أوضّح، ابتداء، بأنني لا أقصد باليسار اللبناني، الحزبَ الشيوعيَّ أو سواه من المنظمات أو الشخصيات أو التجمعات؛ فسنتا الربيع العربي المظلمتان، بحقائقهما المرة وتطوراتهما اللاهبة ومآسيهما الدموية، غيّرتا لوحة الاصطفافات جذريا، بحيث ظهر، جليا، وجود ما أسميه يسار المجتمع من الفئات العمالية المنظمة والنقابية والفئات المتوسطة المتحضرة والمثقفين التقدميين بالمعنى العام والشباب والنساء. والناظم الرئيسي لهذه المكونات «اليسارية «هو العلمانية والإيمان بالدولة الوطنية ــ ودورها الاقتصادي الاجتماعي ــ ونبذ التعصب والحرص على الحريات السياسية والثقافية والمدنية والشخصية.
وعلى رغم الحدود الطائفية والمذهبية الصلبة في لبنان، ربما كان البلد العربي الأوفر حظا بالوجود الموضوعي للمكونات اليسارية بمعناها الجديد هذا. وما ينقصها، لكي تتحوّل قوة رئيسية، هو وجود دينامو مركزي يلعب دور المنظّم اليساري على الصعيد الوطني. هل يكون الحزب الشيوعي أو هل يستطيع هذا الحزب أن يكون ذلك الدينامو؟ هذا سؤال مفتوح على إجابات فكرية وميدانية. وما يعنيني هنا هو الإجابات الفكرية على المعضلات الرئيسية التي ينبغي حلها لتحقيق نهضة اليسار اللبناني. وهذه المعضلات هي:
أولا، العلاقة مع سوريا. لقد بيّنت الآثار العضوية للأزمة السورية على بلدان الجوار الشامي ــ وخصوصا لبنان والأردن ــ خطل النظرات السطحية التي تتعاطى مع العامل السوري كعامل برّاني. شئنا أم أبينا تمثل الشام مركزا للبنانيين والأردنيين والفلسطينيين. والشاهد أنهم انشقوا حول أزمتها الداخلية كما انشق السوريون، سواء بسواء، بل ان الأزمة السورية تحوّلت أزمة داخلية لدى شعوب بلاد الشام، أعادت صوغ الاصطفافات السياسية الداخلية لدى هذه الشعوب وحركاتها الوطنية وحياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وهكذا، لم يعد ممكنا لليسار اللبناني اليوم أن يفكّر بحركتَه أو مستقبلَه أو لبنانه، خارج إطار العلاقة اللبنانية ــ السورية. ويمثل النأي بالنفس عن تلك العلاقة ومفاعيلها، بالإضافة إلى طابعه الكاريكاتوريّ، انعزالا عن واقع تنخرط فيه جميع القوى الفاعلة مع أو ضدّ. وهو تعبير حيّ عن تداخل بنيوي بين البلدين لا فكاك منه، إلا لمن يقرر تهميش نفسه؛ فالصراع في سوريا سوف يحسم الصراعات اللبنانية، ويغيّر طبيعة المشهد اللبناني من جذوره. سوريا المفككة المستباحة المهدومة الدولة، ستهدم لبنان ودولته نهائيا. وبالمقابل، فإن الدولة السورية المنتصرة والممقرطة، سوف تفتح آفاقا جديدة للقوى التقدمية اللبنانية. ماذا يفعل اليساري في هذه الـ10452 كيلومتراً مربعاً الموزعة على حدود طائفية متصلّبة؟ أله غير الهامش؟ أو الانضواء في خيمة طائفية؟ لكن المدى السوري رحبٌ، دولة ومجتمعا وقدرات، ما يسمح لليسار بأن يكون طرفا فاعلا. وشرط فاعليته اتحاد اليسار اللبناني السوري. قد يكون ذلك ــ كما نحلم ــ في العودة إلى الحزب الموحّد، أو يكون في صيغة ما لإطار جامع للقوى اليسارية في البلدين يكسر الحدود السياسية القائمة، ويخوض معركة واحدة، دفاعا عن الدولة الوطنية المدنية وخط المقاومة والحريات، ويدخل في صراع مثابر ضد النيوليبرالية واقتصاد السوق والفساد.
في الطريق إلى هذا الأفق الذي فتحته الأزمة السورية على اليسار اللبناني (الحالي؛ حزبا وتجمعات وشخصيات) تكوين رؤية تدخليّة في الشأن السوري، تقوم على برنامج يقطع مع الليبرالية والإسلام السياسي وقوى الإرهاب، ويؤكد، بالمقابل، على برنامج التغيير الديموقراطي الاجتماعي ووحدة سوريا ولبنان في صيغة ديناميكية، وتكاملهما الاقتصادي والاجتماعي.
ثانيا، العلاقة مع حزب الله. وحزب الله مختلف، موضوعيا ــ بسبب شروط وجوده كمقاومة تستلزم العلمانية الواقعية ــ عن الإسلام السياسي بنزعاته الظلامية واللاوطنية والإرهابية. ويشكّل حزب الله، واقعيا، قوّة الردع اللازمة لبناء مشروع وطني اجتماعي تحرري في لبنان. وهو مشروع ليس ممكنا في ظل السيطرة الإسرائيلية. هذه ليست مفارقة، وإنما هو جدل الواقع التاريخي الذي يجعل المشروع اليساري اللبناني رهنا بوجود وقوة حزب الله كعامل رئيسي فعّال في ضمان السيادة اللبنانية. والسيادة شرط للتنمية والتقدم. هنا، يمكن لليسار أن يتقدم بمقاربة ابداعية: في خندق حزب الله، ولكن لتحويله نحو المشروع الوطني التنموي، أي في سياق تحالف نقدي أصبح اليوم ممكنا بالنظر إلى حاجة الحزب المقاوم، موضوعيا، إلى حلفاء محليين، حاجته إلى حلفاء إقليميين ودوليين.
ثالثا، العلاقة مع إرث لبنان الثقافي التنويري التقدمي. وهو، في جذوره وكثرته، إرث لبنان المسيحي الذي ينبغي تحرير كتلته المسيحية من ضيق الأفق المحلي وبقايا التيارات الفاشية، وتحويلها مركزا لمسيحية مشرقية تقدمية.
في ضوء حلول جذرية ومبدعة للمعضلات الثلاث السابقة، يمكن لليسار اللبناني أن يغدو مركزا لليسار العربي. وفي هذا أمله الوحيد.
بهدوء | اليسار اللبناني، الأدوار الممكنة (2)
Posted in Uncategorized.