«… إني أحبك، ولكن حبي لك ليس لنفسي وليس هو محور حياتي، بل سوريا هي المحور الذي تدور عليه حياتي وحبّي. كلنا يجب أن نكون لسوريا، لأنه جاء الوقت الذي، إذا فات، ولم نفعل شيئاً في سبيل حريتنا، فإننا ساقطون في عبودية شديدة طويلة!».
هكذا كتب أنطون سعادة إلى إدفيك جريديني، في 5 شباط 1938.
وفي هذا النص القصير، يعرب المناضل عن توحّده مع قضيته، وأولويتها على كل شأن آخر. وهذا أساسي لمناضلين جادين في تحقيق أهدافهم؛ إلا أن الأهم هو ما يؤكّد عليه المفكّر الثوري في ما يتصل بجدليّة الوقت الممكن لتحقيق الأهداف. وفي مسعى صميم متصف بدينامية نادرة المثال لتلافي العبودية، اندرج سعادة في نشاط محموم؛ درس وكتب ونظّم خارج السجن وداخله، في الوطن والمنفى، مانحاً قضيته كل ذرّة من كيانه. وفي السنتين اللاهبتين بين 47، حين عودته من المنفى، و49 حين استشهاده، عمل بلا هوادة من أجل الثورة، ورحل شهيد الوقت الذي لم يسمح بانتصار قضية سوريا.
بالنسبة إليه، كصاحب عقيدة قومية، فإن القضية السورية لا تموت؛ إنما، بالنسبة إلى سعادة المناضل، فقد كان يدرك، بحس مادي تاريخي مرهف، أنه، إذا ما ثبّتت دعائم الكيان الصهيوني، وترسّخت حدود الكيانات السورية، فإن القضية القومية، ستمضي في سبات طويل. تذكّرنا هذه المقاربة، بمقولة فلاديمير لينين، قبيل ثورة أكتوبر 1919، «أمس لم يكن قد آن الأوان، وغداً سيكون قد فات؛ الآن!»
الفرصة الممكنة يمنحها التاريخ، بين مسافات زمنية طويلة، ولكن لزمن قصير. ولقد فاتت الفرصة الأولى لقيام سوريا موحدة مستقلة في 1920، حين عجزت قيادات المملكة السورية، بسبب طبيعتها الاجتماعية التقليدية، عن تنظيم دفاع فعال، سياسي أو عسكري، للحفاظ على دولة قومية، لم تجد، في النهاية، سوى الحضور الرمزي البطولي لدماء يوسف العظمة ورفاقه، في معركة ميسلون.
بعدها، لم يتوقف النضال الاستقلالي بالطبع، ولم يهدأ الصراع ضد المشروع الصهيوني في فلسطين؛ إلا أن كل ذلك، على بسالته، كان يحدث في سياقات الحدود الكيانية التي رسمها سايكس ــــ بيكو. وهذا الواقع بالذات، هو الذي أنتج، في مواجهته، الحزب السوري القومي الاجتماعي؛ وكان حينها، بالنظر إلى طراوة الحدود الانفصالية، مُلْهماً لآلاف المناضلين الجادين والمثقفين والمبدعين. وبُعيد نهاية الحرب العالمية الثانية، وتخلخل القوتين الاستعماريتين اللتين اقتسمتا بلاد الشام، بريطانيا وفرنسا، وانزياحهما عن موقعهما لصالح الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي؛ نشأت فرصة تاريخية لإنجاز مهمة توحيد سوريا الطبيعية في كيان قومي؛ وكان سعادة يدرك أن تلك الفرصة محدودة زمنياً، ومحاطة بتعقيدات اجتماعية ــــ سياسية تعرقلها، فأراد التعويض عن ضغط الوقت وضغط التعقيدات، بنضال مثابر حيوي يصل الليل بالنهار؛ وكانت لحظة استشهاده، لحظة مجد نضالي، إلا أنها كانت، أيضاً، لحظة فعالية التكوينات الداخلية للحدود الكيانية. حتى الرئيس حافظ الأسد، بكل ثقله، لم يستطع ــــ لمعيقات داخلية في البلدين أولاً، ولظروف دولية غير ملائمة ثانياً ــــ أن يوحّد الجمهورية السورية ولبنان، وفشلت جهوده مع العراق، بينما تحدّته منظمة التحرير الفلسطينية بـ «القرار الوطني المستقلّ»، وظلت علاقات الأردن، معه، سجالاً بين التنسيق والخصام.
بعد أكثر بقليل من نصف قرن من استشهاد سعادة، وأحد عشر عاماً من رحيل القائد الأسد؛ شنّ أعداء سوريا، الحرب عليها؛ كان التحالف المعادي ضخماً؛ ضم الولايات المتحدة وأوروبا والخليج وتركيا والإخوان المسلمين والقوى التكفيرية الإرهابية، في مناخ انقلابات ما سُمي بالربيع العربي، ما هدّد، فعلاً، بانفراط المركز السوري، والولوج إلى مرحلة لا نهاية لها من العبودية للصهاينة والإرهابيين. إلا أنه، من خندق صمود الدولة السورية والمقاومة والجسم العفيّ من مواطني بلاد الشام، ولدت فرصة جديدة لانتصار القضية القومية في سوريا الطبيعية والعراق. فالحرب كسرت الحدود الكيانية، واتضح للوطنيات المحلية أنها لا تستطيع أن تنأى بنفسها عن الحروب الناشبة في منطقة جيوسياسية واحدة.
من وحدة المقاومة ضد الإرهابيين، إلى وحدة المقاومة ضد إسرائيل، أطلق المقاومون السوريون واللبنانيون، موضوعياً، حركة وحدة سوريا… وسائر المشرق؛ المهم الآن استدراك الوقت القصيرالمتاح بالانتقال من وعي الميدان، إلى الوعي الذاتي بالمهمة التاريخية الملقاة على عاتق المقاومين. فالجولان ليس جنوب لبنان، وليس غزة؛ إنه ميدان قومي مشترك للسوري واللبناني والفلسطيني والأردني والعراقي. لا مكان، بعد اليوم، للمقاومات الجزئية، والمشاريع الوطنية الجزئية؛ ولا انتصار أو مستقبل إلا بوحدة المقاومة ووحدة القيادة ووحدة الهدف: الاتحاد المستقلّ لمشرق بلا إسرائيل، وبلا رجعية، وبلا انقسامات طائفية واتنية، وبلا إفقار أو تهميش أو مظلوميات.
بهدوء | … وسائر المشرق، مقاومة
Posted in Uncategorized.