الصراع العربي ــــ الإسرائيلي بوصفه مجالاً أساسياً لمراكمة النفوذ. وكذلك، جراء اتساع دائرة الدول والقوى العالمية التي ترى في إسرائيل دولة عدوانية. وسيكون على تل أبيب إذاً، الاختيار، وفق ما قال الملك عبد الله الثاني الخميس الماضي، بين المزيد من التهديد الأمني والعزلة السياسية، وبين أمن مضمون بحل نهائي وعلاقات دبلوماسية وتطبيع كامل مع 57 دولة عربية وإسلامية.
ومن أجل تبديد المخاوف الأمنية الإسرائيلية والعربية، فعلى الولايات المتحدة أن تكون مستعدة لقيادة قوات دولية ترابط في أراضي الدولة الفلسطينية.
هكذا تكون جميع الأوراق قد وُضعت على مائدة اللعب. فالنظام العربي لم يعد يستطيع الانتظار أو التعايش مع حالة الصراع القائمة. وهو يستعجل صفقة كبرى تنهي الوضع القلق المتفاقم، خوفاً على استقراره بل مستقبله.
وتتطلع عمان، التي تقيم علاقات دبلوماسية وتطبيعية مع تل أبيب تعطيها وضع الوسيط، للخروج من حالة التهميش، والقيام بدور رئيسي في تلك الصفقة، مستخدمة ورقتين أساسيتين: الأولى مشتركة مع مصر، وهي الجوار الجغرافي لأراضي الدولة الفلسطينية، والثانية خاصة بها، وتتمثل في أن الأردن يضم النسبة الأكبر من اللاجئين الفلسطينيين. وهو يقدم نموذجاً مستقبلياً لتوطينهم، من حيث إن الأردن منح جنسيته للاجئين لديه، بما في ذلك كامل حقوق المواطنة والحقوق السياسية. وما بقي هو منح هؤلاء تعويضات مالية تؤهلهم للانخراط الجماعي في ازدهار اقتصادي سيُحدث تغييرات سياسية عميقة في نظرتهم السياسية للمستقبل، ويساعد على دمجهم السياسي. وستكون عمان مستعدة، في إطار الصفقة الشاملة، لإجراء تغييرات سياسية داخلية تسمح بزيادة التمثيل السياسي للاجئين في الدولة الأردنية. ومن المفروغ منه أن عمان تنتظر أيضاً دعماً اقتصادياً سخياً يمكّنها من إقناع المجتمع الأردني بدفع الفاتورة السياسية للحل النهائي، وهي، بالنسبة لأوساط الحكم، أقل كلفة من الفاتورة السياسية لعدم التوصل إلى ذلك الحل. وقد لوحظ أخيراً، ما يشبه السباق بين سياسيين أردنيين من مدرسة المحافظين، الرافضة تقليدياً للنهج التوطيني، إلى تقديم أنفسهم بصورة جديدة أو إعادة تأهيل خطابهم السياسي للحصول على أدوار في المرحلة الجديدة باستحقاقاتها الصعبة. ومن بين هؤلاء، برز، في الأسابيع الأخيرة، رئيس الوزراء الأسبق عبد الرؤوف الروابده، الذي كان قد بنى مكانته السياسية باعتباره «وطنياً أردنياً»، متخلياً عن صورته القديمة، ومجتهداً في تقديم صورة جديدة عن أفكاره السياسية تقوم على التنظير للتوطين السياسي النهائي ورفض وجود شخصية وطنية أردنية مستقلة، بل على حد تعبير الروابده «شرق أردنية وغرب أردنية».
لكنّ للروابده منافسين كثراً في صفوف النخبة السياسية التقليدية الأردنية، ممن هم مستعدون للعب دور بطل التوطين السياسي، من خلال مشروع تقسيم البلد إلى أقاليم بحكومات محلية، تكون إحداها للفلسطينيين، وإجراء تعديلات في النظام الانتخابي وتأليف الحكومات، تضمن قيام نظام محاصصة سياسية في البلاد.
* كاتب وصحافي أردني

Posted in Uncategorized.