بهدوء | نوام تشومسكي، مأساة التشوّش الليبرالي

نوام تشومسكي قامة علمية وثقافية وأخلاقية عالية، إلا أن آراءه حول الصراع الدائر حالياً في سوريا والمنطقة («الأخبار»، 15 حزيران 2013) لا تدلّ على معرفة عميقة باللوحة الصراعية القائمة، وجدلها التاريخي، كما أن بعضها يستند إلى كليشيهات فارغة من المعنى، مجترّة من الأدبيات الدعائية، الغربية والرجعية ـــ الثوروية العربية، ضد النظام السوري. فتشومسكي، انطلاقاً من نظرة ليبرالية مسطّحة، لا يرى، في ذلك النظام، سوى الدكتاتورية، بل ويكرّر الفكرة الخرقاء القائلة إنه، لذلك، مفضل لدى إسرائيل، ولا يلاحظ ما هو واضح من أن دكتاتورية النظام السوري موجّهة ضد العدو الإسرائيلي أولاً.
النظام السوري، تقليدياً، دكتاتوري، بالطبع، إزاء المعارضة السياسية. وهذا ما رفضناه ونرفضه. ولكننا، في المقابل، نؤيّد نزعاته الدكتاتورية ضد الرجعية والتعصّب الديني والمذهبي والطائفي والتكفيريين والإرهابيين، كما ضد النفوذ الأميركي والتوسّع الصهيوني، ونعمل من أجل تحوّلات اجتماعية سياسية في سوريا، تضمّن بناء الدكتاتورية فيها ضد النيوليبرالية والكمبرادورية والفساد.
وإذا كان تشومسكي يلاحظ، بحسّ تاريخي صائب، أن سايكس ـــ بيكو، تنهار ـــ وهي تنهار فعلاً ـــ فهو موقن، بسبب ضعف تبصّره بالتحولات الراهنة في موازين القوى الإقليمية والدولية، بأنها تنهار، بالضرورة، إلى ما هو دونها، أي إلى انحلال الدول الوطنية في المشرق إلى دويلات الطوائف والاتنيات. وهو الاتجاه الذي تسعى إليه الإمبريالية والصهيونية والرجعية. ولكن، مَن قال إن هذا المسعى سيحكم حركة التاريخ المشرقي التي تتوفّر على قوى وعناصر واتجاهات لإسقاط سايكس ـــ بيكو، وإنما بالاتجاه المعاكس.
أيّ المسارين سيتخذه خط سير التاريخ المشرقي؟ ليست الإجابة لدى الإمبرياليين والصهاينة والرجعيين بالضرورة، بل هي تتكون في أتون الصراع، في سوريا، بين الدولة القومية المدنية وحلفائها، من جهة، وبين الحركات التفكيكية التكفيرية المذهبية التي تتلقى الدعم من الولايات المتحدة الأميركية و تركيا والخليج. نحن نراهن، ونناضل من أجل سيناريو انتصار الجمهورية العربية السورية في مواجهة الغزوة الصهيوهابيّة. وبذلك الانتصار، سيكون لدينا، مهادٌ لائتلاف أهم دولتين في المشرق، سوريا والعراق ـــ اللتين سيمكنهما، في سياق صيغة وحدوية ما، التغلّب على انشقاقاتهما الداخلية. لا يقتصر أثر ذلك على تمتين أواصر مركز مشرقي لمحور المقاومة والتنمية، بل يمتد إلى خلق الظروف الملائمة لاجتذاب الأردن (الأرجح من خلال استعادة علاقاته التاريخية مع العراق). وفي هذا المسار نفسه، سيجد اللبنانيون والفلسطينيون، أن مصالحهم الكيانية ترتبط بنوع ما من الاندماج المشرقي.
في سياق كهذا، سيغدو اللوم الضمني للروس ـــ والإيرانيين ـــ بأنهم يزوّدون «الدكتاتورية» بالسلاح، بلا معنى من وجهة نظر المعسكر التقدمي في الصراع الدائر. كذلك، لا تغدو مشاركة حزب الله في القتال في سوريا، مجرد الخيار الأقل سوءاً بالنسبة إلى مصالحه، بل الخيار الضروري والجريء لدعم التحولات المشرقية نحو الاتحاد. لقد سقطت حدود سايكس ـــ بيكو فعلا بين لبنان وسوريا من خلال التداخل الحدودي والسياسي والديموغرافي والاقتصادي والثقافي والأمني بين البلدين اللذين بيّنت مفاعيل الصراع السوري أنهما يشكلان، في الواقع، مجالاً جيوسياسياً واحداً. وعلى هذه الأرضية بالذات، انخرط طرفا الصراع اللبناني في القتال في سوريا، كونهما يدركان بعمق أن مستقبل مشروعيهما السياسيين، يتوقف على مآل الحرب في البلد الجار.
الحرب في سوريا، تحوّلت، بالفعل، إلى حرب مشرقية، وتشق مجتمعات المشرق في صراعات محلية متعددة الأبعاد، ولكنها، جميعاً، تحيل إلى هواجس مشتركة ومتداخلة، ومنها مخاطر التشرذم الطائفي والمذهبي والاتني، وتوطّن الإرهاب، وتدمير التراث الحضاري وإلغاء التعددية الثقافية والسياسية ونمط الحياة المدني وتحطيم امكانات التنمية وشلّ آخر ما تبقى من حيوية الممانعة والمقاومة. ومن الواضح أن هذا المسار يقدم لإسرائيل خدمة العمر الاستراتيجية، ويمكنها من تنفيذ مشروع الدولة اليهودية وتجديد مأساة التهجير من فلسطين 1948 و1967، وتهديد بقاء الكيان الأردني لصالح تحقيق مشروع الوطن البديل الذي سيدخل البلاد في حرب أهلية ضروس، وتفجير لبنان، وتفسيخ العراق نهائياً، وإعادة رسم خريطة المشرق في ظل الدكتاتورية الصهيونية.
على هذه الخلفية، يغدو نضال جنود الجيش العربي السوري ومقاتلي الدفاع الشعبي والمقاومة في سوريا، نضالاً بطولياً مشروعاً ضد الإمبريالية والصهيونية والرجعية، ومن أجل السلم والمدنية والحضارة والانسانية، مما يوجب على تشومسكي، وعلى كل مثقف ذي ضمير حيّ، أن يدعمه من دون التباس.
مأساة المنظور الليبرالي لدى المثقفين، حتى الكبار منهم، هو أنه يعميهم عن اكتشاف الجدل الحي للصراعات، ويربكهم، ويشوّشهم، ويضعهم، بالتالي، في الخندق الخطأ.

Posted in Uncategorized.