«إننا أمام فرصة ذهبية لكسر المشروع التكفيري»؛ هذه هي خلاصة الرؤية الكفاحية لدى الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله؛ لا التباكي ولا اليأس ولا السجالات البيزنطية ولا انتظار الكارثة، بل اغتنام الفرصة التاريخية، وسط الدمار والآلام والدموع؛ فرصة موضوعية، لكنها ترتبط بإرادة المقاومة.
فرصة موضوعية لثلاثة أسباب، أولاً، أن المشروع التكفيري (= الفاشية الدينية) يتضمن عوامل فنائه لأنه يسعى إلى استحضار صورة الماضي الفائت في واقع الحاضر والتخطيط للمستقبل.
وهو ما يشكل استحالة تاريخية، وثانياً لأنه مشروع تدميري انتحاري لا ينطوي على أي فكرة وطنية أو تنموية أو قابلة للحياة، وثالثاً، لأن موازين القوى ـــ على رغم الدعم الإقليمي والدولي للتكفيريين ـــ تسمح بمواجهة هؤلاء وهزيمتهم.
لكن اغتنام الفرصة، بإرادة المقاومة، لا تتمثل، فقط، في ردّ المعتدين؛ هذا معناه الحرب الدموية لعقود، واستنزاف المجتمعات والمقاومات والقوى التقدمية والمؤسسات الدولتية. وهو ما يحقق مصالح الإمبريالية والصهيونية في بلادنا؛ المطلوب هو كسر المشروع كله، واستئصاله من جذوره، ما يطرح جدول أعمال يتجاوز مجرد المواجهة العسكرية والأمنية، إلى المواجهة الفكرية والسياسية والتنموية؛ يحث نصرالله على «تقديم إسلام راق ومشرق، على عكس ذلك الذي تقدمه داعش ومثيلاتها»؛ لكن السؤال يظل قائما: ما هي طبيعة ذلك الإسلام؟
نحن أمام مهمة فشلنا في تحقيقها طوال أكثر من قرن من «الحداثة»، وهي مهمة تحديث الإسلام؛ لقد كانت هناك محاولتان في هذا الاتجاه، فشلتا، الأولى ليبرالية، مع جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده، الذي عمل على اصلاحات جزئية هدفها التلاؤم مع المرحلة الرأسمالية؛ لكن، بما أن الرأسمالية في بلادنا انتهت إلى التبعية وهيمنة القطاعات الكمبرادورية والمدينية، فقد ظلت الأوطان في عباءة السيطرة الإمبريالية، وبقيت الأرياف المفقرة والريفيون المهاجرون إلى أحزمة البؤس في المدن، خارج فاعلية التحديث الليبرالي للإسلام. أما المحاولة الثانية، فقد قام بها اليساريون لإحياء ما هو شعبي وديموقراطي من تراث الإسلام، ومواءمته مع متطلبات التحرر الوطني والاشتراكية. وهي محاولة بقيت حبيسة التفاعل داخل النخب اليسارية.
«الإسلام الراقي والمشرق» هو الإسلام المتجدد المتطابق مع الضرورات التاريخية التي لا مناص منها لنهضة العرب؛ وهي التحرير والتحرر الوطني والتنمية والديموقراطية الاجتماعية وتحديث الثقافة والبنى السياسية وتحقيق صيغ ملائمة من اتحاد الأقاليم العربية والتكامل العربي. وفي المقابل، فإن الإسلام السياسي العربي يبدأ من العودة إلى الماضي، ويعادي تلك الأهداف، باستثناء هدف التحرير لدى بعض الجماعات الإسلامية، وليس كلها.
انتقل حزب الله، بمشاركته البطولية في مواجهة المشروع التكفيري، على المستوى الإقليمي، من إسلام التحرير إلى إسلام التحرر، بمعنى أنه تجاوز وحدانية نهج مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، إلى المشاركة الفعالة في مواجهة التدخل الامبريالي الرجعي في سوريا والمنطقة. وهو يقدم، على المستوى العملي، صورة راقية فعلاً في السياسة والممارسة، لكنه لم يتقدم، بعد، لإنجاز مهمة الانتقال من الفقه التقليدي إلى فقه التحرير، الوطني الاجتماعي التنموي، على نحو ما فعلت الحركات النضالية في أميركا الجنوبية بالانتقال من اللاهوت التقليدي إلى لاهوت التحرير، الذي حوّل المسيحية من قوة رجعية إلى قوة تقدمية في تلك القارة الصاعدة.
على المستوى الفني، يمكن استخدام خطابات حسن نصرالله لاستنباط خطوط عريضة لبناء فقه التحرير الإسلامي، على أن يتم استكمال النقص الحاصل في الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية؛ لكن من الواضح أن هناك الكثير من التعقيدات البنيوية والسياسية والتنظيمية التي تحول، حتى الآن، دون ورشة حزبية أو حتى مبادرة من أحد مثقفي الحزب لدراسة خطابات السيد، وتحليلها، وإعادة بنائها منهجياً. وهي مهمة يقوم بها، جزئياً، يساريون ـــ كما فعلتُ، مرارا، في كتاباتي ـــ ولكن إنجاز هذه المهمة، وتحويلها إلى جدول أعمال فكري، يعود إلى مثقفي حزب الله وكوادره.
لحزب الله، بالطبع، أن يتطور بالإيقاع الذي يناسب المهمات الثقيلة التي يتصدى لها، وما يرتبط بها من علاقات وتعقيدات، لكن تحقيق الهدف الكبير المتمثل في كسر المشروع التكفيري، يتطلب بناء جبهة قومية عريضة، تجمع كل القوى الاجتماعية والسياسية المتضررة من ذلك المشروع في المشرق العربي، جبهة يكون عنوانها الوحيد هو هزيمة التكفيريين، بينما يكون، لكل أطرافها، الحق في الاختلاف وتحديد البرامج الأخرى.
تجمع جبهة كهذه، موضوعياً، الوطنيين المتنوّرين من الشيعة والسنّة والمسيحيين والمكونات الدينية الأخرى والقوميين واليساريين والعلمانيين والمثقفين التقدميين والنساء، وهن قوة جبارة في الأسرة والمجتمع، كما في الميدان على ما رأينا من بطولات نساء عين العرب. غير أن قيام الجبهة الموحدة ضد المشروع التكفيري، يتطلب ارادة سياسية ومشروعاً مضاداً وبرنامجاً لدى القوتين الرئيسيتين اللتين تخوضان الصراع، وتتمتعان بالدعم الإقليمي والدولي، وهما الجمهورية العربية السورية وحزب الله.
الحرب طويلة وشاقة وشاملة، وتحقيق النصر فيها يحتاج إلى تعبئة شاملة لكل الطاقات الفكرية والسياسية والمقاتلة، خصوصاً، في المجتمعات المشرقية الفسيفسائية التركيب الديني والطائفي والاتني والجهوي. وهي كلها مكفّرة ومهددة بالفاشية الدينية.
بهدوء | الجبهة؛ كيف يمكن « كسر المشروع التكفيري»؟
Posted in Uncategorized.