في خطاب له أمام الجالية المصرية في قطر، طمأن الرئيس محمد مرسي، جمهوره، بالقول إن «الدولة المصرية هي الفقيرة، لكن المجتمع المصري غني». وهكذا، من دون أن يدري، لخّص مرسي أزمة مصر: المجتمع المصري ليس غنياً بالطبع، بل فئات قليلة منه هي التي تملك الثروات. وهي لم تحقق ثرواتها هذه رغم فقر الدولة، بل نتيجة إفقارها الناجم عن خمسة عوامل، هي:
أولاً، الخصخصة المنفلتة العشوائية التي أدت إلى انتقال العديد من أصول الدولة والمجتمع، إلى أيدي الرأسمال الأجنبي ووكلائه المحليين (الكمبرادور بالمعنى الواسع للكلمة) وشبكات النفوذ والفساد.
ثانياً، تقديم التسهيلات والامتيازات العقارية والضريبية والمالية ومعظم الدعم المقدّم للطاقة والمياه، لمصلحة المستثمرين المحليين والأجانب، على حساب خزينة الدولة. وهذه تتولى، أيضاً، الإنفاق على البنى التحتية اللازمة للاستثمارات غير الخاضعة لأي خطة أو قيود وطنية.
ثالثاً، انسحاب الدولة من الإنتاج، وإقفال باب التنمية، وتحميلها، في الوقت نفسه، أعباء التعامل مع جماهير المفقَرين والمهمّشين، من خلال الدعم. إن الدعم الجزئي الموجه لتغطية بعض السلع الاستهلاكية الأساسية هو تعويض محدود لتدني الأجور والبطالة. وهو يتم، في الواقع، لتجديد قوة العمل لحساب المستثمرين. ويُعدّ معدّل الأجور الواطئ ووجود جيش من العاطلين، شرطين لتمكين الشركات من تحقيق الأرباح، وإدارة سوق العمل، بما يكفل مصالحها.
رابعاً، ولمّا كان النموذج الاقتصادي الكمبرادوري، القائم على النهب والربح غير المقيّد اجتماعياً، عاجزاً، بطبيعته، عن تشغيل قسم كبير من قوة العمل، فإن الدولة تتحمل توفير فرص العمالة المقنّعة الزهيدة الأجور في إداراتها المتضخّمة، وتالياً المترهّلة والفاسدة. يقوم النموذج النيوليبرالي، نظرياً، على الحكومة الصغيرة الكفوءة، لكن ما دام ينتج النموذج نفسه، البطالة المتنامية، يغدو حل المعضلة محصوراً بالتوظيف في الإدارات، والهجرة. وما يفيض عنهما، يلتحق بأشغال الارتزاق وعالم الجريمة والتهميش. وهو وضع يتطلّب جهازاً أمنياً ضخماً على نحو غير اقتصادي، تموّله الخزينة المرهقة.
خامساً، إن إدامة هذه اللوحة الشوهاء، تتطلّب تحييد المؤسسة العسكرية، سواء بالإنفاق الكثيف على ضباطها وتجهيزاتها أو بمنحها مجالاً استثمارياً خاصاً بها، أي معاملتها التفضيلية كمستثمر خاصّ. وهو ما يكلّف الخزينة والاقتصاد، أعباءً ليس ممكناً، بالنظر إلى طابعها العسكري الأمني، احتسابها.
كل ذلك، بالإضافة إلى كلفة الهدر والفساد، تتحمّله الدولة المصرية، ويلزّها إلى إدمان الاقتراض والبحث عن مساعدات خارجية، ويفقرُها عن تقديم خدمات اجتماعية ذات كفاءة في الصحة والتعليم والتأهيل ودعم الحرفيين والمشاريع الصغيرة والمتوسطة وتطوير الزراعة، ما يؤدي، بدوره، إلى تعميق الفجوة الطبقية بين الأغنياء والفقراء، وتراجع الفرص أمام الفئات الوسطى، وارتفاع نسبة العاطلين والمهمّشين، وهكذا في دائرة جهنمية.
ظهرت آمال بعيد انتفاضة 25 يناير بالخروج من هذه الدائرة المغلقة، وشهدنا موجة من الخطط والمقترحات التنموية التي تقدّم بها خبراء ممتازون وحسنو النيات، إلا أن التطورات اللاحقة، انتهت بهذه الموجة إلى الانكفاء، وبالجماهير إلى اليأس، والتحوّل إلى ممارسات الفوضى والعنف. ولقد أظهرت المؤشرات الاقتصادية لعام 2011 ــــ 2012، أن «الثورة» لم تمس النموذج الكمبرادوري، كذلك ظهر أن السلطة الإخوانية، ليس عندها بديل له، وإنما هي تسعى إلى ترميمه بعدما أصابته الكسور بسبب «الثورة» كتراجع السياحة والاستثمارات الأجنبية وتمرّد الطبقة العاملة.
يتبدى رأس جبل الجليد في أزمة المالية العامة المتفاقمة على نحو غير مسبوق، نوجزها وفقاً لبيانات وزارة المالية في 30 تشرين الأول 2012، كما يأتي:
أولاً، ارتفاع العجز الكلي للموازنة العامة للدولة ليصل إلى 166.7 مليار جنيه أي ما يعادل 10.8% من الناتج المحلي الإجمالي، ثانياً، ارتفاع العجز الكلي في ميزان المدفوعات إلى 11.3 مليار دولار، ثالثاً، ارتفاع الدين المحلي لأجهزة الموازنة العامة بنهاية حزيران 2012 إلى 1155.3 مليار جنيه بما يعادل 74.9% من الناتج المحلي الإجمالي، رابعاً، حدوث انخفاض طفيف على رصيد الدين الخارجي بنسبة 1.5% ليبلغ 34.4 مليار دولار بنهاية حزيران 2012 مقابل 34.9 مليار دولار بنهاية حزيران 2011، إلا أن الدين الخارجي مرشح لقفزة جديدة مع اتجاه الحكومة المصرية إلى اقتراض 4.8 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي.
ومن المعروف أن الصندوق لا يمنح قروض الهيكلة المالية هذه، إلا بشروط إلغاء الدعم للسلع والخدمات، بما يخفض العجز المالي ضمن سقوف متفق عليها. وفي المقابل، تأمين «بيئة مناسبة» لجذب الاستثمارات الأجنبية، أي بمنحها المزيد من الإعفاءات. وفي ظل قيود كهذه، قد لا يكون أمام الإخوان المسلمين، سوى بيع قناة السويس بالمزاد!
بهدوء | مرسي يكشف السرّ
Posted in Uncategorized.