يعيش اليسار اللبناني أسير تناقض جوهري بين امكانات خصبة (أتاحها التاريخ الحيوي والتراث الثقافي التنويري المميّز للبنان، وحرياته المستدامة)، وبين حركة ذلك اليسار، المقيدة، موضوعياً، بالنظام الطائفي المغلق والمداخلات والتقسيمات الجيوسياسية الصلبة التي تمنع استقلال اليسار كقوة تغيير ذات أفق تاريخي مفتوح.
أوضّح، أولاً، أنني استخدم مصطلح «اليسار»، لا بالمعنى الشيوعي أو حتى بالمعنى المتعارف عليه، تقليدياً، ويشمل ما كان يُعرَف بالقوى الديموقراطية الثورية، وإنما بمعنى أوسع فرضته، موضوعياً، تطورات «الربيع العربي» الذي ظهّر اليمين في إطار واسع من تحالف الفئات البيروقراطية والرأسمالية الكمبرادورية والشبكات النيوليبرالية وقوى الإسلام السياسي وحلفائها، بحيث أوجب ضم الفئات الوسطى والقوى المدنية والشباب والنساء، حكماً، إلى جبهة اليسار. بهذا المعنى يمكن القول إن لبنان هو من أكثر البلدان العربية اشتمالاً على قوى مجتمعية كامنة للجبهة اليسارية.
على مستوى ثان، كانت الكتلة الديموغرافية الكثيفة والنشطة والكادحة والمنفتحة في جبل لبنان في القرن التاسع عشر، أتاحت نشوء حيوية مجتمعية وثقافية وتنويرية مميزة على الصعيد العربي. وكان لها دور استثنائي، مذ ذاك، في مساعدة العرب، في مصر والمشرق خصوصاً، على الوعي بالذات القومية والحداثة وانتشار الأفكار التقدمية والديموقراطية والعلمانية والاشتراكية. وذلك، على أيدي جملة من الروّاد في الكتابة المحدثة المتنوعة الموضوعات التاريخية والعلمية والفكرية والموسوعية والقاموسية، والأغراض التنويرية، والنزعات الإنسانية، وتطوير الأساليب الأدبية والفنية والموسيقية، والصحافة الخ. وفيها كلها يعود الفضل، عربياً، إلى لبنانيين. ولا ننسى أن ثلاثة من أهم المفكرين اليساريين العرب هم لبنانيون، سليم خيّاطة وحسين مروة ومهدي عامل.
وراء اليساري اللبناني تراث مركّب من العاميات الشعبية وأبطالها وفارس الشدياق وشبلي شميّل وجورجي زيدان وجبران خليل جبران وانطون سعادة… ولا يتسع المكان لتعداد الأسماء. غير أن قطيعة ما حدثت بين هذا التراث وبين اليسار اللبناني. هذه القطيعة أوجدتها الحرب الأهلية التي عزلت مركز ذلك التراث في جبل لبنان، الذي وقع أسير القوى الفاشية من كتائب وقوات الخ في ما عُرف بالمنطقة الشرقية «الانعزالية»، في حين تموضع الحزب الشيوعي واليسار عموما في «الغربية»، تحت جناح قوة طائفية (الجنبلاطية) وقوة يمينية ــــ مرجعها خليجي ــــ هي فتح الذي سبق لجورج حاوي أن خاطب زعيمها نصف الإخونجي بالقول: «يا قائدي»!
يقول الصديق الدكتور ألبر داغر إن تاريخ اليسار في «المنطقة الشرقية» مغيّب لم يُكتَب. وهو من الذين يعتقدون أن مواقع عديدة من تلك المنطقة، تم الانسحاب اليساري منها بلا معارك، أو أن هذه المعارك كانت محسومة سياسياً لا عسكرياً. ويضرب مثالاً بلدته تنورين التي كان يمكن للحزب الشيوعي والحزب القومي أن يحشدا فيها، بداية الحرب الأهلية، مئتي مقاتل مقابل خمسة كتائبيين، لكن الهزيمة تقررت مسبقاً لأن حدود المناطق رُسمت طائفياً في سياق جيوسياسي، ولم تُرسم نضالياً في سياق وطني اجتماعي. وهو ما أنشأ مأساة دامية ما تزال تستنزف الأرواح للألوف من يساريي المنطقة الشرقية وتقدمييها، ممن تُركوا لمصيرهم تحت حراب التنظيمات الفاشية، ويستوعب بعضهم، اليوم، التيار العوني، في أفق طائفي.
حسناً، لنعترف بأن الحلقة الذهبية من تاريخ اليسار اللبناني الحديث، كانت تلك تبلورت في مرحلتين، الحرب الأهلية حتى 1982، وكان اليسار فيها هامشاً وغطاءً للجنبلاطية والدويلة الفتحاوية، ثم المرحلة المجيدة في «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية» في الثمانينيات. وهي انتهت، لأنها بلا حاضنة إقليمية أو محلية.
في مطلع التسعينيات، كان اليسار اللبناني، إذاً، قد انفصل عن تراثه الثقافي التنويري من جهة، وفقد الحاضنة الإقليمية من جهة ثانية، وخسر الحليف الدولي، الاتحاد السوفياتي المنهار، من جهة ثالثة. وهكذا دخل في أزمته المزمنة التي ما تزال تستنزفه حتى اليوم. وفي الأثناء، لم يستطع أن يبني موقعاً قيادياً في مواجهة نيوليبرالية آل الحريري، ولا استطاع أن يطوّر رؤية فكرية وسياسية لتنظيم العلاقة مع مقاومة حزب الله، ولا تمكّن من استعادة دوره في استنهاض التراث الثقافي التنويري اللبناني، وأسوأ من ذلك، غرق، من موقع هامشي، في اللبننة، فخسر مكانته العربية التي اكتسبها في السبعينيات. وبينما استعادت الانتفاضات العربية حياة العديد من الشيوعية واليسارية النائمة، وخصوصا في مجال استعادة الخطاب التحرري والتنويري على وهج الصراع في سوريا، بقيت مواقف اليسار اللبناني موزعة بين ليبرالية خليجية وشيوعية رسمية مترددة، خسرت الفرصة المتاحة لقيادة التدخل اللبناني التقدمي في سوريا وآفاقه اللاحقة.
(الأربعاء: اليسار اللبناني، الأدوار الممكنة).
بهدوء | اليسار اللبناني، الممكنات المهدورة
Posted in Uncategorized.