كارثة الفاشية الدينية الإرهابية التي حلت بالعرب، خصوصا في المشرق ومصر، صميمية. ليست، فحسب، مشكلة أمنية أو سياسية، بل، أيضاً، مشكلة فكرية وأخلاقية. وهذه تتبدى، بجلاء، في مواقف المثقفين؛ هؤلاء ـــ في أكثريتهم الساحقة ـــ معطلون عن أي دور في المعركة ضد الفاشية الدينية، التكفير والتحريض المذهبي وجرائم المهابدة الجماعية ضد التعددية الدينية والمذهبية والثقافية.
لماذا انتكس دور المثقفين العرب، بل انحطّ، في بعض صوره، إلى التأييد العلني أو الضمني للجماعات الإرهابية؟
الظاهرة الأبرز، هنا، هي ظاهرة الصمت والاختباء وتجاهل الصراع القائم وحقائقه الملموسة. ولعل السبب الرئيسي وراء الصمت، هو الخوف…
ليس الخوف من غول الإرهاب فقط، وإنما من الشبكة الاعلامية و«الثقافية» و«الفكرية» المحكمة، والواسعة الانتشار والسيطرة، لممولي الإرهاب؛ فهؤلاء هم، أيضاً، مموّلو الفضائيات والصحف والمجلات والمواقع الإخبارية ومراكز الأبحاث ودور النشر والجوائز الأدبية الخ. وهذا هو المجال الذي تفوقت به قطر على السعودية والإمارات، من جهة، وعلى محور المقاومة، من جهة أخرى.
المنابر المموّلة من قطر تحديداً، تعمل بذكاء وفعالية لاستنزاف الطاقات الثقافية العربية. فهي وفّرت إطاراً صممه «مثقفون» يزاوج بين الليبرالية والوهّابية السياسية، ويأذن بالتسامح إزاء الإسلاميين ـــ مهما تطرّفوا وأجرموا ـــ في سياق «مناهضة الاستبداد» الذي عانت منه الشعوب العربية طويلاً، وما تزال تعاني حضوره وآثاره. وهي تكنّ له أعمق العداء وروح الانتقام، ما يؤدي، في كثير من الأحيان، إلى مواقف انتحارية وظلامية وبلهاء. فالبديل المطروح عن الاستبداد الحداثي الكريه والمرفوض، هو سيطرة أنماط من الفاشية الدينية التي لا تقمع المعارضين السياسيين فقط ـــ كما هو حال الأنظمة الاستبدادية ـــ بل تتدخل في أدق تفاصيل حياة الفرد، وتخضعها لنمط رجعي صارم، باستخدام العنف غير المقيّد. والأطروحة الليبرالية ـــ الإسلاموية ـــ الطائفية، لا تقترب، بطبيعة الحال، من الأنظمة الخليجية الرجعية التي لا ينطبق عليها مفهوم الاستبداد، لأنها أدنى، في مستوى تطورها الاجتماعي التاريخي، من الاستبدادية. فهي من مخلفات العصور الوسطى، التي حافظت عليها الإمبريالية لتأمين نهب النفط العربي. والمشروع الذي رأيناه يتبلور في ما سُمي «الربيع العربي»، لا يتعدى كونه مشروع خلجنة البلدان العربية، جمعاء، سياسياً واجتماعياً وثقافياً، واخضاعها، كلياً، للمركز النفطي الخليجي.
عدد هائل من المثقفين العرب اندمجوا في هذا المشروع، بعضهم بالتنظير له، ومعظمهم بالصمت أو المناورة للحفاظ على وظائفهم أو لتأمين وظائف ومكتسبات في ظل انعدام البدائل التي توفّر الحد الأدنى لاستقلالية المثقف. وتؤمّن المنابر القَطرية، بمرونة عالية جداً، لهؤلاء، وعلى نطاق واسع، فرصاً مغرية؛ ليس مطلوباً من المثقف، هنا، بالضرورة، الانحياز والقتال في الخندق الرجعي، وإنما إغماض الأعين والتخلي عن مسؤولية المثقف إزاء الكارثة التي تحل بمجتمعه.
في نقد عمليات «حماس» الاستشهادية ضد مدنيين إسرائيليين، كتب صديقي الشاعر والمثقف والصحافي الأردني المعروف (…)، نصاً بالغ الحساسية والعمق والجرأة، أدان فيه تلك العمليات، وشكّك في انتمائها إلى روح المقاومة وثقافتها الانسانية؛ لاحظوا أن هذه الحساسية ضد الإرهاب الموجه لمدنيين، وصلت، في منحاها الإنساني، هنا، إلى رفض استخدام الوسائل الإرهابية ضد الاحتلال الإسرائيلي. بالمقابل، لم أقرأ لصديقي ـــ الذي يحتل منصبا في أحد المنابر القَطرية ـــ أي نص مشابه يدين جرائم الفاشية الدينية ضد المدنيين في سوريا والعراق؛ وأنا أفهم وضع الصديق البالغ الحرج، وأحسّ بعذاب ضميره.
هذا ما يحدث مع الكثيرين، بأشكال مختلفة؛ تستقطب المنابر القطرية، مئات المثقفين، وتمنحهم فرصاً لا بديل لها؛ وقد لا يتورطون في دعم السياسة التحريرية الفظة والعدوانية، لتلك المنابر، ولكنهم يصمتون، ويتحاشون المشاركة في نشاطات سياسية أو ثقافية مضادة للفاشية الدينية أو المشروع القَطري ـــ التركي ـــ الخليجي.
لم يتورّط الليبراليون، فقط، في التنظير لأولوية مناهضة الاستبداد على أولويات المقاومة والحداثة والتنمية والدولة القومية العلمانية، بل وجدنا «ماركسيين ثوريين»، في المنابر القَطرية، ينخرطون في المنحى نفسه، انطلاقا من نظرية «الصيرورة الثورية»: هدم الأنظمة الاستبدادية بوساطة الإسلاميين ـــ بمن فيهم التنظيمات الإرهابية ـــ ما يتيح لليساريين إعداد أنفسهم في ظروف ملائمة، ومواصلة الثورة نحو الديموقراطية والاشتراكية… على أنقاض الدول والمجتمعات والحضارة!
المثقفون الملتزمون، سياسياً وفكرياً وأخلاقياً، في مواجهة القوى السوداء التي تنهش المشرق الجريح ـــ الصهيونية والوهابية والعثمانية ـــ يخوضون المعركة، فرادى، بلا مؤسسات ولا دعم ولا فرص، انطلاقاً من وازع الضمير لا غير؛ ومع ذلك، فإن أي ملاحظة نقد أو اختلاف، يبدونها إزاء حلفائهم، تغدو موضع استنكار الحلفاء!
وأختم بأنه يقع على جمهور المقاومة والتحرر العربي، مهمة تقديم الدعم المعنوي للمثقفين المقاتلين في هذا الخندق، وتفهّم الطابع التعددي للجبهة ضد الفاشية الدينية والصهيونية. ومن جهتي، أبدأ بما أراه واجباً عليّ من توجيه التحية إلى الأديب الأردني المبدع، يوسف ضمرة، الذي، على رغم ما يعاني من مشقّات الحياة، رفض، بإباء المثقف، أن يلتحق بقافلة المستوعَبين لدى منبر قَطري اشترى ضمائر العشرات من المثقفين وأنصاف المثقفين الأردنيين، كما فعل في البلدان العربية الأخرى.
بهدوء | مثقفون في خدمة الفاشية الدينية
Posted in Uncategorized.