بهدوء | الغرب والشرق معاً؛ بربرية التهويد

قتل إرهابيون ـــ كانت باريس أرسلتهم، أو أرسلت مثلهم، إلى بلادنا لتدمير بناها ومجتمعاتها باسم «الاسلام» ــــ صحافيين فرنسيين في صحيفة «شارلي أيبدو»، انتقاماً للنبي محمد. هل كان ممكناً أن تتراجع الصحيفة أمام فرصة تأكيد خطها وشجاعتها، وتوزيع خمسة ملايين نسخة والحصول على عشرات الملايين في رصيدها البنكي؟ في الواقع، «شارلي أيبدو» اختارت حلاً وسطاً: رسمت النبي محمد متعاطفاً معها! شبّت، في العالم الإسلامي، نيران ردود الفعل، واختلط الحابل بالنابل، بحيث أصبح من الصعب التمييز بين علماني واسلامي، بل حتى بين المحاور السياسية المتقاتلة. الجميع غاضبٌ جداً؛ الجميع كشّر عن أنياب التعصّب على ضفتيّ المتوسط؛ باسم قداسة الحريات أو باسم حصانة المقدسات، باسم الغرب أو باسم الشرق.
من حيث الجوهر، يمكننا القول إن الغرب والعالم الإسلامي واقعان في منطقة ثقافية واحدة، مكتظة بحساسيات مدفوعة بالصراع داخل الوحدة، وبالتراكم التاريخي للحروب الممتدة على مدار التاريخ المعروف؛ دعونا نفكر، قليلاً، بأن مناطق ثقافية أخرى في العالم؛ كالصين واليابان وآسيا غير المسلمة وأميركا الجنوبية والروس ــــ والسلاف عموماً ــــ وأغلبية الهنود، تقع خارج هذا الصراع في هذه المنطقة المشتركة، المنطقة الإبراهيمية؛ اليهودية واليهوـ مسيحية والاسلامية؛ ولكلٍ منها اشكالياتها المتشابكة في التباسات تصل إلى حالات جنونية.
للتوضيح، المسيحية المشرقية ليست ابراهيمية؛ إذ لا شريعة فيها ولا عصبية أو روح قتالية أو وعد إلهي، ولا تعبّر عن نزعة تجارية، ومحور اخلاقيتها يقوم على أولوية الضمير الذاتي والمحبة. الكاثوليكية الأميركية الجنوبية ليست سوى تجسّد مسيحي للروح الشعبية في بلاد إحيائية؛ كذلك الأرثوذكسية السلافية هي أقرب إلى مزيج من نزعات انسانية مساواتية وميول قومية وطقسية قيصرية.
لم يستطع الغرب الامبراطوري، فالإقطاعي، فالملكيّ، أن يتقبل المسيحية، إلا بعد إعادة انتاجها كأيديولوجيا سلطويّة. هكذا، أصبح استدراك نقائصها باليهودية ضرورة أوجبت وصل الإنجيل بالتوراة، للحصول على مؤسسة دينية وشريعة لاجمة وأخلاقية مهيمنة وتبرير مقدّس للعنف، ومن ثم، في حقبة ولادة الرأسمالية، تقديس التجارة والاستغلال والثراء، وتالياً الاستعمار. في النهاية، وقع ما وصفه كارل ماركس بـ «تهويد المسيحية» في الغرب، وانتفاء الحاجة إلى اليهود الذين كان لهم، في ما قبل الرأسمالية، وظيفة ممارسة المهن التي ينفر منها المسيحي المؤمن، كالتجارة وخصوصاً التمويل بالربا. الغرب استولى على اليهودية، واضطهد اليهود إلى حد المحرقة النازية، قبل أن تتجدد الحاجة إليهم لدى الرأسمالية الأميركية التي أصبحت سيطرتها عالميةً بعد الحرب العالمية الثانية، وانتبهت إلى كفاءة اليهود في حرب اغتصاب فلسطين 1948، في تماهٍ مع اغتصاب البيض لأميركا الشمالية. وهو تماهٍ يجد نفسه في المشترك: يهوه إله الحرب والقوة والثراء، بديلاً عن مسيح المحبة والتسامح والزهد؛ أصبحت الجاليات اليهودية حاضنة اجتماعية للطابور الخامس الأميركي، وأصبحت إسرائيل، خصوصا بعد الـ 67، حليفاً استراتيجياً للولايات المتحدة، وأصبحت لليهودي أفضلية وحصانة سياسية وقانونية؛ ولم تعد له مصلحة في الاندماج في المجتمعات الغربية؛ بينما الأخيرة ليس لها مصلحة في دمج الجاليات المسلمة، لضمان تشديد استغلال هذه الجاليات، وتجديد تعريف الأنا ضد الآخر، وفي الأخير، كمجال حركي لنمو الفاشية الدينية. هكذا، نفهم السماح بالنشاط الوهابي الكثيف التمويل بين المسلمين ــــ الغربيين، واختراقهم بالشبكات الاخوانية والسلفية والسلفية الجهادية.
إسرائيل، غير القادرة، واقعياً، على استيعاب يهود الغرب لديها، والتي تدرك جيداً أن هؤلاء ليس لهم مصلحة في الهجرة إليها، تثير مخاوف الجاليات اليهودية، بما يخدم صلابة هذه الجاليات، الطائفية، وتالياً السياسية في نظرتها إلى إسرائيل كمركز وملاذ، وفي التبرير الاخلاقي لـ «الدولة اليهودية».
يعاني النظام الرأسمالي الغربي (يشمل، أيضاً، اليابان والنمور والخليج وتركيا) من أزمة عميقة، هي أزمة تخلخل الانتظام الداخلي لأطرافه المتنازعة المصالح والأيديولوجيات، وسط أزمة أعمّ، هي أزمة تراجع الهيمنة العالمية للنظام أمام دول قومية رأسمالية متمردة، كالصين وروسيا ودول البريكس وحلفائها وإيران وفنزويلا الخ؛ هذه الأزمة لا تحلها إلا الحرب التي لم تعد متيسرة بسبب كلفتها الباهظة وتوازن القوى العالمي. ما البديل؟ ليس سوى المنظمات الفاشية؛ فاشية يهودية صهيونية وغربية يهو مسيحية وعلمانوية واسلامية. والأخيرة، كالصهيونية، تقوم بوظيفة بنيوية في تمكين النظام الرأسمالي الغربي من ضرب وتقويض امكانات الاستقلال في العالم العربي والاسلامي، ولكن من الداخل! ومواجهة روسيا والصين اللتين فيهما مواطنون مسلمون، يمكن تجنيدهم، في الشبكات الإرهابية، ضد بلدانهم «الكافرة».
في هذه اللوحة الدموية من الصراعات الإبراهيمية، تغدو العلمانية الأوروبية هشّة وزائفة، بينما تظهر الاتجاهات الرئيسية في الأديان «السماوية»، وقد تهوَّدت جميعا.

Posted in Uncategorized.