لم يعد ممكناً إخفاء الانشقاق السياسي في صفوف النخبة الشيعية الحاكمة في العراق. رئيس الوزراء الأسبق، نوري المالكي، عقّب على زيارة رئيس الوزراء التركي، أحمد داود أوغلو إلى بغداد، ومباحثاته الودية مع نظيره حيدر العبادي، بتصريحات ساخنة على قناة «العالم» الإيرانية، جدّد فيها وصمه تركيا أردوغان والسعودية والإمارات وقطر، بدعم وتمويل الإرهاب، وبمعاداة العراق.
وبينما أعلن مكتب العبادي أن تلك التصريحات لا تمثل الموقف العراقي الرسمي، هاجمتها الخارجية الأميركية، واعتبرتها الخارجية التركية تعبيرا عن وضع المالكي «الذي فقد صلته بالواقع». الأخير لم يصمت وردّ بقسوة على رئيس إقليم كردستان، «المستمر في التهييج الطائفي»، وعلى أوغلو لتدخله في الشؤون الداخلية للعراق.
هناك مساعٍ عراقية وتركية وكردية وأميركية لشخصنة مواقف المالكي السياسية، واعتبارها تعبيراً عن غضبة مجموعة معزولة. وهذا تضليل صرف. صحيح أن للمالكي نزعة زعامة، لكن الصراع السياسي داخل النظام العراقي هو صراع موضوعي بين حساسية عراقوية استقلالية تنزع إلى إعادة بناء الكيان العراقي كقوة إقليمية، واتجاهات أخرى تميل إلى الخضوع لأعداء العراق في الولايات المتحدة وتركيا والخليج، أو لأصدقائه في إيران. وربما كان ذلك هو الذي استكمل تطويق المالكي واسقاطه.
تبدو النخبة السياسية الشيعية التي تعودت على الدعم الخارجي في مواجهة الرئيس الراحل صدام حسين، رغم أنها تتحكم بالسلطة منذ وقت كافٍ للتلاؤم مع وضعها الجديد، وكأنها لم تُفطم، بعد، من هوس الحماية الأجنبية؛ فما أن ظهر عدوٌ داخلي مخيف كـ «داعش»، حتى توجهت الأنظار إلى واشنطن، وتمكينها من الحضور العسكري والسياسي، مرة أخرى، في العراق، والاستسلام أمام تركيا والسعودية، بينما يعتمد آخرون على الظهير الإيراني.
أين العراق المجيد؟ غاب منذ الاحتلال، ولم نعد نشعر بوجوده إلا من خلال حساسية المالكي العراقوية. ومن الواضح أن هذه الحساسية تمثل تياراً لم يتبلور بعد، ويقسم الأحزاب والتنظيمات، بما فيها «حزب الدعوة»، الحزب الذي ينتمي إليه، رغم تناقض السياسات، المالكي والعبادي معاً.
مؤخراً، نشر المالكي مقالاً حول تجديد «حزب الدعوة» في منحى وطني علماني؛ غير أن هذا لا يفيد التيار العراقوي الذي آن الأوان لانفصاله عن الاسلام السياسي الشيعي والطوائف، وتنظيم قواه من كل الاتجاهات في حزب وطني عراقي يأخذ على عاتقه إعادة تأسيس الدولة الوطنية العراقية على أساس المواطنة والاستقلال والوحدة والتنمية والعدالة الاجتماعية.
هذه الدولة بالذات هي التي يعاديها الأتراك والسعوديون والخليجيون والانفصاليون الكرد والإرهابيون الذين طالما تمنوا للعراق مصير الاحتلال، لكي تنشأ فيه مناطق توحّش تسمح لهم بإدارتها، والتمكن فيها. وقد حاز هذا المشروع الاجرامي على دعم مستمر هائل ، خصوصاً من أنقرة والرياض والدوحة، تحت القيادة الأميركية.
من المضحك أن تركيا ــــ التي كانت، ولا تزال، تشكّل الراعي الرسمي لتنظيم «داعش» المتماهي مع النزعة العثمانية للعصابة الطائفية الحاكمة في أنقرة ـــ هي التي تقترح على بغداد، تدريب وتسليح الجيش العراقي ضد الإرهاب؛ بل أن المشهد كله يبدو سوريالياً حين تُقبل القوى التي صنعت الوحش على مساعدة العراق في صده! هذا هو ما حدا بالمالكي الى إطلاق تصريحاته التي تعبّر، بدقة، عن واقع إقليمي حاضر بعدائه للعراق وسوريا والعرب.
السؤال الذي يكشف هذا المشهد هو الآتي: لماذا يتجه الأميركيون والرجعيون والعثمانيون إلى دعم النظام العراقي الآن، في حين ما فتئوا يلحّون على اسقاط النظام السوري؟ الإجابة تتعلق بطبيعة النظامين في البلدين؛ فالنخبة العراقية الحاكمة التي لا تزال تنظر إلى نفسها كـ «معارضة» تستنجد بالأجنبي، يمكن استيعابها، بينما النخبة السورية الحاكمة التي تنطلق من موقع الدولة الوطنية والسيادة، فمطلوبٌ رأسها، لمصلحة «معارضة» سورية من الطينة العراقية تلك ذاتها.
بالنظر إلى تفاوت المواقف التكتيكية بين التحالف الأميركي السعودي الذي يمنح الأولوية، الآن، للقتال ضد «داعش»، وتركيا التي تريد استخدام هذا التنظيم الإرهابي ضد الرئيس بشار الأسد، يجد ميشيل كيلو، أكثر «المعارضين» السوريين براغماتيةً وصراحة، أن هناك فرصة ذهبية لـ «الثورة السورية» للتحالف مع تركيا المصممة على شروطها المعروفة للانقلاب على الحليف الداعشي، بما في ذلك إقامة المنطقة العازلة وحظر الطيران والتدخل البرّي الواضح الهدف: اسقاط الأسد!
ربما هناك مَن ينظر إلى هذا الرأي كوجهة نظر، بينما أعتبره ـــ مع كثيرين ـــ مجرد خيانة وضيعة؛ لكن المهم هو طرح الأسئلة الجوهرية حول المستقبل: هل سينسحب الأتراك بعدما يؤدون الخدمة الخيرية لميشيل كيلو؟ وهل يمكن لـ «معارضة» تفتقر إلى الحس الوطني والثقة بالذات أن تدير دولة؟ وهل سيكفّ «المعارضون» السوريون عن استجلاب التدخل الإقليمي والدولي كلما صادفتهم التحديات؟ النموذج العراقي يجيب.
بهدوء | المالكي يتحدى؛ الانشقاق العراقي على الملأ
Posted in Uncategorized.