بالأساس، لا يوجد شيء اسمه تركيا؛ بل الأناضول التاريخية، آسيا الصغرى التي يقارب تاريخها الحيّ، تاريخ جارتها سوريا، أي إلى حوالى الألف الخامس قبل الميلاد؛ وحتى القرن الثالث عشر الميلادي، عاشت، وتعايشت، واستوطنت شعوبٌ عدّة في الأناضول ــ لم يكن من بينها الأتراك ــ من بينهم الحثيون والفرس واليونان والسلتيون والأرمن والآشوريون ــ السريان والكلدان والرومان، بناة روما الجديدة، القسطنطينية، والكرد الخ.
ومن الدول الكبرى التي عرفها الأناضول، أرمينيا. والأناضول هي بلاد المسيحية الشرقية، ومركز كنيسة الأمم؛ وفيها عقدت المجامع الكبرى المؤسسة للعقيدة المسيحية المعروفة، مجمع نيقية ومجمع أفسس ومجمع خلقيدونية. وبالخلاصة، فإن سكان آسيا الصغرى، اليوم، هم مزيج فريد من الشعوب الشرقية، وثقافاتها وأديانها ومذاهبها، وقد فُرض عليها إطارٌ قومي أيديولوجي، ليس له أساس تاريخي أو حضاري أو إثني، وإنما هو نتاج حديث لعملية عنفية من التتريك والأسلمة، يماثل ما حدث من عملية أوربة وتنصير لأميركا الشمالية، وما حدث من اغتصاب وتهويد لفلسطين.
استولت القبائل الهمجية التركية على الأناضول المتحضرة، بالتدريج ــ وإنما بالإرهاب ــ وعلى طريقة الدواعش، بالضبط؛ وباستخدام ضفيرة من التطرف الديني والقبلية، شكّل الأتراك عصابات وحشية تمكنت، في غضون القرن الثالث عشر، من الاستيلاء على بحر إيجة وسواحل مرمرة، وأسس أحد قادة تلك العصابات، عثمان، إمارة صغيرة بالقرب من «بورصة»، أخذت، لاحقاً، بالتوسع المستمر حتى أصبحت الإمبراطورية العثمانية التي جمّدت التطوّر الحضاري في بلادنا، أربعة قرون كاملة، تدهورت، خلالها، أحوال العرب الاقتصادية والاجتماعية، وانحدرت رابطتهم ومشاعرهم القومية، ولغتهم، وثقافتهم؛ بل وقعوا في أحابيل الانقسامات إلى ملل دينية، رسخها العثمانيون من خلال التجزئة وسيطرة المحليات وفرض مذهب رسمي للدولة والاضطهاد المنظم للمسيحيين والشيعة والعلويين والمكونات الدينية الأخرى، عدا عن الاضطهاد القومي لكل حركة وطنية، وتنظيم المذابح، الطائفية والقبلية، وخصوصاً في بلاد الشام والعراق.
عشية الحرب العالمية الأولى، عام 1914، كانت الإمبراطورية العثمانية، تلفظ أنفاسها التاريخية، وتتآكل، وتنهار من الداخل، وتخترقها الثورات والحركات الوطنية الشعبية، ومنها الحركة العربية التي لم تقتصر على المراكز؛ فحتى المجتمعات الشامية المحلية النائية ــ كجبل العرب (السويداء) والكرك وجوارها في الأردن ــ شهدت انتفاضات مسلحة، عام 1910، قُمعت بعنف شديد. وعلى سبيل المثال، ألقى العثمانيون بالثوار الكركيين، أحياء، من أعلى قلعة الجبل، ليموتوا محطّمي الرؤوس.
في وقت مبكّر من الحرب الأولى، بدأ القوميون الأتراك يتحسسون مخاطر زوال إمبراطوريتهم، أو ما بقي منها، سواء بثورات الشعوب أو بسبب الحرب التي بدأت تنذر باقتراب نيرانها من الآستانة نفسها؛ فشلت الحملة العثمانية على روسيا، وبدأ الأرمن يتطلعون إلى تحرير أراضيهم وتشكيل دولتهم، بدعم من روسيا. هنا، تشكّل تيار طوراني طائفي متوحش، رأى، بوضوح، أن ما سيبقى من الإمبراطورية لن يتجاوز حدود الأناضول؛ بينما الأناضول ليس تركياً؛ فهو يضم مناطق أرمنية وسريانية وآشورية ويونانية وكردية وعربية. ومن بين هذه المناطق، كانت الأراضي الوطنية الأرمنية هي الأكثر استعداداً للمضيّ في طريق التحرر الوطني. وكما حدث في فلسطين لاحقاً على أيدي الصهاينة، قرر الأتراك، القيام بتهجير جماعي للأرمن من ديارهم. وهو قرار تحوّل، في التنفيذ، إلى إبادة جماعية لحوالى مليون ونصف مليون أرمني. الجريمة التركية كانت مركّبة ــ ولم يستطع الصهاينة سوى تقليدها جزئياً في فلسطين ــ اتجه التفكير الشيطاني التركي، أولاً، إلى إبادة النخب الأرمنية، من سياسيين ومثقفين وكتاب وأكاديميين وفنانين ورجال أعمال الخ. وكان القصد، من وراء ذلك، تدمير روح الأمة الأرمنية، وقدرتها على المقاومة، وقياداتها، وذاكرتها. ولدى إنجاز هذه الجريمة التاريخية التي هدفت إلى استئصال أمة من التاريخ، بدأت عمليات التهجير والقتل والاغتصاب والتجويع، ما أدى إلى استشهاد الكتلة السكانية الأرمنية في الأناضول، والاستيلاء على أرضها. وكانت هذه الجريمة الهمجية هي الأكبر من بين جرائم مشابهة طاولت نصف مليون سرياني قتلاً وتهجيراً، ومثلهم من اليونانيين، بالإضافة إلى آشوريين وعرب. وجرى، لاحقاً، بالتآمر بين فرنسا والأتراك، اغتصاب لواء الإسكندرون السوري، عام 1939، ودفع قسم من سكانه العرب إلى هجرة مأسوية، يروي جوانب منها الروائي السوري الكبير، حنا مينة، في روايته «بقايا صوَر». أما الكرد ــ الذين تم استخدامهم باسم الشراكة في الدين في عمليات قتل وتهجير الأقوام المسيحية من الأناضول ــ فقد تم إخضاعهم للتتريك الشامل، وحرمانهم من هويتهم ولغتهم وحقوقهم. ولا يزالون يناضلون، حتى اليوم، للاعتراف بهم كقومية لها الحق في تقرير المصير.
لا يوجد شيء اسمه تركيا إلا على جماجم الأرمن والسريان والآشوريين والعرب واليونان، والجلادين ــ الضحايا من الكرد؛ سيرة الكيان التركي هي سيرة الكيان الصهيوني، بل هي سيرة الدواعش الذين أسسوا إمبراطورية التخلّف، وارتكبوا جرائم الإبادة بحق الشعوب، ولا يزالون يلعبون الدور نفسه في كردستان، وفي سوريا التي يواصلون غزوها بالإرهابيين من كل العالم، في ما كان اسمه «الجيش الحر» و»الإخوان» و»النصرة»، وخصوصاً عصابات «داعش» التي هي نسخة حديثة من عصابات عثمان الأول.
بهدوء | دولة الدواعش منذ القرن 13، أنا ــ اليوم ــ أرمني
Posted in Uncategorized.