يتسارع التصعيد المعادي في سوريا؛ فتحت غبار العدوان على غزة، كثّف صانعو التهدئة فيها، تزويد عصابات الموت بالأوامر والأسلحة والصواريخ والمنظومات الإلكترونية والمقاتلين. وظهرت النتائج، سريعاً، في تفجيرات اجرامية غير مسبوقة ضد المدنيين، وخصوصاً في جرمانا، وإسقاط الطائرات والسيطرة على القواعد التابعة للجيش العربي السوري، وضرب كيبل الانترنت، وحتى اختراق محيط مطار دمشق. لقد وصلنا إلى الأسوأ: تجديد معركة العاصمة.
ذلك ما كنتُ أخشاه خلال الهوَس السياسي ـ الإعلامي لمعسكر المقاومة في فبركة نصر غزة، فبركة انطوت على مذلّة الحبّ من طرف واحد مع حماس التي «فركت»*، بما في ذلك القَبول بلفتة رضا وأمل، رغم «الخلاف في الملف السوري»!
واه..أبعدَ الخلاف على سوريا، خلافٌ؟ إنها، اليوم، القضية المركزية للمقاومين والعروبيين والتقدميين. وكلُّ ما سواها تفاصيل وجزئيات؛ فالمعركة في سوريا هي المعركة على الاتجاه الاستراتيجيّ للشرق الأوسط في المرحلة المقبلة. وإذا حدث وسقطت سوريا، فلن يكون هنالك من معنى للانتصارات الفرعية التكتيكية في فلسطين أو لبنان؛ ذلك لأن الحلف المعادي سيكون قد حقق، عندها، انتصاره الكبير: روسيا، من دون سوريا، سوف ترتدّ إلى حدودها الإقليمية، وإيران ستخرج من العالم العربي وتتحوّل إلى مجرد «مشروع فارسي»، والعراق سيُعاد تدميره واخضاعه في حرب مذهبية واتنية ضروس، والأكراد سيخسرون فرصة التحرر والوحدة، وحزب الله سوف يتحول إلى مجرد قوة لبنانية محلية لا أفق لها سوى الخضوع أو الانخراط في اقتتال داخلي، وسوف ينتهي الفلسطينيون إلى أوسلو 2 ويسقط الأردن في براثن الوطن البديل. هذه اللوحة ليست تهويلا وضربا في الغيب، فملامحها تُرسَم منذ الآن، ويمكن كل ذي عينين أن يراها.
سوريا هي البوصلة، هي المعركة، بل أم المعارك. هذا ما رآه ـــ ويراه ـــ الأميركيون والإسرائيليون والإخوان المسلمون (محمد مرسي وخالد مشعل معاً) والقَطريون والأتراك. لذلك، فقد طووا خلافاتهم الجانبية، سريعا، في غزة، وتوصّلوا إلى تفاهم عميق على أولوية معركتهم الاستراتيجية مع دمشق، يبدأ من «نصر» ملغوم هللت له حتى «القوات اللبنانية» التي تتميّز ـــ على غبائها التكتيكي الناجم عن صغرها وتعجّلها ـــ بحدْس استراتيجي في رؤية النطاق الكامل لمغزى التحالفات بالنسبة إلى مشروعها السياسي القديم ـــ الجديد.
قلقي على سوريا إذاً، لا ينبع من انجازات حربية للعصابات؛ فالقدرات التي حشدها ويحشدها العدوّ أضخم مما يتصوّر أو يحصي الكثيرون، وأي انجازات ميدانية، للطرفين، تظلّ مؤقتة في حرب مفتوحة. إنما القلق على السياق الاستراتيجي للصراع، الذي اعتورته البلبلة، أخيرا، من جراء المساعي المحمومة لمعسكر المقاومة، لإعادة تأهيل حماس، بأيّ ثمن ـــ حتى لو كان عزل سوريا وقبول أن الخلاف حولها جانبي ـــ عضوا في هذا المعسكر. هذه المساعي ـــ مثلها مثل مساعي التقرّب من «إخوان» مصر ـ لها مضمون سياسي هو الاستعداد للتخلّي عن معركة سوريا. وقد يكون، في هذا الاستعداد، محاولة لحفظ خط الرجعة في حال سقوط الحليف السوري، غير أنها، أولا، محاولة واهمة؛ فطريق الرجعة مقفل على المقاومين لدى الحلف المعادي، إلا أن يكون طريق الاستسلام، وهي، ثانيا، محاولة براغماتية تكتيكية مهزومة حتما؛ فالمقاومات تنتصر، فقط، في الخط المبدئي الاستراتيجي.
وفي هذا الخط، هناك تحوّل نوعي يصبّ في طاحونة معسكر المقاومة، يتمثّل في الانتفاضة الشعبية المصرية في مواجهة دكتاتورية الإخوان المسلمين؛ انتفاضة لها مضمون استراتيجي حاسم، لكونها (1) تكسر ـ بتحويلها الإسلام السياسي المصري من تسونامي إلى طرف دنيوي في صراع مفتوح ـ تراكم الانقسام المذهبي في المنطقة، (2) وتمنع «الإخوان» من وضع مصر وهيبتها وامكاناتها في خدمة المشروع الأميركي ـــ الخليجيّ.
التاريخ قاس جدا في ما يمنحه للقوى الفاعلة في دائرته من خيارات تناقضيّة؛ فالحليف الممكن «للجمهورية الإسلامية في إيران» و«المقاومة الإسلامية في لبنان»، لن تجده لدى قوى الإسلام السياسي، بل لدى القوى المدنية العلمانية ـ القومية واليسارية والوطنية ـ المتمثلة الآن، رئيسيا، في النظام السوري والمعارضة المصرية والحركة الوطنية الأردنية والمقاومين العلمانيين في فلسطين. وما يجمع كل هؤلاء، الصراع الوجودي مع «الإخوان» و«السلفية» بأنواعها. وهو صراع تاريخي لا يقبل التداخلات والالتباسات، ولا يترك لإيران وحزب الله، فرصة المناورة، اللهم إلا في طريق الخسارة.
× «فركت» بمعنى أدارت ظهرها ومضت إلى سواك بغير رجعة. يقول أبو الطيب المتنبي:
«وَإِنْ عَـشِـقَتْ كانَت أَشَدَّ صبابةً
وَإِنْ فَرِكَتْ فَاذهَب فَما فِرْكُها قَصدُ»
وهو يصف، ظالما، الطبع غير المبدئي للمرأة. إلا أننا وجدناه ينطبق على «حماس» التي فركت عن كنف معسكر المقاومة. ولم يعد فركها مما يقصده المقاومون.
حب من طرف واحد
Posted in Uncategorized.