*
ألف جندي إيراني وعلم الجمهورية الإسلامية في حقل الفكة النفطي العراقي، أعادا استحضار شرعيّة الحرب العراقية على إيران، بوصفها حرباً وطنية ضد نظام معتد وطامع وتوسعي. لن يفيد هنا، تكرار الأقوال بصدد جرائم الرئيس صدام حسين أو نظامه الدكتاتوري أو تحالفاته الغربية والخليجية. فقد تبيّن، بالملموس الفاقع الألوان، أن المؤسسة الحاكمة في إيران لا تنظر إلى العراق على أنه جار مسلم ورفيق في المذهب وشريك محتمل في مشروع تنموي وجبهة تحررية، بل تراه منافساً ينبغي إبقاؤه في حالة انعدام الوزن، ومنطقة للتوسع وآبار نفط للنهب.
فجأة، تنهار كل حجج حلفاء إيران العرب: إذ ما معنى أن يدعم الإيرانيون حزب الله أو حركة حماس ضد إسرائيل، بينما هم يقومون بممارسات إسرائيلية ضد العراق؟ وربما نمشي إلى آخر الافتراض القائل بالتحالف ـــــ الضروري ـــــ مع إيران في مواجهة التحالف الأميركي الإسرائيلي. فهل يكون العراق هو الثمن؟
وإذا كانت قوة إيران العسكرية الحالية تسمح لها بالتعامل مع العراقيين بمنطق الاحتلال وفرض الأمر الواقع، أفليس المزيد من تلك القوة هو مقدمة للتوسع الإيراني على حساب أرض الرافدين والخليج العربي؟ إذاً، لعلّه أصبح مشروعاً السؤال عن مستقبل المشرق العربي كله بين سندان النووي الإسرائيلي ومطرقة النووي الإيراني؟
ربما، كخيار وحيد أمامهم، سيواصل حلفاء إيران العرب تجاهل السياسات الإيرانية العدوانية نحو العراق، لكنهم بذلك يسقطون في وهاد أزمة الشرعية القاتلة. وبالنسبة لشخصيات ذات قيمة معنوية مثل السيد حسن نصر الله، فإنه سيواجه، لا بد، أزمة أخلاقية: كيف يصمت على الاحتلال واستلاب الحقوق؟ وهل يمكنه التشكيك، مثلاً، في شرعية انطلاق مقاومة عراقية ضد إيران؟
من البديهي أن أولئك الذين يدفنون رؤوسهم في الرمال الإيرانية، سوف يركّزون على كون احتلال حقل الفكة هو حادث حدودي ولا يثير سوى مشكلة إجرائية من النوع نفسه. وربما يكون تصغير الحدث إلى هذا المستوى ممكناً لو كان هنالك نظام معادٍ للإيرانيين يحكم في بغداد. لكننا بصدد نظام حليف متكوّن من ضمن عملية سياسية تسيطر عليها أحزاب شديدة القرب من طهران، سياسياً وأمنياً وتنظيمياً ومذهبياً. وهو ما يقود، منطقياً، إلى استنتاج مفاده أن الخلاف على بئر نفطي، بين بلدين جارين ونظامين حليفين، لا يُحلّ بالقوة بل بالتفاهم الأخوي. لكن المنطق القومي التوسعي يقود إلى شيء آخر.
تشيُّع النظام العراقي لم يشفع للعراق الذي أنهى للتو معركة المقاومة المسلحة مع الاحتلال الأميركي، ويتهيأ لانسحاب المحتلين وإعادة البناء في أفق علاقات مميزة مع إيران بالذات. إذاً، فمحقّ من يؤكد أن العداء الإيراني للعراق هو عداء استراتيجي للوطن والدولة والعروبة، وليس مجرد عداء للبعث ونظامه.
شهوة النفط أقوى من رايات الحسين. وإذا كان حقل الفكّة العراقي محدوداً في مخزونه، فعلى مقربة منه، بل وعلى مرمى المدفعية الإيرانية المتوسطة، يقع أكبر حقل نفطي في العالم، أعني حقل «مجنون» العراقي غير المستَغَل، والمُحال استغلاله أخيراً إلى شركة «شل» وحليفتها «بيتروناس» في سياق استثمارات دولية شبيهة. وعلى رغم كل الانتقادات الصحيحة التي يمكن مواجهة تلك الاستثمارات بها، من وجهة نظر المصالح الوطنية العراقية، فمن الواضح أن العراق يتهيأ لقفزة في المجال النفطي تمنحه وضعاً استراتيجياً في السوق العالمية.
هناك تساؤلات مطروحة إزاء استنكاف الأميركيين الغامض عن الاستثمار في النفط العراقي، الذي توزّعته شركات أوروبية وروسية وصينية وآسيوية. لكن، بالنسبة للإيرانيين، المستبعدين موضوعياً ـــــ بالنظر إلى عدم توافر الرساميل والقدرات الإنتاجية والتسويقية الخ ـــــ عن الكعكة المعروضة للشراكة الدولية، فإن مجرد إقدام العراقيين على تحريك ملفهم النفطي، عُدّ بمثابة تهديد للمصالح الإيرانية. فإذا بالردّ فوري، يستخدم القوة، ويلوّح باستخدامها. إن احتلال حقل الفكة هو رسالة واضحة: نحن شركاء رئيسيون في النفط العراقي! وخصوصاً في الحقول الكبرى المحاذية للحدود الإيرانية، والواقعة في محافظات الجنوب التي يعمل آل الحكيم على تنفيذ مشروع إيراني لفصلها في فيدرالية مستقلة على أساس مذهبي. وفي الواقع: على أساس نفطي.
على هذه الخلفية بالذات، يمكن قراءة الدوافع والاستهدافات الإيرانية حيال العراق، منذ عهد الشاه إلى عهد الجمهورية الإسلامية. ويظهر أن التناقضات بين البلدين الجارين ثابتة من المنظور الجيوسياسي، ولا تتبدل بتبدّل الأنظمة الحاكمة فيهما. فالدولة العراقية القوية والمزدهرة ـــــ وشرطها العروبة والعلمانية ـــــ تُحدّ، موضوعياً، من نفوذ الإمبراطورية الإيرانية التي تتوهّم أنه جاء وقتها منذ احتلال العراق. ومذّاك، طوّرت طهران سياسات معقّدة إزاء البلد الجار، من تقديم الدعم السياسي للغزو الأميركي وللعملية السياسية الاحتلالية ـــــ الطائفية، وفي الوقت نفسه دعم بعض فرق المقاومة، لكن مؤقتاً، وفي حدود التكتيكات الإيرانية اليومية. وبينما عملت على الشحن المذهبي وارتكاب الجرائم ضد العرب السنّة، أبقت الخطوط مفتوحة مع مجموعات في القاعدة والتنظيمات السلفية التي ارتكبت جرائم مذهبية بشعة مضادة. وفيما أقامت وموّلت ميليشيات سوداء أرهبت بالدرجة الأولى الجمهور الشيعي بقصد إخضاعه، لم تتوان عن مدّ يد العون لحكومات العملية السياسية لقمع تلك الميليشيات بالقوة. ووسط كل هذه الفوضى، نظّمت عمليات مطاردة واغتيال للكادرات العلمية والتقنية والعسكرية والسياسية والثقافية العراقية، ولسرقة النفط العراقي في الجنوب، وإغلاق المصادر المائية لشط العرب، ووضع كل الطاقات والضغوط الإيرانية وراء مشروعات التقسيم.
إننا إذاً أمام حالة كلاسيكية من استخدام الأيديولوجية الدينية والوسائل الاستخبارية والإرهاب والضغوط معاً، لتحقيق مكاسب توسعية.
لكن المشروع الإيراني في العراق انتهى، أو يكاد، إلى فشل يوازي ـــــ ويترافق مع ـــــ فشل المشروع الأميركي في هذا البلد العصيّ سوسه، والباطني، والمحتشد بالمفاجآت. إن العراق الذي يعدّ، في وجدانه التاريخي العميق، الأيام والساعات والدقائق لمغادرة الأميركيين أرضه، ومعاودة النهوض، يُفلت أيضاً، من أيدي حكام طهران، المرعوبين حتى من النزعة الاستقلالية الواهنة لحكومة نوري المالكي، ومن تدويل حكومته للملف النفطي العراقي، ومن الائتلاف السني ـــــ الشيعي المحدود في التحالف الانتخابي لعلاوي والمطلق، ومن أية إشارة إلى ولادة سياق يؤدي إلى استقرار العراق.
ولعلنا نرى المشهد كله بوضوح كامل حين نلاحظ تجديد المطالبة الإيرانية بتعويض قدره ألف مليار دولار عن خسائر حرب الخليج الأولى. ولا ريب أن هذا المبلغ الأسطوري غير القابل للتسديد، ليس مقصوداً لذاته، بل للتفاوض على انتزاع حقول نفطية عراقية في إطار تسوية. ومع مَن؟ مع عراقٍ يحكمه نظام شيعي حليف!
وليست مفارقة أبداً أن الرد العراقي الأقوى على التصعيد الإيراني في حقل الفكة، جاء من كربلاء المقدسة بالذات، في تظاهرات احتجاج شنّعت الأبواق الإيرانية عليها بأنها جرت بتشجيع ودعم السعوديين والبعثيين! حسناً! إذا كان هؤلاء قادرين على تسيير تظاهرات في كربلاء تحت عنوان معادٍ لطهران، فهذا أدعى للتفكير في المدى الذي وصلت إليه الجماهير العراقية الشيعية في حساسيتها وغضبها من العدوان والتوسع الإيرانيين. لكن الحقيقة البسيطة الواضحة هي أن الشيعة العراقيين هم عراقيون، ورايات الحسين لا تعني بالنسبة إليهم خيانة وطنهم وتسليمه للجمهورية الإسلامية، بل على العكس، إنها حافز وجداني للدفاع عنه. وهذا هو ما أعلنته عشائر جنوبية عراقية حين هددت باللجوء إلى المقاومة الشعبية المسلحة ضد الإيرانيين إذا ما بقيت الحكومة العراقية عاجزة عن التصدي للمعتدين.
هنا وهناك، غضب شيعة العراق يتصاعد ضد الإيرانيين، وهو عبّر عن نفسه في التحركات الشعبية والسياسية بمناسبة الاحتلال الإيراني لحقل الفكة. غير أن ذلك الغضب هو حصيلة سنوات مريرة من الاضطهاد والدماء في المحافظات الشيعية العراقية. وطالما أن هذه العملية التحررية من سيطرة طهران وميليشياتها قد بدأت، فسيتم لاحقاً الكشف عن حجم الجرائم الإيرانية المرتكبة بحق العراقيين، الشيعة منهم خصوصاً.
احتلال حقل الفكة هو رسالة واضحة: إيران شريك رئيسي في النفط العراقي
وبينما تقدم طهران على التصعيد العدواني مع العراق، ترسل رجالها إلى البلدان العربية لتحسين صورتها عند العرب، وترتيب علاقاتها في المنطقة، للحيلولة دون نشوء اصطفاف معادٍ لها يتقاطع مع التهديدات الأميركية والغربية بمحاصرتها وحتى ضربها! أهو تناقض داخل النظام الإيراني أم هي استهانة بالعرب الممزّقين، أم هو افتقار للرشد السياسي، أم أن الإيرانيين ينطلقون من أن العراق هو حديقتهم الخلفية التي يستطيعون القيام بما يرونه مناسباً فيها من دون أن يكون لذلك أية صلة بسياساتهم الإقليمية؟ ولا نستطيع ـــــ بسبب غموض الوضع على الجانبين وتعقيداته ـــــ أن نتوصل إلى إجابة قاطعة. لكن الاحتمالات كلها مطروحة كإطار متشابك لتحرّك عناصر التناقض والصراع والمواجهة بين الجارين اللدودين مرة أخرى.
لم تحرك القوات الأميركية، رغم تعهداتها التعاقدية مع العراق، ساكناً إزاء الاعتداء الإيراني على البئر 4 في حقل الفكة، بل اعتبر الأميركيون الحقل «متنازعاً عليه بين البلدين». وهو ما يثير دهشة لا يبددها إلا أحد احتمالين: صفقة تحت الطاولة مع الأميركيين لاستدراك انفلات عراقي، أو استدراج واشنطن لجنون رجال «الإمبراطورية الإيرانية»، استدراجهم إلى فخ هزيمة ثانية على أيدي العراقيين. فهل يفسّر ذلك استنكاف الشركات الأميركية عن المنافسة النفطية في منطقة حرب مقبلة، محلية ودامية وطويلة؟
* كاتب أردني