لا تخرج المبادرة الروسية، في المضمون، عن الثوابت السورية (أ ف ب)
في دوائر صنع القرار في سوريا، هناك تقدير حسّي أن العدوان المستمر، منذ 2011، قد هُزم. وترسم دمشق خطوطها السياسية الحمر من موقع المنتصر. ووسط الثرثرات عن انهيار النظام ورحيل الأسد الخ، تحدث المفاجآت التي تبرهن، فعلاً، على صحة التقدير السوري للجانب الذي ربح هذه الحرب
ما يحدث، في النهاية، أن ينحسر غبار القتال والجدال والضباب، عن واقع دولي وإقليمي يدور حول الثوابت السورية؛ وسقفها الآتي:
(1) شرعية الرئيس بشار الأسد، حتى نهاية ولايته، وحقه في الترشح لولاية ثانية، (2) عدم المساس بالنظام الرئاسي وصلاحيات الرئيس في مجالات السياسة الخارجية والأمن والدفاع، (3) حكومة موسعة تشمل ممثلين عن قوى اجتماعية وسياسية جديدة ومعارضة وطنية، (4) انتخابات برلمانية وفق معايير المشاركة السياسية التعددية، وبرقابة دولية، (5) المصالحات المحلية والعفو والمشاركة في إعادة الإعمار.
السعودية تعتذر
هذا هو السقف، ولا سواه. تتبناه موسكو وطهران، وتقبل به الولايات المتحدة، ولا أحد يعترض عليه جدياً. فالمبادرة السعودية، التي تحمّل «العهد السابق» مسؤولية التدخل في سوريا، تتعلق بسحب القوات الإيرانية ومقاتلي حزب الله من سوريا. وقد ردّ الرئيس الأسد على هذين المطلبين علناً: إيران دولة شقيقة، ولكن ليس لها قوات في سوريا، أما حزب الله، فهو شأن داخلي.
سوف ينتظر المسار السعودي ــ المفتوح، رغم التصعيد السياسي والأمني ـ حصول تطورات خارجية وداخلية، أهمها التوافق على مظلة ثنائية أميركية ــ روسية تهدئ الإيرانيو ــ فوبيا لدى الرياض، ومخرج «متوازن» من حرب اليمن، وحسم الصراع الخفي المكشوف بين ولي ولي العهد، محمد بن سلمان، وولي العهد محمد بن نايف، على وراثة العرش السعودي. لكن التفاعلات قد يتسارع إيقاعها عبر القناة العُمانية؛ فمسقط تكرر، الآن، الدور الايجابي في تدوير الزوايا، والتوصل إلى تفاهمات أميركية ــ إيرانية حول الملف النووي.
تتعامل السياسة السورية مع المبادرات المطروحة بعقلية إدارة الموارد والعمليات؛ أي إنها، بينما تتشدد في تأكيد ثوابتها مع الأعداء والأصدقاء معاً، فهي تتفاعل مع كل مبادرة أو اقتراح، وتلبي طلبات الجلوس على مائدة الحوار والتفاوض، وتغض النظر عن مناورات حلفائها، السياسية التي تعبّر عن جهود دبلوماسية متنوعة، ودبلوماسيين قد يعطون انطباعات لا تتقيد بالثوابت السورية، لكنها تدرك، في النهاية، أن موقعها المركزي في العالم الجديد الذي تسعى اليه روسيا والصين وإيران، وصلابة حضورها على الأرض، يمنحانها القدرة على قول الكلمة الأخيرة.
المبادرة الروسية
لا تخرج المبادرة الروسية، في المضمون، عن الثوابت السورية. لكن حركة الدبلوماسية الروسية تركز على الأولوية المطلقة لمكافحة الإرهاب والحفاظ على الدولة السورية ومؤسساتها وجيشها. وقد حققت موسكو، في هذا السياق، تفاهمات جدية مع واشنطن والسعودية وقوى المعارضة السورية. في الأثناء، يصغي الدبلوماسي الروسي لـ«أفكار»، هنا وهناك، حول صلاحيات الرئيس أو تقصير ولايته الخ. وعندها تبدأ الأوهام والتسريبات، وتنتفخ أوداج بعض السذّج في تصريحات تلفزيونية مضحكة أو حتى وقحة، ثم تصدم موسكو، الجميع، بالتزامها الحرفي بالثوابت السورية، وتسليح الجيش السوري.
الدولة السورية تحولت من هدف إلى كونها ضرورة لا غنى عنها
العلاقات الروسية ــ السورية تحدث على مستويين؛ أحدهما إجرائي يومي دبلوماسي يجري بين وزارتي الخارجية، وثانيهما استراتيجي، يجري، حصرياً، بين الرئيسين بشار الأسد وفلاديمير بوتين. وعدم فهم هذا التشبيك المعقد للعلاقات الثنائية، هو الذي أوقع معارضين معروفين في فخاخ الأوهام.
في العمق، وبسبب تدهور نوعية النخبة السياسية السورية المعارضة، تعاملهم الخارجية الروسية كظاهرة، وليس كقوى سياسية. في الأخير، ما تريده موسكو هو توحيد شتات المعارضة في وفد يمكنه أن يتفاوض على المشاركة في حكومة الوحدة الوطنية، لكن دمشق، تُعدّ، أيضاً، ممثلي قوى اجتماعية وطنية من حساسيات جديدة، لكي تشارك في الحكومة الموسعة؛ هؤلاء من الذين صمدوا في البلد، ومن المؤلفة قلوبهم، سيكون لهم مكان في الحكومة وعمليات إعادة البناء.
المبادرة الإيرانية
هل يوجد مبادرة إيرانية؟ نعم ولا. نعم، لأن طهران تريد أن يكون لها دور في التسوية السورية، ودمشق ترحّب بهذا الدور، وترحّب أكثر بالتنسيق الروسي ــ الإيراني، الذي تم إنجازه فعلاً. لكن، من جهة أخرى، فإن المبادرة الايرانية ليست سوى ورقة بيضاء موضوعة على طاولة السوريين، لكتابة ما يشاؤون عليها. أما في ما يتصل بالبنود المسرّبة من جهات إيرانية إلى الإعلام، فهي لم تقدم إلى الجانب السوري أصلاً، وكان البند الأخطر فيها، المتعلق بإعادة كتابة الدستور السوري على أساس طائفي واثني، مناورة من مركز ما، في النظام الإيراني، تحقق غرضين معاً؛ مغازلة واشنطن والرياض، والعتب على موسكو ــ دمشق، بسبب ما تعتقده استبعاداً لدورها في الاتصالات مع السعودية.
سحابة صيف انتهت بلقاء لافروف ــ ظريف في موسكو، الاثنين المنصرم؛ الإيرانيون أعادوا التزامهم بالثوابت السورية، وأعلن الروس عن شراكة استراتيجية مع إيران، في المشروعات النووية والتنموية والدفاع والتسويات في كل من سوريا والعراق واليمن. ويشكل هذا التوافق مفصلاً رئيسياً في السياسة الإيرانية والاقليمية والدولية؛ على المستوى الداخلي يشير هذا التوافق إلى قيام تحالف بين التيار المحافظ المتمسك بقيم الثورة الاسلامية، والتيار المحافظ المتجه إلى التعاون الاقتصادي والسياسي الدولي على أساس الشراكة مع روسيا والصين بدلا من الغرب، والتيار التكنوقراطي المرتاح إلى التعاون العملي مع الروس، مما لا يرتب عليه مشكلات سياسية أو اتهامات بالميول الغربية.
من حافظ الأسد إلى بشار: استراتيجية النصر
تدير سوريا، منذ الرئيس الراحل حافظ الأسد، معاركها، العسكرية والسياسية، وفق استراتيجية معقدة. وبينما يسود الشعور، أحياناً، أن الدولة السورية تتراجع، تكون، في الواقع، تراكم إنجازات كمية، تتحول، بصورة مفاجئة، إلى اختراق نوعي؛ ألم يحدث أن صعقت مفاجأة الاتصالات السورية ــ السعودية الأوساط السياسية الإقليمية والهمروجات الاعلامية والتقارير «المحسوبة رصينة» حول «إنهاك» الجيش السوري، وتداعي قدرات النظام؟ ألم يكن مفاجئاً ــ وسط مئات التحليلات و«المعلومات» حول حصول تغيير سلبي في الموقفين، الروسي والايراني، من رئاسة الأسد ــ أن يعلن وزيرا الخارجية، لافروف وظريف، معاً، أن الأسد خط أحمر؟
الفارق النوعي الأساسي بين خسائر الجيش السوري ومكتسباته في معارك هذا العام، أن سقوط إدلب وجسر الشغور وتدمر، لا يمكن ترجمته سياسياً، ما دامت هذه الأخيرة قد سقطت في أيدي تنظيمات إرهابية، هناك توافق دولي على محاربتها، بينما النجاحات التي حققها الجيش والمقاومة، في القلمون وصولاً إلى تحرير الزبداني، وخصوصاً صدّ 15 هجوماً شرساً في درعا وحضر ومطار الثعلة وتحصين جبل العرب، كلها تنصرف في السياسة، أولاً، لجهة إفشال خطط غرفة عمليات «الموك» في عمان، في إنشاء منطقة آمنة تحت سيطرة تنظيمات «معتدلة»، يمكن تسويقها، دولياً، كقوى مدنية وعشائرية محلية معارضة، وثانياً لجهة إفشال انشقاق محافظة السويداء، ذات الأهمية الميدانية والسياسية والمعنوية.
وإذا كان هناك تفاهم دولي وإقليمي على أولوية محاربة التنظيمات التكفيرية الإرهابية في سوريا، فإن أساس ذلك التفاهم لا يكمن فقط في تصاعد خطر «داعش» على دول المنطقة بأسرها، ولا في رفض «النصرة» إعادة تأهيلها بالانفصال عن «القاعدة»، بل يكمن، بصفة رئيسية، في ما انتزعه الجيش السوري من اعتراف بقدراته باعتباره القوة الرئيسية في المنطقة، القادرة على مواجهة الإرهاب.
سدّد الجيش السوري أقوى ضرباته حيث يوجد إرهابيون يمكن للغرب الاعتراف بهم، وواصل القتال ضد الإرهابيين الذين جرى التوافق على اعتبارهم هدفاً مشتركاً للمجتمع الاقليمي والدولي.
تستطيع دمشق، دائماً، أن تستخدم، بحصافة، قدراتها، مهما تراجعت، بحيث تضاعفها عدة مرات. وعلى رغم ما شهدته الحرب الدفاعية التي تخوضها سوريا منذ ما يقرب من خمس سنوات من ثغرات وأخطاء تكتيكية، فإن المحصلة النهائية تمثلت في التوصل إلى السيطرة الميدانية والسياسية والإدارية على الأجزاء المسكونة المتواصلة في سوريا، وتطبيع الحياة في العاصمة، وإدارة انتخابات رئاسية ذات صدقية، وتأمين حصن متين للحراك السياسي والعسكري في أنحاء الجمهورية.
باستثناء الرئيس التركي المأزوم، رجب أردوغان، لم يعد أحد يطرح هدف تغيير النظام في سوريا؛ الدولة السورية، بأجهزتها ومؤسساتها وقواتها المسلحة، تحولت من كونها هدفاً لتحالف دولي إقليمي غير مسبوق في قدراته السياسية والاعلامية والمالية والإرهابية، إلى كونها ضرورة لا غنى عنها لاستقرار الشرق الأوسط، بينما أدرك السوريون، من قبل، أنها ضرورة وجود وحياة للشعب السوري.