في شهر ذي القعدة من العام السادس للهجرة، قرر النبي محمد (ص)، على رأس ألف وأربعمئة من المهاجرين والأنصار، أداء العمرة، ونزلوا في الحديبية على مقربة من مكة، مسالمين، بانتظار موافقة قريش التي عرضت صلحاً مع المسلمين، على أن يعودوا من حيث أتوا، هذا العام، على أن يأتوا البيت الحرام، في العام المقبل. وتضمن الصلح، شروطاً قبل بها الرسول، وأغضبت أصحابه، لما فيها من تنازلات وتراجع، غير أن الرسول، واساهم بأن ما حصل فتح. وهو ما كان، في السنة التالية، حين انهارت جبهة المشركين، ودخل المسلمون، مكة، فاتحين.
رئيس حركة النهضة الإسلامية، راشد الغنوشي، تشبّه بالنبي، واستعاد تلك الواقعة التاريخية، ليواسي الإخوان المسلمين في تونس وجمهورهم، في ما أصاب «النهضة» من هزيمة في الانتخابات التشريعية، وفي ما اضطرت إليه، أصلاً، من التراجع عن موقع السلطة والقيادة، وما قبلت به من شراكة وطنية ودستور علماني؛ فكل ذلك، حسب الغنوشي، كـ«صلح الحديبية» الذي تلاه «فتح عظيم».
أراد الشيخ، بالطبع، أن يهدّئ من روع أنصاره، لكنه، بذلك، كشف عن باطن موقفه من الالتزام الديموقراطي، وآماله المعقودة على انقلاب الوضع القائم إلى فتح عظيم.
يكشف ذلك، عن عدة مفاهيم رئيسية في صلب عقيدة الإخوان المسلمين، المتجذرة حتى في عقلية «أكثر فروعهم تنوّراً»؛ فالإخونجي يضع نفسه، أولاً، في موقع الرسول، ويعتقد أنه يحوز شرعيته، ويحسب أنه مخوّلٌ، إلهياً، بأن يتبع خططه، وأن الله سوف ينصر، في النهاية، هذه الخطط، كما نصر رسوله؛ ويقود هذا المنطق إلى إلغاء الخطاب القرآني المتشدد باعتباره محمداً خاتم النبيين؛ فلا وحي ولا أنبياء بعده، والقصد القرآني من ذلك بيّنٌ في منع ادعاء الاتصال بالإله على أي مسلم أو فرقة إسلامية؛ فالمسلمون، مع اختتام النبوة، متساوون في الشرعية والحقانية؛ والإخونجي، ثانياً، يلغي التاريخ وسننه، ويظن بأنه قادر على استعادة السيرة النبوية، في حركيتها، من دون احتساب 14 قرناً من التحولات والتغيرات، كأنها لا شيء، وكأن التاريخ يكرر نفسه، بالإرادة الذاتية؛ إنه يستعيد وضعاً لم يعد موجوداً إلا في تهويماته، إذ لم يعد في المجتمعات التي يتحرك فيها الإخونجي، مشركون بالفعل، وإنما مجتمعات مسلمة راكمت، عبر تاريخها، رؤى وأفكاراً ووجداناً جماعياً متحركاً بالتجارب الاجتماعية والسياسية والثقافية للمسلمين، وما نشأ عنها من مدارس ومناهج ومذاهب الخ، وما تفرضه ضرورات الاجتماع الإنساني والتقدم الحضاري والتنموي والثقافي، من التعددية الفكرية والدينية والمذهبية والسلوكية في إطار الوحدة؛ لكن الإخونجي مصرٌ على بناء صورة وهمية يكون فيها الإخوان المسلمون في موقع «المؤمنين»، وسواهم من المسلمين، في موقع «المشركين»، ومن ثم يجري تظهير المعارك الوطنية والاجتماعية ـ السياسية، الدائرة في المجتمعات المسلمة على مسائل دنيوية، وكأنها معركة الإيمان في مواجهة الشرك؛ وبذلك، يلغي الإخونجي، ثالثاً، شرعية القوى والأحزاب والجماهير التي لا تسير وراءهم؛ فالآخرون ليسوا خصوماً سياسيين شرعيين في إطار بنية اجتماعية ـ سياسية واقعية، وإنما هم مشركون أو، في أحسن الأحوال، مضللون.
يصوّر الغنوشي لاتباعه أن ما اضطرت « النهضة» إليه، من ترك السلطة، وبالتالي، عدم التحكم بنتائج الانتخابات، ليس سوى محطة عابرة في مسيرة «التمكين»؛ « فالمستقبل في تونس للإسلام»، وكأن الإسلام ليس ماضي هذا البلد وحاضره، إلا أن يكون غير الإخوان، غير مسلمين! وها هو ينتظر تغير الظروف، لكي يصنع «الفتح العظيم».
الإخوان، ابتداءً، حركة تكوّنت، فكرياً، تحت مؤثرين أساسيين: الحركة الوهابية في الجزيرة العربية والحركة الطائفية الانفصالية الموالية للاستعمار البريطاني للأقلية المسلمة في الهند بقيادة أبو الأعلى المودودي؛ ومن هنا اكتسبت طابعها التكفيري الإرهابي من جهة، وطابعها الطائفي اللاوطني من جهة أخرى؛ وكان هذان المؤثران حاضرين في لحظة تأسيس الإخوان، ومضمرين في فكر الإخوان وحركيتهم، قبل أن يقوم سيّد قطب بتظهير المنحى التكفيري ـ الإرهابي ـ الطائفي ـ الأقلّوي على الملأ في الستينيات، معتبراً أن الأغلبية الساحقة من المسلمين تعيش «جاهلية» الردة على الإسلام؛ هذه الأطروحة الفاشية هي التي ألهمت وفرّخت كل التنظيمات الإرهابية منذ الخمسينيات، وهي الأساس في فكر «القاعدة» وتفريخاتها اللاحقة، حتى النصرة وداعش.
بهدوء | تونس؛ صلح الحديبية؟
Posted in Uncategorized.