عمّان و«حماس»: عودة إلى التفاهم الاستراتيجي؟

*
الخبر القصير المتسرّب عن «اللقاء الدافئ» بين مدير الاستخبارات الأردنية ،الفريق محمد الذهبي، والقيادي الحمساوي محمد نزال، هو على الأرجح مجرد إشارة لولادة سياق جديد للعلاقة بين الطرفين، تلك التي انتهت سنة 2000 إلى التباعد والعداء بعد عقد من التفاهم الاستراتيجي الذي جمع بين الطرفين في التسعينيات. كان الملك حسين، الذي عانى طويلاً من الأساليب الملتوية والغامضة للسياسات الفتحاوية، وما كان يعتقد أنه انعدام صدقية قياداتها، قد وجد في الحمساويّين المنبثقين من حزب أردني (الإخوان المسلمين) شريكاً موثوقاً غربي النهر.
كان عقد التسعينيات فترة ذهبية للحركة الإسلامية في عمان. وما يزال رئيس المكتب السياسي خالد مشعل يتذكر الرعاية الأبوية التي أحاطه بها الملك حسين بعد تعرضه لمحاولة اغتيال إسرائيلية في عمان عام 1997. لقد هدّد الملك حينها بإلغاء معاهدة السلام مع تل أبيب إذا لم ترسل الأخيرة العلاج الملائم للسمّ السري الذي حقن به الموساد الإسرائيلي مشعل. وقد حدّثني أطبّاء أردنيون أنهم استطاعوا تشخيص السم والبدء بمعالجة المصاب فعلاً. ولكن الملك كان غاضباً من الإسرائيليين وحريصاً على حياة رجل رأى فيه زعيماً فلسطينياً موثوقاً من المملكة المهجوسة بمشروع «الوطن البديل»، بينما يرى الكثير من الأردنيين أن هذا المشروع يمكن إفشاله فقط في حالة وجود شريك فلسطيني موثوق فعلاً.
في عهد الملك عبد الله الثاني، وتحت تأثير ضغوط واشنطن ووعودها بحل قريب ممكن للقضية الفلسطينية، وكذلك تحت ضغط الليبراليين الجدد للتعامل مع السلطة الفلسطينية كشريك، قطعت عمان علاقاتها الاستراتيجية مع «حماس». وقد ظهر مبكراً أن ذلك كان خطأً استراتيجياً. فمن زاوية الواقعية السياسية، يمكن إيراد الآتي: 1 ـ أثبتت «حماس»، في انتخابات نزيهة، بأنّها تمثّل أغلبية الشعب الفلسطيني، 2 ـ ثم أثبتت أنها منظمة متماسكة ومنضبطة سياسياً وأمنياً، 3ـ ثم برهنت على أنها القوة العسكرية الأقوى ميدانياً، وقد حسمت مسألة السلطة في غزة، ولا شيء يمنعها من حسم تلك المسألة في الضفة سوى الاحتلال الإسرائيلي، 4 ـ وكحكومة، تبيّن أن الحركة أكثر كفاءة في الإدارة، 5 ـ ثم إنّها أظهرت، وللمرة الأولى على المستوى الفلسطيني، القدرة على الالتزام بتعهداتها بوصفها «دولة» ممكنة، وهذا ما نلاحظه في صرامتها الحازمة بالنسبة إلى تنفيذ اتفاق التهدئة مع إسرائيل، 6 ـ على أن ذلك الاتفاق نفسه كان نتاج حقيقة العجز الإسرائيلي عن التعامل بالوسائل العسكرية مع منظمة لها قدرات عسكرية جدية، 7 ـ وهذا العجز يأتي في ظل تغيّر ملموس في موازين القوى بين تحالف سوريا وحزب الله و«حماس» من جهة، وبين إسرائيل من جهة أخرى، بعد الهزيمة الإسرائيلية أمام المقاومة اللبنانية في صيف 2006، 8 ـ واخيراً، فإن وعود «حل الدولتين» تبخّرت لمصلحة العودة مرة أخرى إلى مناقشة «الخيار الأردني».
من الناحية السياسية، للأردن مصلحة حيوية في التفاهم مع «حماس». فليس لدى هذه القوة الفلسطينية الرئيسية، بالأساس، صلات مع الأوساط الأميركية والإسرائيلية التي تقف خلف مشروع الوطن البديل. و«حماس» ما تزال قوة وطنية صاعدة متمسكة بالثوابت الفلسطينية وعلى رأسها حق العودة. وهو ما يجعل «الخيار الحمساوي» الأمل الأقوى في إفشال «الخيار الأردني» الذي يؤرق عمان فعلاً، ويخلق مزاجاً عاماً معادياً للولايات المتحدة في الأردن، يشارك فيه الملك عبد الله الثاني الذي يعبر في لقاءاته الضيقة مع سياسيين أردنيين عن غضبه من واشنطن وتل أبيب المخادعتين.
يلاحظ المعلّق الأردني المعروف فهد الخيطان أن الاستخبارات الأردنية تملأ حالياً «الفراغ السياسي في البلاد»، التي تشهد صراعاً محتدماً بين الليبراليين الجدد وخياراتهم الاقتصادية والسياسية، وبين المعارضة الوطنية. وهذه حقيقة يلمسها المراقب منذ نحو شهرين، ما يؤكد أن اللقاء بين مدير الاستخبارات و«حماس» ليس أمنياً، وإنما هو سياسي بامتياز، وخصوصاً أن الملف الفلسطيني جرى نقله كلياً إلى جهاز الاستخبارات.
ولعله من المفيد، بل من الضروري أن أعيد، هنا، التذكير بما قاله لي مشعل في الربيع الفائت:
«حماس هي الشريك الفلسطيني المؤهل سياسياً للعلاقة الاستراتيجية مع عمان وذلك للأسباب الآتية:
1ـ إنّ «حماس» نشأت من قلب الدولة الأردنية ولم تنشأ ضدّها.
2- ليس بين «حماس» والأردن ـــــ ولن يكون ـــــ صدام أمني أو سياسي، ولا تراث من التعادي. -3 تؤمن «حماس» ايماناً مطلقاً بالشرعية التاريخية للكيان الأردني وترفض المساس به، وتنطلق من قناعة راسخة بأن الأردن للأردنيين، وهي ترفض «الوطن البديل» وتدين تيارات «الحقوق المنقوصة»، فحقوق الفلسطينيين، أينما كانوا وتحت أي وضع كانوا، هي في فلسطين، وفقط في فلسطين، وتيار «الحقوق المنقوصة» هو تيار متأمرك في صفوف النخبة الأردنية، ينادي بالتوطين النهائي والمحاصصة بين «الطائفة» الأردنية و«الطائفة» الفلسطينية.
4 ـ «حماس» لم ولن تفكر بالقيام بأي عمل يسيء إلى الأمن الأردني. لا نتحدث، فقط، عن «أهداف أردنية» هي خارج أي تصور عدائي بالنسبة لنا، فهذا لا علاقة له بمشاعرنا ومبادئنا وسياساتنا، ولكننا نتحدث، أيضاً، عن أيّ أهداف اميركية أو حتى إسرائيلية في الأردن.
الأمن الوطني الأردني بالنسبة لـ«حماس» هو فوق كل الاعتبارات في علاقتنا مع الشقيق الأقرب والأحبّ، ونحن نتحلى بالمسؤولية الكاملة إزاء أمن الأردن وشعبه، ورفضنا ونرفض وسنرفض كل المحاولات اللامسؤولة لنقل الصراعات الفلسطينية ـــــ الفلسطينية إلى شرق النهر. 5 ـ كذلك ، لسنا جزءاً من محور ضدّ آخر. فقضيتنا هي فوق المحاور. وهي تتطلب أن يتحول العرب والمسلمون كلهم إلى محور واحد في مواجهة اسرائيل.
6 ـ «حماس» بدأت ـــــ وهي تعتز بذلك ـــــ في قلب «الإخوان المسلمين»، لكنها انتهت إلى كونها حركة فلسطينية مستقلة، وتنظيماً سياسياً.
و«حماس» ترتبط بالإخوان المسلمين الأردنيين بروابط عقائدية ووجدانية فقط. وهي لا تريد التأثير عليهم أو السيطرة على تنظيمهم. ونحن غير مسؤولين، يقول مشعل ـــــ عن السجال الداخلي أو عن محاولات الإفادة من وهج «حماس» الجماهيري، أو المخاوف المقابلة.
7 ـ بناء تنظيم فلسطيني خاص بـ«حماس» في الأردن غير وارد إطلاقاً، وهذا موقف استراتيجي بالنسبة لنا. فالفلسطينيون في الأردن يتمتعون بالجنسية الأردنية، وهم جزء من الشعب الأردني، وسيظلون كذلك حتى العودة إلى أرض الوطن. نحن نعتقد بأن إقدام أيّ منظمة فلسطينية على بناء تنظيم فلسطيني في الأردن هو جريمة بحق الوحدة الوطنية الأردنية، ونحن لن نقدم عليها حتماً. لن نشارك أبداً في تفسيخ وحدة النسيج الاجتماعي والسياسي الأردني، بل نحن حريصون ونناضل من أجل ردم الهوة وتأكيد وحدة الشعب الأردني وسيادته غير القابلة للتجزئة.
غير أن احترامنا الكامل لمواطنية الفلسطينيين في الأردن والسيادة الأردنية لا تعني أننا نقبل «التوطين». نحن نرفض التوطين والتعويض، ونؤكد على حق وممارسة العودة لكل اللاجئين والنازحين، ونعتبرهم ضيوفاً في البلدان التي يقيمون فيها. ولأنهم في الأردن أيضاً مواطنون، فنحن نحافظ على وحدة الشعب الأردني وسيادته ولا نسعى إلى بناء تنظيم يخرق هذه الوحدة وتلك السيادة. هذا هو فهمنا للمسألة، وانطلاقاً من هذا الفهم فنحن ندين دعاة «الحقوق المنقوصة والتوطين والوطن البديل».
تملك «حماس» منظوراً متكاملاً إزاء العلاقات مع عمّان: «نحن والأردن الآن في الخندق نفسه. ونرى أنه آن الآوان لكي ننسّق المواجهة». هكذا ختم خالد مشعل حديثه لي في دمشق ربيع 2007. وقد كان الظرف ناضجاً لتلقّي هذه الرسالة، إلا أنّ أوهام «حلّ الدولتين» كانت ما تزال تسيطر على أفق التفكير السياسي في عمّان.
* كاتب وصحافي أردني

Posted in Uncategorized.