المهمة الرقم واحد في عـراق اليوم

*
يشتمل الخطاب على وسائل تعبير لا حدّ لها: النصوص المكتوبة أو الشفوية، بكل تجلياتها في الشعر والنثر والغناء… والصمت، والإيماءات، والدراما، ولغة الجسد، وأساليب التعامل اليومي، والسلوكيات، والأفعال الرمزية الفردية والجماعية (كالصلاة أو مشاهد القداس أو المشاهد العاشورائية مثلاً)، والأفعال السياسية (كالتظاهرات)، والملابس الدالة على ارتباط أيديولوجي أو ثقافي ما (كالحجاب مثلاً)، و«اللوك» (أي المظهر المُصمَّم)، والشتائم، والتحيات، إلى عدد لا يمكن حصره من وسائل القول الذي لا يقول ذاتاً فردية، بل يقول النظرة الشمولية لمؤسسة أو طبقة أو مجموعة اجتماعية أو مجتمع أو شعب أو مرحلة سياسية ـ ثقافية.
وللخطاب ثقل مادي من الصعب زحزحته أو حتى مواجهته بالنقد ما دام، أي الخطاب، يقوم على منطق داخلي صلب خاص به عصيّ على التفكيك. ولكن، مع ذلك، يمكن تدميره كلاً برفضه مجتمعاً. وعلى سبيل المثال، تذهب كل أشكال الحوار النقدي أو الإصلاحي مع الخطاب الديني عبثاً، بل هي تجدده وتؤكده من حيث تريد زحزحته أو عقلنته، بحيث لا يبقى للخطاب العلماني سوى رفضه كلياً أو تجاهله كلياً. فالصمت هو وسيلة صراعية للإلغاء.
بين الخطابات إذن، صراع حياة أو موت. والعجيب، هنا أنه، في صراع الخطابات، لا يوجد حساب لموازين القوى. يستطيع خطاب مهزوم واقعياً، من دون عناصر ظاهرة لقوته المادية، إلغاء خطاب منتصر مدجج بالقوى المادية، بمجرد التعبير عن نفسه، في لحظة درامية قصوى، بكلمة لا ترد أو بفعل صارخ. بثلاث كلمات حسم فلاديمير لينين، الموقف، قبيل ثورة أوكتوبر 1917 لمصلحته، حين استمع ملياً إلى مناقشات اشتراكية أثبتت أنه لا يوجد حزب روسي قادر على الاستيلاء وحده على السلطة في روسيا، ثم أعلن، بثقة، أنه «يوجد حزب كهذا»، حزبه. كان يكثف هنا خطاباً شبحياً للقوى الثورية الروسية، أعطاه، بثقته وتصريحه، نواته الصلبة وانتصاره.
لا يمكن كلمة مهما كانت عبقريتها، أو فعلاً ما مهما كانت كثافته الدارمية التاريخية، أن يستنهض هيمنة الخطاب الغائب، إذا لم يكن الأخير خطاباً موجوداً بالفعل، مرتبطاً من حيث منطقه الداخلي الخاص الصلب بأشباح مرحلة تاريخية والمخزون السياسي الثقافي لمجتمع.
والفرد، في قوله أو فعله الحياتي الدرامي، لا يدرك عادة، إلا بالنسبة إلى فيلسوف مناضل نادر، أن قوله أو فعله المحددين، يعبران عن خطاب مطموس يحتاج فقط إلى تلك الشرارة الملائمة في الوقت الملائم. سيعيدنا ذلك إلى الدرس الهيغلي، حين تتجسد الإرادة التاريخية، في لحظة فردية، سواء وعاها الفاعل أم لم يفعل.
لم يكن الصحافي العراقي منتظر الزيدي، على اليقين، مدركاً أن قيامه بقذف الرئيس الأميركي جورج بوش بحذاءيه، أمام الكاميرات، سيكون لحظة صعود لخطاب عراقي وطني وعروبي كاسح، بدا مطموساً بكثافة في الفترة الأخيرة، سواء لجهة تراجع المقاومة المسلحة أو لجهة تزايد قوة حكومة نوري المالكي المدعومة من المحتلين والجيران الإيرانيين معاً، أو لجهة النجاح الباهر في توفير ما يشبه الإجماع على تمرير الاتفاقية الأمنية مع الاحتلال الأميركي، التي تشتمل على تحويل العراق إلى مستعمرة، وتوقيعها قبيل تسلّم الرئيس الأميركي المنتخب، باراك أوباما مسؤولياته، حين يمكن الحصول منه على شروط أفضل.
في خلفية المشهد، كان النزاع السني ـ الشيعي كما المصالحة بين ممثلي الطائفتين (فهما وجهان لعملة طائفية واحدة)، قد أغرق خطاب المقاومة وطمسه. أصبحت المقاومة ملوّثة بالدماء العراقية البريئة المراقة على الهوية المذهبية، تشجعها وتموّلها الوهابية السعودية على الجانب السني، ويفعل ملالي طهران، الشيء نفسه على الجانبين. اختلاط عمليات المقاومة بعمليات الإرهاب ضد المدنيين، مقترناً بالقمع الهمجي ـ المسكوت عنه عربياً ودولياً ـ للمجتمع العراقي كله، أدّيا إلى إرهاق العراقيين.
الخطابات المتعارضة لفصائل المقاومة (المتشققة بين خطاب بعثي سلطوي فقد هيمنته منذ وقت طويل، وخطاب القاعدة التكفيري الإجرامي، وخطاب الإسلاميين الذي لا مفر له من المذهبية لدى المقاومة السنية أو الصدرية الشيعية)، منعت تظهير الخطاب الوطني العراقي، وأغرقته بسجالات التخوين والتكفير، وانتقلت الحالة نفسها إلى الإطار العربي. عندها، بدأ خطاب الاستعمار الأميركي في نسخته العراقية يحقق نجاحات ملموسة، ظهرت في قيام منظمات شعبية مؤيدة للنظام الاحتلالي (مجالس الصحوة والإسناد) ومناقشات تتصارع، مذهبياً وشكلياً، في سياق البرنامج السياسي الاحتلالي.
في هذه اللحظة، ظهر شاب ممن كان يطلق عليهم «شين مكعّب» أي شيعي وشيوعي وشرقاوي (من منطقة الناصرية)، أي كل ما كان على المستوى الرمزي يمثل قلب العراق، ولكنه، على المستوى السياسي، منبوذ مذهبياً وعقائدياً وطبقياً في الدولة العراقية القديمة الآفلة. وكذلك تحت الاحتلال المزدوج الأميركي ـ الإيراني، حيث امتنع «الشين المكعّب» نهائياً: أولاً، بسبب تحوّل التشيع من انتماء ثقافي علماني إلى مذهبية سلفية مغلقة مرتبطة بملالي إيران، وثانياً بسبب خيانة قيادة الحزب الشيوعي العراقي التي أدارت ظهرها للتراث النضالي للشيوعيين العراقيين والتحقت بالمحتلين، وثالثاً لأن «الشروقيين»، تحت تأثير العاملين السابقين، تحولوا من خزان للثورة إلى سند قطيعي للملالي وتحالفهم، العلني والضمني، مع الاحتلال.
هكذا نكون قد توصلنا إلى أن الشاب منتظر الزيدي هو، كفرد، متمرد على التحوير الحاصل، ومصرّ، بانتمائه اليساري الوطني على تمثيل قلب العراق بنزاهة وبراءة جعلتاه يميز نفسه، لا عن الملالي وشيوعيي الاحتلال فقط، ولكن كذلك عن نظام صدام حسين (حين رفض التطوّع الانتهازي لمحامي الرئيس العراقي السابق للدفاع عنه) ليس من موقع مذهبي، ولكن من موقع شيوعي شرقاوي، أي من موقع طبقي وثقافي وعراقوي.
على الجانب المضاد من مسرح الحدث، كان يقف بوش، رئيس الولايات المتحدة الأميركية لعهدين. علينا أن نتذكر هنا قوّة الولايات المتحدة العسكرية الجبارة، وفشلها في تنفيذ برنامج إعادة بناء الأمة في العراق، وسط العداء العالمي للسياسات الأميركية، ثم فشل الرأسمالية الأميركية في تجاوز أزمتها، بل ووقوعها في مأزق الانحدار. نحن إذن أمام رئيس / إمبراطور مهزوم تاريخياً، لكنه لا يزال ينتعش برقصات السيوف مع حكام الخليج، وشعوره بالسيطرة على الحكومات العربية المتعاونة حتى ضد مصالحها الخاصة.
بوش، نصف المجنون / نصف الفاشل/ نصف «الإله» العربي، يتلقى ضربة من شاب أعزل بحذاءين متتابعين، وينحني لئلّا يصيبا وجهه، بينما كانا قد أصابا رمزيته حدّ القتل، بل ما هو أكثر من القتل الرمزي له ولإدارته وللولايات المتحدة الأميركية كلها.
الفعل الرمزي الذي ابتدعه الزيدي، انطلق كأنه شرارة لتظهير الخطاب العراقي والعربي المضاد. فجأةً، انطلق هذا الخطاب للتعبير عن نفسه بكل الوسائل: سيل لا ينقطع من الكتابات والبيانات والمبادرات والتظاهرات وإظهار الاحترام من أوساط لم تبد سابقاً ارتباطاً بالمقاومة العراقية، وعروض زواج علنية انهالت على الزيدي من نساء عربيات، ومزادات على حذاءيه بلغت الملايين. أهم الأشكال السياسية التي أشعلها الزيدي في خطاب العداء للاستعمار الأميركي والسياسة الأميركية، يتمثل في التظاهرات التي انطلقت في مدن العراق السنية والشيعية، في التظاهرات المشتركة، والحماسة التي أفاقت من سبات لدى آلاف الوطنيين العراقيين والعرب.
نهضة الخطاب المعادي لأميركا اخترقت حتى المؤسسات الرسمية للنظام العربي. ففي اقتراح لنائب كان يسارياً في الماضي في البرلمان الأردني، وقف النواب والوزراء، وبينهم وزير الداخلية، «إجلالاً للزيدي»! قوّة الخطاب عاصفة. النائب الأردني المندمج استعاد، في لحظة مفعمة، يساريته القديمة. الشباب اليساريون الأردنيون هم ـ لا الإسلاميون والقوميون كالعادة ـ مَن اعتصم أمام السفارة العراقية في عمان للمطالبة بالإفراج عن الزيدي.
نحن إذن أمام مثال بليغ على مادية الخطاب الكثيفة، وعلى إمكاناته غير القابلة للامّحاء ـ إلا بفواتها التاريخي ـ والخطاب الذي أشعل شرارته الزيدي ماثل في اللحظة التاريخية كضرورة استراتيجية. هو خطاب الوحدة ضد الانشقاقات الفائتة، خطاب المقاومة الوطنية التي تقول، باسم الإجماع، الكلمة الفصل: حذاء على رأس الاحتلال وعملائه، وعلى رأس الاتفاقية الأمنية، والمشروع الأميركي، وراقصي السيوف في حضرة بوش، والسجّد على أعتاب الملالي.
الزيدي افتتح بشرارته، في الوقت المناسب، الوسائل الضرورية اليوم للتعبير عن خطاب مقاومة جديد ووطني. إنها الوسائل السياسية السلمية. لقد أدت المقاومة المسلحة في العراق دورها ـ وربما يأتيها لاحقاً دور أكبر ـ لكن الآن، سيكون الهدوء الأمني ضرورياً لكي يتمكن ملايين العراقيين من النزول إلى الشوارع والساحات للتعبير عن رفضهم للاحتلال والتمزق المذهبي والظلامية والمحاصصة والاتفاقات الأمنية، وتكوين مناخ لولادة جبهة وطنية علمانية موحدة ومستقلة وقادرة، بالتالي، على بناء البرنامج التحرري العراقي، والقيادة الوطنية القادرة على تشغيل آمن وموحد للكفاح المسلح.
المحتلون الأميركيون ـ وقادة أدواتهم الإرهابية الوهابية التكفيرية ـ يدركون الخطر الآتي. ولذلك، سارع الأخيرون ـ وبتسهيلات أميركية على الأرجح ـ إلى القيام بتفجيرين انتحاريين في ساحة التظاهر الشعبي في بغداد، ساحة النهضة. ولم يعد خافياً الاستهداف المطلوب بدقة: ترويع المواطنين ومنعهم من التظاهر، وإعادة تمزيق صفوفهم على أسس مذهبية.
عزل الإرهاب ونبذه وفضحه، وتحرير السياسة من الدين، أصبحا اليوم المهمة الرقم واحد أمام الوطنيين العراقيين لتمكين المواطن العراقي العادي من المشاركة في النضال الوطني مقدمة للظفر بتحرير العراق وإعادة بنائه. ما ننتظره إذن هو نهضة الخطاب الوطني العلماني من سباته.
* كاتب وصحافي أردني

Posted in Uncategorized.