إيران الشيعية وتركيا السنية تنظّمان أفضل العلاقات الثنائية في تاريخ البلدين؛ قررتا الأولوية الاقتصادية على أي خلافات ثانوية، خصوصاً تلك التي تتعلق بالمشرق العربي الذي تشهد دولتاه الكبريان، سوريا والعراق، حروب التدمير الشامل لصراع العصبيتين، الشيعية والسنية. الإيرانيون والأتراك في منأى عن ذلك الصراع؛ يراكمون النجاحات الاقتصادية والدفاعية والقوة الإقليمية، ويوقعون عشرات الاتفاقيات، ويخططون لزيادة التبادل التجاري إلى ثلاثين مليار دولار في العام 2015.
بينما يفاوض الأميركيون طهران لطيّ الملف النووي ورفع الحصار والتعاون الإقليمي، يعتبرون اقتراع ملايين السوريين للرئيس بشار الأسد «مهزلة»، ويزدادون تصميماً على استمرار الحرب الإرهابية على سوريا، خصوصاً عبر الجبهة التركية، لكن إيران التي تدعم الدولة السورية بكل ثقلها، ترفض إدانة التدخل التركي في الأراضي السورية، حتى حين شاركت القوات العثمانية في غزوة كسَب؛ حينها رفضت طهران نداءات وزارة الخارجية السورية الملحة لإصدار موقف علني ضد أنقرة، لكن الغضب السوري بقي صامتا، ومشككا بجدوى الاتصالات التي يقول الإيرانيون انهم يجرونها مع الأتراك لوقف العدوان على الأراضي السورية.
هل هناك جديد في قمة روحاني ـــ غول ـــ أردوغان بشأن سوريا (والعراق)؟ في العلن، لم يكن هناك سوى إنشاء لا مضمون عيانياً له حول مكافحة الإرهاب والمساعدة على بسط الأمن والاستقرار في المنطقة؛ هل هناك شيء آخر في السرّ؟ ذلك مستبعد في ظل سياسة تركية ــــ أطلسية مصممة على استخدام الجماعات الإرهابية لتحقيق الخطة الغربية والمطامح الجيوسياسية التركية في سوريا والعراق.
لإيران، وهذا حق لها، مصالحها الاستراتيجية التي تملي عليها سياسات تبدو للعرب، متناقضة، لكنها، في الواقع، تعبّر عن جدلية براغماتية لسياسات دولة قومية صاعدة؛ شكلت تركيا الأطلسية، وما تزال، ثغرة واسعة في جدار العقوبات الاقتصادية التي فرضها الغرب على الإيرانيين؛ هذه، بالطبع، فرصة تجارية لرجال الأعمال الأتراك؛ وكلا الدولتين تتمسكان بالدمج الكردي، بينما العراق وسوريا يخسران، استراتيجياً، على الجبهة الكردية؛ وعلى رغم أن الإرهاب يظل تهديداً ماثلاً، فإنه لا يزال بعيدا عن غرس قواعد له في إيران وتركيا؛ يمكنهما التنسيق للتصدي للإرهابيين حين يمسهما، بينما تتمدد «داعش» في بادية الشام؛ من الرقة إلى الموصل التي وقعت، أخيرا، تحت سيطرة القوة المتنامية للمليشيات الداعشية، شرقيّ شماليّ سوريا وشمالي غربيّ العراق.
لإيران ــــ المناهضة للغرب والداعية لتصفية الكيان الصهيوني ــــ مصلحة عميقة في التعايش السلمي والتعاون الحثيث المتعدد الأشكال، مع تركيا الأطلسية الحليف القديم لإسرائيل؛ يمنح هذا الواقع للأتراك فرصة استراتيجية للتدخل الكثيف العدواني المنطلق من تجديد الأطماع العثمانية في المشرق العربي. ورغم أن الإيرانيين يدعمون حكومتيّ دمشق وبغداد، فإن المحصلة الاستراتيجية للعلاقات بين الدولتين الإقليميتين الكبريين، بالنسبة للمشرق العربي، تساوي صفرا.
يناضل الجيش السوري، بنجاح، للحفاظ على وحدة الجمهورية، ولكن الطريق لا تزال طويلة أمامه، قبل أن يكون قادرا على مجابهة الخطر الإرهابي الانفصالي الرئيسي الذي تمثّله «داعش» التي لا يزال الجيش العراقي، على ما أبداه من قدرة وشجاعة، غير قادر على التصدي لها؛ عمّا قريب سيتهدد الخطر نفسه، الأردنّ، المكبّل بعلاقاته مع الولايات المتحدة وبالضغوط السعودية، ما يشلّه عن التحضير الجدي لمجابهة التحدي. السعودية نفسها ليست بمنأى، جغرافيا واجتماعيا وسياسيا، عن التمدد الإرهابي إلى أراضيها، لكنها ما تزال تتبع سياسات لا عقلانية مصممة على تدمير آخر قوة عربية باقية في المشرق (سوريا) مما يعمّق النفوذ الإيراني الذي تريد مقاومته. وفي السياق نفسه، تدعم انفصالا سنيا عن الدولة العراقية يحوّلها من دولة مشرقية تعددية لها ذاتيتها العربية الخاصة، إلى كيان صاف مذهبيا لا سبيل له إلا أن يكون مجرد ميدان للقوة الإقليمية الإيرانية؛ في الواقع، تلعب السعودية، في المشرق، لحساب الإيرانيين. وفي ما يشبه الخَبَل تتبع الرياض في سوريا خطة المواجهة مع النظام والإرهابيين معا، وتقاتل، في العالم العربي، الإخوان المسلمين والقوميين والشيعة، معتقدةً أنها تستطيع ذلك بضخّ الأموال في مصر السيسي التي ستظل عاجزة، لفترة طويلة، عن تأمين أمنها الذاتي، فما بالك بأمن الخليج العربي؟
هذه اللوحة العربية الجنونية من احتدام الصراع المذهبي والتدمير الذاتي وفقدان الرؤية العقلانية للمصالح الوطنية والقومية، تدفع الوطنيين العرب نحو اليأس؛ ما الذي يحدث؟ الإرهاب السلفي الجهادي، بأشكاله ومشاريعه المتعددة، ينتشر ويتصاعد ويقوى، ولم يعد ممكنا التمييز، في الحركة الإسلامية العربية، بين سياسي وإرهابي، أو بين «إخواني» وإرهابي!
وسط هذا المشهد، تتبع دمشق، وحدها، سياسات حصيفة؛ تركّز على التحالف مع روسيا، القوة الدولية الصاعدة المعادية للغرب والإسلام السياسي معا، وتتلقى الدعم من طهران من دون أن تخضع للسياسات الإيرانية، خصوصا إزاء التفاهم مع الإخوان المسلمين، وهي تدعم النظام المصري الجديد ــــ حليف عدوتها السعودية ــــ كونه قوة مضادة للإسلام السياسي، وتعمل بروح وطنية، على العكس من القوى الحاكمة في العراق، على صدّ التمزق الطائفي، والتأكيد على أولوية الوطنية السورية والدولة القومية العلمانية.
هناك مخرجان من حالة التدمير الذاتي؛ أولهما يعتمد على اتجاه السعودية نحو استراتيجية عقلانية للمصالحة مع سوريا، وإعادة تكوين النظام العربي على ركائزه الثلاث: الرياض، دمشق، القاهرة؛ وثانيهما قيام مجلس التعاون المشرقي، يبدأ بسوريا والعراق، ويضطر لبنان والأردن والفلسطينيين الى الالتحاق به.
بهدوء | المشهد العربي الجنوني؛ أي بديل؟
Posted in Uncategorized.