دور عبادة بتمويل ومهارات محلية تكرّس طابعاً شعبيّا
يمثّل العمل الاستقصائي التحليلي الذي أنجزته عالمة الآثار، الدكتورة رنده قاقيش، إنجازاً علمياً هو الأول الذي كُتب في هذا المجال، من وجهة نظر أردنية عربية، لا من وجهة نظر استشراقية توراتية. واستنتاجاته التاريخية تكاد تتوافق مع الأطروحة النظرية المتعلقة بخصوصية البنية الأردنية التي تكرّست في الممالك القديمة ـــــ عمون ومؤاب وأدوم ـــــ وازدهرت في مرحلة مملكة الأنباط، واتّسعت في المرحلة البيزنطية والأموية.
والكتاب معنيّ بتلك المرحلة الأخيرة. وهو بحث آثاري في عمارة الكنائس خلالها، مخطّطاتها ومواد بنائها وتأثيثها وزخرفتها والأبنية الملحقة بها. وكذلك، دورها الاقتصادي والاجتماعي، وما ينعكس فيها من تأثيرات البنية المحلية الخاصة ونزوعاتها الثقافية في تلك المرحلة.
وأوّل ما يلفت الانتباه هنا، ظاهرة كثرة الكنائس في المرحلة المعنية. وهو ما يشير، أولاً، إلى التجذّر المبكر للمسيحية في الأردن. وثانياً، إلى الازدهار الاقتصادي والكثافة السكانية. وثالثاً، إلى انتشار المسيحية بين العشائر التي كانت كل منها تفضّل الصلاة في كنيسة خاصّة بها، ما يفسّر اجتماع عدّة كنائس صغيرة في أماكن متقاربة.
ومع ذلك التجزّؤ العشائري، أدّت المسيحية دوراً مهمّاً بوصفها ايديولوجية عروبية، وساهمت في تنظيم البنية الاجتماعية والثقافية المحلية. وقد ظهر التشدّد العروبي في شعر المسيحيين العرب الذين طبعوا المسيحية بثقافتهم القبلية. وتروي المؤلّفة شواهد تراثية عديدة عن الترابط الذي أحدثه العرب بين المسيحيّة وقيمهم في التغلّب والفخر، ومنها ما قاله «الزبرقان بن بدر التميمي» متفاخراً:
نحنُ الكرامُ ولا حيٌّ يعادلنا
منّا الملوكُ وفينا تُنصَب الِبيَعُ
والبيع هي الكنائس.
العشائر المسيحية الأردنية، شبه المندمجة في بنية سياسية، هي التي اجتذبت الفرع الأموي من قريش لإقامة علاقات خاصة متشعّبة في الأردن، وامتلاك الضياع على أرضه، وإنشاء التحالفات مع قواه. ولذلك، كان للأردن دور خاصّ في دعم ولاية معاوية على الشام، وفي تأسيس خلافة بني أمية، وتعضيدها، واحتضان ملوكها، والدفاع عنها حتى الرمق الأخير. ومن الملاحظ أن التركيبة الاجتماعية والسكانية الأردنية لم تشهد تغييراً يُذكَر في الحقبة الأموية، بل إنّ الأخيرة هي التي وسمت جوانب عديدة من هذه الحقبة بميسمها، وخصوصاً لجهة انتصار العصبية العربية العزيزة على قلوب العشائر الأردنية ــــــ المسيحية وقتذاك ــــــ بصفتها قاعدة الحكم الأموي.
لقد اكتشفت الباحثة أن عمارة كنائس الأردن لها سمات خاصّة بها عن سواها، من حيث تكرار أنماط البناء واستخدام مواد وطرائق البناء المحلية، ما يميزها عن الكنائس الإمبراطورية والإكليركية في الإقليم. فلقد شيّدت هذه الكنائس بتمويل محلي ومواد وقدرات ومهارات محلية، ما أعطاها طابعاً شعبياً. وعكست كنائس الأردن البيزنطية والأموية، ثقافة اجتماعية ودينية وسلوكية، محلية أيضاً، وفنوناً محلية، واحتياجات محلية. وهو ما يسجل حقيقتين بارزتين هما ـ 1ـ الطابع العربي الصرف للمسيحية الأردنية ـ 2ـ شبه الاستقلال المحلي الذي هو نتيجة للجغرافيا السياسية للأردن عبر العصور.
هل كان اكتشاف الجذور التاريخية للوطنية الأردنية، من خلال الشواهد الآثارية والوثائق التاريخية هدفاً مسبّقاً للمؤلفة؟ كلا. فهي دخلت إلى البحث وفي ذهنها تصورات قومية تخطيطية، لكن الشواهد والوثائق وأمانة البحث العلمي، هي التي قادتها إلى استنتاج الخصوصية المعمارية والفنية لكنائس الأردن البيزنطية والأموية، وبالتالي إلى استنتاج خصوصية البنية الأردنية في تلك الحقبة.
هذا الكتاب نموذج في البحث العلمي الملتزم، أكاديمياً ووطنياً. فليست وظيفة العلم مراكمة المعلومات فقط، لكن قراءتها أيضاً. ولا معنى للدراسات الآثارية إذا لم تكن تسعى إلى اكتشاف الجذور من أجل الحاضر والمستقبل.
* كاتب وصحافي أردني
العنوان الأصلي
عمارة الكنائس وملحقاتها في الأردن في العهدين البيزنطي والأموي
الكاتب:
رنده فؤاد قاقيش
الناشر
دار ورد ــــ عمان