هل كانت جريمة التفجير الانتحاري في أربعاء دمشق الدامي، انقلاباً على عملية الحلّ السياسي في سوريا؟ هناك دلائل تشير إلى ذلك، ومنها (1) رفض الولايات المتحدة إدانة تلك الجريمة الإرهابية في مجلس الأمن الدولي. وهو ما أثار غضب موسكو التي اتهمت واشنطن، شريكتها الأساسية في التسوية السورية، بـ«ازدواجية المعايير»، والخروج على الإجماع الدولي ضد الإرهاب. ويعكس هذا التوتر، تباعداً في مواقف القوّتين الأعظم، لا يؤذن باتفاق قريب. (2) اتجاه المندوب الدولي ــــ العربي، الأخضر الإبراهيمي، إلى تبني رؤية لا تنسجم، حسب دمشق، مع متطلبات السيادة السورية. يعني ذلك، ببساطة، المسعى المرفوض، سورياً وروسياً، إلى فرض برنامج حل خارجي لا يأخذ في الاعتبار مكوّنات الدولة السورية وثوابتها الوطنية. (3) تعليق الزيارات التفاوضية لرئيس «ائتلاف الدوحة»، معاذ الخطيب، إلى موسكو وواشنطن وعواصم أخرى. (4) اتجاه «ائتلاف الدوحة» إلى تأليف حكومة في مناطق سيطرة الجماعات المسلحة.
هل تبدّدت التسوية أم أنه عضّ الأصابع في ربع الساعة الأخير، قبل حدوثها؟
التسوية، من منظور الدبلوماسية الروسيّة، هي محصلة عقلانية لحسابات موازين القوى القائمة بالفعل؛ فقد أثبت النظام السوري، بعد سنتين من المواجهات الصعبة، قدرته على الصمود، بحيث لم يعد التفكير بإسقاطه بالقوّة، واقعياً. بالمقابل، سوريا منهكة جراء الحرب والحصار. وهو وضع يقود إلى طاولة المفاوضات. لكن مَن قال إن المغامرين الدوليين والإقليميين المؤتلفين ضد سوريا يخضعون للعقلانية؟ وما دام السوريون، وحدهم، هم مَن يدفعون الثمن، فلا شيء يمنع من إطالة أمد الحرب والتجريب، مرة بعد أخرى.
حتى الآن، لم تتكوَّن عناصر هجوم سوري معاكس، يلزّ الأعداء إلى ضرورة حسم مواقفهم من التسوية، كالردّ على الاعتداءات الإسرائيلية، (وآخرها تجديد ضم الجولان بالتنقيب عن نفطه وغازه) ما يجلب الأميركيين، تواً، إلى طاولة مفاوضات واقعية أو تكبيد أنقرة والرياض ــــ وخصوصاً الدوحة ــــ الآلام نفسها التي تتجرعها دمشق، ما يضع تلك العواصم أمام خيارَي الحرب والسلام. هكذا، سيظلّ هناك المزيد من الوقت لمصلحة أعداء سوريا.
هناك، كما هو معروف، وجهة النظر الأكثر حذراً التي تقول إن موازين القوى وضوابط الحلفاء، لا تسمح بردّ سوريّ على المستوى الإقليمي، ولن أناقش، هنا، هذا الملفّ البالغ التعقيد والحساسيّة، ولكنني أودّ، فقط، التوصل إلى الاستنتاج الآتي:
إن توقيت التسوية ليس بعد في أيدي السوريين وحلفائهم. يظل الإطار التسووي للأزمة السورية، بالطبع، قائماً كمعطى أساسي، تحرّك الدبلوماسية الروسية المثابرة، دينامياته، إنما يبقى السؤال الرئيسي هو: تسوية مع من؟ هل تفضي أيّ تسوية، مهما كانت طبيعتها، إلى منع المفجرين الانتحاريين من ارتكابات القتل الجماعي وتهديد الحياة اليومية والاقتصاد والنشاط الاجتماعي في دمشق وحلب وسواهما من الحواضر السورية؟
سوريا تواجه، ميدانياً، تمرداً مسلحاً من جماعات غير خاضعة للمستوى السياسي، أقواها، على الإطلاق، منظمة «القاعدة» الأممية المسماة «جبهة النصرة»، وهذه يهمها أن تستجيب لأوامر التصعيد، لكن أين هي مصلحتها في الاستجابة لأوامر الانسحاب؟ وإلى أين؟ ومَن يستوعب هذه الآلاف من الإرهابيين؟
سيقال، هنا، إن التسوية ستجفف منابع الدعم الدولي والإقليمي للإرهاب في سوريا. ولعلّ ذلك كان صحيحاً، أي منتجاً، في أوائل عام 2012، أما الآن، في 2013، فالمعطيات تجزم بأن حركة التمرد أصبحت إرهابية، وأنها تأخذ منحى مستقلاً عن صانعيها؛ الوحش الذي تم خلقه كأداة قتال ضد سوريا، بديلاً عن الجيوش الغربية والتركية والإسرائيلية، أصبحت له، اليوم، قدراته وآلياته الذاتية وسيطرته الميدانية على التمرد. يجعل ذلك من فكرة الانسحاب الإرهابي، وهماً، بينما الوهم الأكثر سذاجة (أو الادّعاء الأكثر لؤماً) هو القول بإمكانية دمج «جبهة النصرة» في أي صيغة سياسية للحل، سواء بوجود الأسد أو برحيله؛ (1) صحيح أن «الجبهة» تعمل في سوريا، ولكنها غير سورية، سواء في إيمانها أو في استراتيجيتها أو في تركيبتها، بل هي تعبير عن دينامية سلفية عولمية وجدت في سوريا ملاذها وفرصتها الاستثنائية لإقامة قاعدة لـ«القاعدة» في بلد عربي مركزي، وبرضى دولي وتسهيلات إقليمية. (2) «الجبهة» ليست ميليشيا سنيّة تعبّر عن توتر طائفي داخلي ليكون ممكناً دمجها في حل ينهي ذلك التوتر، بل هي منظمة تكفيرية، وإزاء السنّة بالذات، إذا ما خالفوها في الرأي الديني أو منهج الحياة أو المشروع السياسيّ. والتفجير الإرهابي الأخير في الحي الدمشقي السنّي، يمثّل دليلاً حاسماً على ذلك. لا تريد «الجبهة»، في الحقيقة، التغيير في سوريا لمصلحة السنّة، بل تريد تغيير سوريا نفسها، وتحويل سنّتها المعروفين بكونهم أنصاراً تاريخيين للدولة الوطنية والمدنية والعروبة والحداثة، إلى أسوأ أصناف الوهابية.
بهدوء | سوريا، تسوية مع من؟
Posted in Uncategorized.