المشرق… في ظل التسويات الـكبرى

العراق لا يمكنه أن ينهض إلا كدولة قومية مدنية علمانية تنبذ مفهوم الأقلية والأكثرية (أ ف ب)

بعد اتفاق وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، ونظيره الأميركي جون كيري بشأن الملف الكيميائي السوري، يمكننا أن نكفّ عن متابعة التصريحات الأميركية والتحريضات الفرنسية وصرخات «المعارضة» السورية المستغيثة… إلخ.
كل ذلك للاستهلاك اليومي، وربما، في أكثر الحالات جدية، يمكننا النظر إليها كمناورات دبلوماسية؛ فالحرب الشاملة وقعت بالفعل، لكن افتراضياً. لقد جرى اختبار واسع النطاق لموازين القوى، وتبيّن للأطراف أوزانها وقدراتها بالاصطدام بالجدران المضادة، وفتحت، بالتالي، آفاق التسويات في السقوف الممكنة. وهي سقوف لن تتغير، نوعياً، حتى لو حدثت الحرب فعلياً.
لا يوجد حرب ـ حتى أكثرها همجية وغياباً للمعنى ـ مقصودة لذاتها، بل ـ كما هو معروف ـ كتصعيد للسياسة، ووصولاً إلى تسوية تفرضها موازين القوى.
وموازين القوى نوعان: ثابتة تتعلق بالجغرافيا السياسية والتاريخ والتكوينات الاجتماعية والثقافة، وأخرى متحركة تتعلق بالمواقف السياسية الصراعية والقدرات العسكرية.
المشرق والقوى الإقليمية
ومن موازين القوى الثابتة في المشرق العربي، نشير إلى أهمها، وهي (1) ميزان القوى التكويني الناجم عن توازنات التعددية الطائفية والمذهبية والإتنية، تلك التي لا يمكن شطبها، أو شطب مفاعيلها اللاحقة، (2) ميزان القوى الجيوسياسي. والجيوسياسية المشرقية مرتبطة بالحركات الكبرى للقوى الإقليمية والدولية، إيران وتركيا والخليج وإسرائيل. وكلها تقع في سياق المؤثرات السياسية والأمنية للتفاعلات المشرقية.
إيران تفهم هذه الثابتة جيداً. وهي تدرك، انطلاقاً من مشروعها القومي بالذات (فالخطاب الديني الشيعي ليس سوى أداة أيديولوجية فعالة لذلك المشروع)، أن مستقبلها كقوة إقليمية كبرى مرتبط بالمشرق ارتباطاً لا فكاك منه، ينبع من أربع ضرورات أولاً، ضرورة استقلال المشرق عن الأطماع التوسعية التركية، وثانياً، عن المؤثرات الخليجية لجهتين، التبعية الخليجية للولايات المتحدة والوهابية، وثالثاً، ضرورة تحجيم قوة إسرائيل ـ وحتى الأمل بالخلاص منها كوجود طارئ ـ ورابعاً، ضرورة قيام علاقة نفوذ خاصة مع الجار العراقي.
ونحن، كمشرقيين، نرحّب ونتحالف مع الضرورات الإيرانية الثلاث الأولى، ونتحفّظ، كما سيأتي في موقعه، من الضرورة الرابعة، مؤكدين استقلال المشرق، إزاء القوى الإقليمية جميعاً، كشرط لإقامة منطقة أمن جماعي وتعاون وازدهار.
على كل حال، هذه الوقفة سابقة لأوانها في هذا المقال؛ فالمهم الآن أن نرى أنّ هناك من بين القوى الإقليمية الأربع المحيطة بالمشرق، قوة رئيسية من حيث وعيها لمشروعها القومي وأمنها ومصالحها الكبرى، تشكل حليفاً استراتيجياً للمشرق، هي إيران.
وإيران ـ بوصفها دولة مشروع قومي عقلاني بنائي ناجح ـ تتجنب الحرب، لكنها تستعد لها بإخلاص، وتتجه، حتماً، إلى خوضها في اللحظة التي يتعرّض فيها أمنها القومي لخطر جدي. والأمن القومي الإيراني لا يتحقق، في أبعاده الرئيسية، خارج المشرق، وعماده سوريا.
القوى الإقليمية الأخرى، جميعها معادية للمشرق وسلامه ووحدته وازدهاره:
تركيا التي تغتصب الشاطئ الشمالي لسوريا (لواء الإسكندرون) لا تزال لديها أطماع وطموحات إقليمية في الأراضي السورية والعراقية. وهذه الأطماع تركيبية تاريخية، أعني أنها ليست مرتبطة بالإسلاميين ورجب طيب أردوغان، وإنْ كان هذا المغامر قد ظهّرها، ولكنها مرتبطة بمصالح التوسع الرأسمالي التركي الذي يرى في السيطرة على حلب والموصل، ضرورة حيوية لعجلة الاقتصاد التركي.
ويستخدم الرأسماليون الإسلاميون الأتراك، لتحقيق مأربهم ذاك، بصيغة أو بأخرى، المعول الأساسي لتهديم المشرق من خلال إثارة النعرات الطائفية، وتحشيد سنّة المنطقة المطموع بها في سوريا والعراق، بهدف تحقيق انفصالهم الثقافي عن المدى المشرقي ودمجهم، طائفياً، في تركيا.
يتطلب هذا المشروع الاستعماري، بنيوياً، التحالف السياسي والعسكري والاستراتيجي مع إسرائيل لإضعاف سوريا. وهو ما فعلته أنقرة دائماً، ولا تزال تفعله ـ بغض النظر عن المسرحية الهزلية للخلاف المسوّى مع تل أبيب ـ بالإضافة إلى عملياتها الاستخبارية لاقتطاع الأقلية التركمانية في العراق وسوريا، وتحويلها إلى ميليشيات تركية، والتدخل الكثيف في سوريا، ودعم الإخوان المسلمين، واستقطاب التكفيريين الإرهابيين وتقديم كل أشكال الدعم لـ«جهادهم» الإجرامي في سوريا، والهادف إلى فصل الشمال السوري وإلحاقه طائفياً ونفسياً وسياسياً بتركيا.
من سوء الحظ أن مطبخ القرار السوري الذي وقع في الكثير من الأوهام الاستراتيجية في النصف الثاني من العشرية الأولى للقرن الحادي والعشرين، فقد، في لحظة ما، وعيه الاستراتيجي حيال الأطماع التركية في سوريا؛ فذهب مع رجب أردوغان إلى اتفاقات تمس السيادة السورية، وتُضعف الاقتصاد السوري، وخصوصاً في مدينة حلب، أمام المنافسة التركية. لكن الأهمّ أن دمشق، في لحظة ما، توهمت أن الخطر التركي قد زال عنها بفضل حكم الإسلاميين، مع أن هؤلاء هم الشريحة الأكثر عدوانية نحو سوريا والمشرق. إنهم، في العمق، عثمانيون يختزنون أحقاد مئات السنين نحو العرب والقومية العربية.
لكن تركيا، بالمقابل، تعاني من سلسلة من الانشقاقات الداخلية والهشاشة في قوتها الإقليمية؛ فعلى رغم الإنجاز الاقتصادي التركي ـ وهو كبير ـ فإنه يظل مكشوفاً ومعرضاً للأزمات البنيوية؛ فهو يفتقر إلى التراكم الداخلي والتعاضد القطاعي ويرتكز، بالأساس، على العلاقة العضوية مع اقتصاد السوق المعولم، ويخضع، بالتالي، لمؤثرات الأزمات المالية والاقتصادية للرأسمالية العالمية، وخصوصاً من خلال ارتكازه على حرية انتقال رأس المال والاستثمارات الأجنبية والسياحة والعلاقة المضطربة مع أوروبا والعجز التكويني عن المنافسة الدولية في صناعات أساسية. وبالأساس، هناك مشكلة الانشقاق الطائفي والإثني والجهوي في تكوين الرأسمالية التركية.
تركيا نفسها معرضة للانشقاق الطائفي مع المكون العلوي والإتني مع التمرد الكردي، بالإضافة إلى الانشقاق العميق الذي يتكون الآن بين العلمانيين والإسلاميين، والإخوان والعسكر. ولكل ذلك، فإن هوس أنقرة بالحرب الشاملة ضد سوريا لا يعدو كونه مغامرة غير محسوبة العواقب. وهذه الحرب من شأنها إطاحة ليس فقط منجزات تركيا الاقتصادية، بل تهددها بحروب طائفية وإتنية وحركات احتجاج كبرى وانفلات القدرة على ضبط زبائنها من الجماعات الإرهابية.
القوة الإقليمية الثالثة المعادية للمشرق هي الخليج. والخليج، بالطبع، ليس واحداً في مصالحه ومواقفه إزاء المشرق، ولكنه متحد في كيان إقليمي له سياسات تحددها المملكة العربية السعودية ومنافستها قطر. وهاتان الدولتان هما مركزان للوهابية التي هي نسخة من إسلامية صهيونية ـ كالمسيحية الصهيونية ـ المعادية للإسلام المتكوّن، تاريخياً، من العلاقة بين الدين والمجتمعات عبر أربعة عشر قرناً من التجارب المجتمعية الكبرى والأفكار والحوارات والرؤى المستجدة وضرورات الحياة اليومية… إلخ.
الوهابية معادية للإسلام السني الحضاري في المشرق، وللشيعة، وللمسيحيين، وبقية المكونات التعددية المشرقية. وفي عمق التصور السعودي والقطري لإحكام النفوذ الخليجي في المشرق، أن ذلك ممكن من خلال إخضاع السّنة المشرقيين للوهابية وإقصاء كل المكونات الأخرى بالقتل والتهجير والإخضاع، بحيث يكون المشرق امتداداً ثقافياً لصحراء الجزيرة العربية، بما يحقق الانفصال الكامل بين المشرق و«العدو» الذي ترى فيه الرياض، التحدي الرئيسي لوجود المملكة الوهابية، أي إيران.
لكن في العمق، هناك ما هو أكثر من ذلك؛ فالخليج السعودي لا ينسى التهديد الجدي الذي مثّله عراق صدام حسين حين قام بدخول الكويت وتهديد السعودية نفسها. كانت تلك مغامرة من حيث عدم تقدير القيادة العراقية للمرحلة التي أفل فيها نجم السوفيات، وانفردت فيها الولايات المتحدة بقيادة العالم، كذلك إن السياسات العراقية كانت محترقة بعداوات مع بلدين استراتيجيين هما إيران وسوريا، وتعاني من انشقاقات داخلية لها سيماء طائفية وأخرى إثنية (الأكراد). وأخيراً، فإن الجيش العراقي المنهك في حرب طويلة مع الإيرانيين، لم يكن جاهزاً لخوض حرب شرسة ضد الإمبرياليين.
لكن ـ بغض النظر عن كل تلك التفاصيل والأخطاء في السياسات والتقدير ـ سيكون علينا اليوم أن نعيد الحسابات، ونرى إلى حرب الرئيس الراحل صدام حسين على الخليج، في سياقها الاستراتيجي التاريخي، كمواجهة حتمية بين المشرق ـ بحضارته وقدراته وتطلعاته القومية ـ وبين قوى الصحراء الخاضعة للحماية الأميركية والتحالف مع إسرائيل. كانت تلك حرباً مشروعة من وجهة نظر المصالح القومية للمشرق، وقعت في غير زمانها وفي شروط غير ملائمة.
وشرعية هذه الحرب تكمن في ثلاث ركائز هي: (1) التعارض الثقافي الحضاري بين الواحدية الخليجية المتخلفة المعادية للعلمانية والمشروع القومي والتعددية المشرقية الحضارية المرتكزة على مشروع قومي علماني تقدمي، (2) التكوين الخليجي الناجم عن ترابط الثروة النفطية والاستعمار الأميركي والوهابية، يشكل مركزاً للإمبريالية والرجعية ومعاداة التقدم وهدر الثروات واستخدام الأموال لتخريب الأمن والاستقرار ونمط الحياة في المشرق، (3) التواطؤ مع الكيان الإسرائيلي المعدود ضمانة خليجية.
الرئيس الراحل حافظ الأسد ـ بالنسبة إلي ـ شخصية قومية تاريخية فريدة، ومن مشاريعي أن أخصص له دراسة شاملة عن رؤاه المشرقية الاستراتيجية ـ لكنه، عندي، وقع في خطأ الموافقة على المشاركة في ما سُمي حرب تحرير الكويت! انظروا الآن إلى الكويت ـ حتى الكويت ـ وهي تنتقم من عراق صدام حسين بتمويل الحرب الهمجية ضد سوريا بشار الأسد.
الخليج السعودي القطري المتلهف للحرب الأميركية على سوريا، والباكي على تلافيها، يعبّر عن حقد دفين أسود ضد المشرق بالطبع، لكنه يدرك أن ميلاد المشرق الجديد، وخصوصاً في ظل إمكانية صيغة اتحادية سورية ـ عراقية، يشكل تهديداًَ وجودياً للخليج من خلال التحالف المشرقي الإيراني من جهة، والمقاومة المشرقية لتحجيم الحليف الإسرائيلي في ظل انكفاء الولايات المتحدة عن الشرق الأوسط.
لقد آن الأوان لكي نضع النقاط على الحروف؛ فإن الأيدي السعودية ـ ومن قبلها وبعدها ـ الأيدي القَطرية، ترشل بدماء المشرقيين من حلب إلى ريف اللاذقية إلى معلولا إلى الضاحية الجنوبية… بالمقابل، يعرض السيد حسن نصر الله على السعودية، المصالحة التي تؤمن شروط السلام بين المشرق والخليج. ليس أمام الرياض سوى هذا الخيار؛ فسعيها إلى الحرب سيرتدّ عليها، وكونها ماكينة لإنتاج الإرهابيين، واستخدامهم في سياساتها الإقليمية، سيؤدي، حين تعقد التسويات الكبرى في المنطقة ـ إلى إعادة النظر في التركيبة السعودية من الأساس. الأميركيون أنفسهم، ممن يستخدمون السعودية وإرهابها لتحقيق أغراضهم السياسية في المنطقة، يستعدون لمحاسبة السعودية، المعتبرة مجتمعاً ودولة، ماكينة إرهابية. وإخضاع السعودية للتسويات الإقليمية، سيطرح تغييرات عميقة في بنية الحكم في هذه المملكة. ولن يكون ذلك بعيداً.
القوة الرابعة هي إسرائيل. يطمح الإسرائيليون، بالطبع، إلى استخدام قوة الولايات المتحدة لضرب إيران والتخلّص من تهديدها، ويهمهم انجاز ضربة تسقط نظام الرئيس بشار الأسد، وتعزل حزب الله، وتمنح للكيان الإسرائيلي، ليس فقط فرصة التنعّم بالأمن الاستراتيجي، وإنما، بالأساس، فرض الحل الإسرائيلي على الفلسطينيين من خلال إنشاء الدولة اليهودية ـ التي تعني طرد العرب من أراضي الـ48 ـ والاستحواذ على معظم أراضي الضفة الغربية، وحل مشكلة « السكان» الفلسطينيين من خلال صيغة كونفدرالية مع الأردن، هي الاسم الحركي للوطن البديل.
لكن لإسرائيل حساباتها الواقعية إزاء الحرب الشاملة؛ فهي ستتلقى ثلاثة أرباع الرد على العدوان الأميركي. وهي تدرك أنها مكشوفة أمام الصواريخ السورية والإيرانية ومقاومة حزب الله، ومنذ 2006، لم يعد لدى مؤسستها العسكرية، الإيمان بحتمية الانتصار الإسرائيلي. وفي النهاية، فإن إسرائيل ستدفع ثمن الحرب، ولا تعرف كيف ستنتهي، ولا تدرك شروط التسويات اللاحقة بها.
المشرق والقوى الدولية
هناك تصوران ساذجان حيال مصير القوة الأميركية في الشرق الأوسط؛ فأتباع واشنطن التقليديون يؤمنون بها وبقدرتها بصورة دينية، لا يتخيلونها تنكفئ، أما الكثيرون من أعدائها، وخصوصاً كما تتبدى تحليلاتهم في المخيال الشعبي، فيتصورون الأميركيين وهم يحملون حقائبهم ويفرّون. ليس هذا ولا ذاك بالطبع.
النقطة الرئيسية هي أن الاستراتيجية الأميركية حسمت باتجاه أولوية الخطر الصيني. وهو خطر لا يُقارَن بالأخطار على المصالح الأميركية في الشرق الأوسط؛ فهنا، نتحدث عن أخطار فرعية، إنما في الصين، وفي المدى المنظور، فنتحدث عن خطر شامل يهدد مكانة الولايات المتحدة ومصالحها على المستوى العالمي في مجالات تفوّقها الرئيسية؛ فلم تتخطّ الصين، الولايات المتحدة، فقط، في المجال الصناعي والتجارة العالمية والاحتياطيات، بل تتجه إلى منافستها في التراكم الرأسمالي وسوق الطاقة والاستثمارات الدولية، والعلوم والجامعات والتعليم والتكنولوجيا، وأخيراً تتبلور لدى الصين ـ خصوصاً بالتعاون مع الروس ـ إمكانات ضخمة غير مسبوقة للتفوّق على الولايات المتحدة في المجال العسكري.
ويدرك الأميركيون، بدقة، حجم التحدي الصيني الشامل، كما يدركون نقاط الضعف الأميركية التكوينية تجاهه؛ ولذلك، فقد صمموا استراتيجياتهم للمرحلة المقبلة على هذا الأساس، آخذين بالاعتبار خفض أخطاره من خلال مساعي عرقلة وحدة دول «بريكس» المالية، والسعي إلى تفاهمات مع روسيا تستعيد الثنائية القطبية، بدلاً من الأطروحة الروسية البالغة الخطورة عن العالم المتعدد الأقطاب. وهو عالم سيحط من قدر الولايات المتحدة من القطبية الأحادية نحو قطبية تشاركية، قد تكون القطبية الثنائية أخف ضرراً منها. هذا التحوّل الاستراتيجي لا يعني أن الأميركيين سيتخلون عن مصالحهم في الشرق الأوسط، بل التدقيق في حسابات الكلفة في الدفاع عنها؛ ولقد فكروا وساروا وراء إمكانية دعم شبكة الإخوان المسلمين الإقليمية من مركزها القَطري ـ وقَطر، في النهاية، محمية أميركية ـ لاستبدال الأنظمة الحليفة المتهالكة، وتكوين حلف يمتد من أنقرة إلى الدار البيضاء، يكفل المصالح الأميركية، وخصوصاً النفطية، وأمن إسرائيل، وإبعاد شبح التغيير الثوري عن المنظومة الخليجية. وهي السمات التي حكمت ما عُرف بالربيع العربي. وبهكذا جبهة إقليمية ممتدة، محكومة بتحشيد طائفي سني وتنظيم دولي فاشي، ومرتبطة، عضوياً، بالاستخبارات الأميركية، رأت واشنطن أنها يمكنها أن تكون آمنة على مصالحها، ومتسقة مع دعاويها «الديموقراطية»، وقادرة على التوصل إلى حل للقضية الفلسطينية بالشروط الإسرائيلية، من دون كلفة عسكرية أو مالية أو سياسية، مع مكسب يتمثل في زيادة نفوذها وتحسن سمعتها، بينما يؤدي ذلك كله إلى محاصرة التمرد الإيراني وإضعافه، بوسائل إقليمية.
في رأيي أن هذا المشروع كان له حظ كبير من النجاح لو أنه تجاوز ـ ولو موقتاً ـ سوريا؛ ففي سوريا التي صمد نظامها ضد المشروع الأميركي الخليجي التركي الإخواني، انكسرت الموجة كلها وارتدت؛ فتحت ضغوط الحرب على سوريا، تراجعت الصيغة التي وحدت الليبراليين والإخوان لمصلحة التكفيريين الإرهابيين، وتلطخت صورة الربيع العربي بالدماء والفوضى والتفاهمات مع العدو الإسرائيلي والتفجيرات الانتحارية المثابرة في العراق الخ، وبدلاً من فرض الحصار على إيران وحزب الله، انعكست الآية؛ فوقفة الإيرانيين المخلصة إلى جانب نظام الرئيس بشار الأسد كسرت الجدار السياسي والنفسي بين الحركة القومية واليسارية العربية وجماهيرها وبين الجمهورية الإسلامية في إيران، وبدلاً من عزل حزب الله واضعافه، تحوّل الحزب بدخوله البطولي إلى ساحة المعركة في سوريا، إلى قوة إقليمية ومركز لحركة التحرر العربية وتوطدت العلاقات بينه وبين العلمانيين والمسيحيين والمكونات المدنية الأخرى في المشرق.
ثم، في ذروة فشل المشروع الخليجي التركي، جرت محاولة لإنقاذه بتحويل الملف السوري من الدوحة إلى الرياض، فأثبتت أنها أكثر إجرامية وأقل صبراً وأضعف تأثيراً على المستوى السياسي الإعلامي؛ عندها ظهر خيار التهديد بالحرب الأميركية المحدودة التي رُدّ عليه بخيار الحرب الشاملة بكلفتها التي تتخطى الحسابات الأميركية. هنا، حين وصل الأميركيون إلى حافّة الهاوية، وجدوا أن خيار التسويات أقل كلفة وأكثر جدوى. وتلك كانت اللحظة التي أعطت الروس، ميزة المبادرة التاريخية.
منذ مطلع الألفية، تسعى روسيا، تحت قيادة فلاديمير بوتين، إلى إعادة بناء القوة الاقتصادية والعسكرية والدولية لروسيا، بما يردم انقطاع فترة التسعينيات الكئيبة التالية لسقوط الاتحاد السوفياتي. وقد نجحت الدولة الروسية خلال عقد واحد من تشغيل مشروعها القومي، والسيطرة على مواردها، وتحسين أدائها الاقتصادي، ورفع مستوى معيشة أغلبية شعوبها، وتعزيز قدراتها العسكرية. وحين نشبت الأزمة السورية في ربيع 2011 الأسود، كانت روسيا مستعدة لخوض المعركة الدولية للدفاع عن مصالحها ومكانتها ودورها العالمي.
للرئيس بشار الأسد مقولة ذكية وحسّاسة، هي أن روسيا اليوم أقوى من الاتحاد السوفياتي السابق. وهذا صحيح من زوايا عدة، أولها، بنية وديناميكية نظام الحكم، وثانيها التحرر من القيود الأيديولوجية الباهظة الكلفة، مالياً وأمنياً، والحسابات غير الاقتصادية للعمليات الانتاجية، وأعباء الحرب الباردة الأيديولوجية، والمسؤولية المباشرة عن أكثر من نصف العالم. وبعدما غرقت روسيا في عقد يلتسين الانحطاطي، استعادت قوتها. وهي كامنة وكبيرة على كل الصعد. وهي ترنو، بقوة، إلى دور عالمي، لكنها لا تريد الثنائية القطبية المكلفة، بل عالماً متعدد الأقطاب تتوزع فيه المسؤوليات، ويبعد شبح الحروب، ويغير هيكلية الاقتصاد العالمي نحو منظومة علاقات تنموية عادلة.
الكيميائي ومسار التسويات
التسوية، كل تسوية، تعني إطاراً من التنازلات المتبادلة. وفي لحظة هاوية الحرب الأميركية التي تمحورت حول ملف الكيميائي السوري، تقدمت موسكو بمشروع تسوية، يتضمن تنازلاً أساسياً للولايات المتحدة يحفظ مكانتها ويستجيب لمصلحة حليفتها إسرائيل؛ فالكيميائي السوري لم يستخدم وما كان ليستخدم من قبل دمشق في الحرب الداخلية، وإنما كان سلاح ردع ضد النووي الإسرائيلي. مقابل ذلك، كانت هناك أثمان حصل عليها الروس، ظاهرة وباطنة؛ أولاً، وقف التهديد بالحرب، وثانياً الاعتراف بالنظام السوري بوصفه الجهة الملتزمة دولياً تنفيذ تدمير الكيميائي، وثالثاً، والأهمّ، اعتبار التكفيريين الإرهابيين ـ وخصوصاً الدولة الإسلامية في العراق والشام ـ عدواً مشتركاً لكل الأطراف، روسيا وسوريا وأميركا والقوى المسلحة المرتبطة بها في سوريا كـ«الجيش الحر». وعملية المواجهة مع الإرهاب التكفيري الذي غدا بؤرة تهدد السلم الإقليمي والعالمي في سوريا وانطلاقاً منها، هي، بحد ذاتها، تسوية رئيسية ستؤدي إلى مراجعة شاملة للعلاقات الأميركية ـ السعودية، والأميركية ـ القطرية، والأميركية ـ التركية. وهناك تغييرات عميقة تنتظر البنى السياسية في هذه البلدان التي لا تزال تكابر وتضغط لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء. الأمر المهم، هنا، أنه لن يكون مسموحاً بعد اليوم، من وجهة نظر أميركية، اتباع سياسات والقيام بإجراءات وعمليات منفصلة عن الخط المقرر في واشنطن.
هناك ملاحظة لم تلفت الانتباه في اتفاق لافروف ـ كيري حول الكيميائي السوري ـ الذي أوقف الحرب الوشيكة التي كان حلفاء واشنطن ينتظرونها على أحرّ من الجمر ـ وهي أن كيري عقد ذلك الاتفاق من دون أن يبلغ أحداً من حلفائه ـ العرب والإسرائيليين والأوروبيين ـ به، قبل إعلانه. من الآن وصاعداً ستكون هذه هي القاعدة لا الاستثناء.
أجواء التسوية الأولى، خلقت فرصاً مضاعفة للجيش السوري للتقدم الداخلي، وفتح باب الحوارات في الميدان، وتلقّي الأسلحة الروسية التعويضية عن الكيميائي علناً… إلخ، لكن الأهم أنها مهدت لمروحة من التسويات الممكنة، أهمها، على المستوى الدولي، التفاهم الأميركي ـ الروسي على الاعتراف المتبادل بالمصالح في الشرق الأوسط، والتزام عدم القيام بأعمال منفردة. وأما، على المستوى الإقليمي، فعلينا أن ننظر إلى حفلة الغزل الأميركية ـ الإيرانية، وفي هذه الظروف بالذات ووسط نيران الحرب السورية وبعد تسلّم طهران محطة بوشهر النووية من الروس، بما هو أكثر من مجاملات دبلوماسية. الرئيسان الأميركي، باراك أوباما، والإيراني، حسن روحاني، تبادلا خطابين وديين أمام العالم كله في الأمم المتحدة. وهو ما أثار قلقاً جدياً في إسرائيل إزاء امكانية تسوية أميركية ـ إيرانية.
تميل واشنطن، استراتيجياً، إلى تسوية كهذه يحتل الملف النووي فيها بنداً ثانوياً؛ فبالنسبة إلى الأميركيين البراجماتيين، يمكن التفاهم مع إيران، لا مع أعدائها للبحث في ممكنات الإدارة الذاتية للمنطقة، ما يسمح لواشنطن بالمحافظة على مصالحها من دون تحمّل أعباء لم يعد لديها ترف إنفاقها في الشرق الأوسط؛ فأولاً ـ اتضح أن الغزو التكفيري والحرب على سوريا، لم يزحزحا صمود النظام السوري، بل زاداه تجذراً، وثانياً اتضح أن مشروع الشبكة الإخوانية الخليجية التركية للإدارة الذاتية للمنطقة، فشل، ولم يستطع أن يستمر من دون الاستعانة المكثفة بالجماعات الإرهابية التي تحولت قوة رئيسية في سوريا والعراق والمنطقة، وثالثاً، انتهت خطة عزل إيران وحزب الله إلى ما يعاكسها، ورابعاً، تحولت العلاقة الروسية الإيرانية، خلال الأزمة السورية، من علاقات ودية إلى علاقات تحالف تنبئ بولادة محور معادٍ للولايات المتحدة والغرب. وإلى ذلك، فإذا كانت إيران موضع ضغينة غربية بسبب إنجازاتها الاقتصادية والعلمية والدفاعية، فإن حضورها كقوة إقليمية أساسية لم يعد ممكناً تجاهله، وتكتسب ميولها المتزايدة إلى الاعتراف الثقافي بالآخر، واتباع سياسات غير عدوانية، والتزامها ضد الإرهاب، الاحترام.
ممكنات التسوية الأميركية ـ الإيرانية واسعة. وهي تتضمن، حكماً، سوريا ولبنان والعراق والخليج. ولكنها تصطدم، بالطبع، بالموقف من إسرائيل. ليس هناك اليوم خطر حرب مع الإسرائيليين يعرقل التسوية جدياً، ولكن هناك مفاوضات إسرائيلية ـ فلسطينية تهدد القضية الفلسطينية، وتمنح الإسرائيليين غطاءً سياسياً ومعنوياً.
ليست واشنطن ولا طهران منفردتين بالقرار، ولا هما، بالطبع، مقران لإصدار التعليمات للدول والقوى على الأرض؛ فإيران اليوم مرتبطة بحلفها الروسي بأكثر مما يسمح لها بعقد تسوية منفردة، ولكن الروس يشجعون تلك التسوية بما لا يتعارض، بالطبع، مع مصالحهم. كذلك، تظل الولايات المتحدة مرتبطة بإدارة شبكة علاقات معقدة مع حلفائها في إسرائيل وأوروبا والعالم العربي.
كذلك، لن تقبل سوريا بأي تفاهمات مع القوى الإسلامية، بما في ذلك الإخوان الذين لا تزال طهران تغازلهم. وليس لدى العارف بعقلية النظام السوري أنه يتجه، عاجلاً أو آجلاً، إلى الحسم الداخلي. وهو يستفيد من كل تحول دولي أو إقليمي في هذا الاتجاه. وليس يخفى على أحد أن هناك خلافاً في تقدير الموقف من أحداث مصر، بين دمشق التي تقف، من دون التباس، مع الجيش المصري، وطهران الميالة إلى حل مع الإخوان المسلمين. وبينما يعتبر السوريون، حماس جماعة من الخونة، لا يزال الإيرانيون يأملون تصحيح مسار حماس واستعادتها إلى صف المقاومة.
في العراق، هناك، بطبيعة الحال، غزوة تكفيرية إرهابية مجرمة مصممة ممولة سعودياً وخليجياً، لكن هناك، بالمقابل، مَن يمهّد الأرض لهذه الغزوة من خلال إقصاء ما تعتبره أوساط طائفية، «أقلية سنية»، وخصوصاً من خلال ما يسمى اجتثاث البعث أو تلاوينه اللاحقة. العراق لا يمكنه أن ينهض إلا كدولة قومية مدنية علمانية، تنبذ مفهوم الأقلية والأكثرية وتنخرط في مشروع وطني. وفي هذا المشروع الوطني، لا يمكن استئصال جمهور البعثيين. العراق اليوم متعثر على جميع الصعد التنموية والاجتماعية والأمنية. وسيبقى متعثراً إلا إذا أعاد بناء الدولة انطلاقاً من جمعية تأسيسية وطنية مدنية تتخلى عن الإسلام السياسي الشيعي الذي أثبتت التطورات فشله الذريع في إدارة الدولة العراقية، مثلما أثبت الإسلام السياسي السني فشله الكبير في إدارة الدولة المصرية، أو المعارضة السورية التي تحولت، بفضله، إلى تمرد طائفي إرهابي.
في إطار تسوية شاملة، لن يعترض الأميركيون على منح العدالة والمواطنة المتساوية للشيعة في البحرين والسعودية. وسيكون ذلك مهاداً ممتازاً لحل تاريخي في العراق.
في لبنان، أثبت حزب الله أنه قوة وطنية وإقليمية ذات جدارة وحس عال بالمسؤولية التاريخية. وبصورة خاصة، برهن على أنه الحزب الذي يمثّل مصالح الشيعة والمسيحيين، ويمكنه أن يكثف نشاطه السياسي ومبادراته، لكي يبرهن للسنّة على ذلك أيضاً. يتطلب الأمر انفتاحا أوسع، وإبرازاً أكبر للجانب السياسي على حساب الطائفي والديني. ولا أعرف كيف سيحل حزب الله هذا التناقض، لكن من الواضح أن عليه أن يقوم بمراجعة شاملة تأخذ بالاعتبار الفشل الدراماتيكي للإسلام السياسي بشقيه، وللمنظمات الإسلامية، بما فيها تلك التي تدعي المقاومة. من دون المساس بالحق في المقاومة، وخصوصاً في الجبهة الجديدة المرشحة في الجولان، يمكن أن تؤدي التسوية الروسية الإيرانية الأميركية إلى تفاهم غاز ـ يشبه تفاهم نيسان 1996 ـ أي تحييد إنتاج الغاز والنفط في الكيان الإسرائيلي ولبنان عن الاشتباكات الممكنة. وهي، في رأيي، القضية الجوهرية التي تنبغي مناقشتها على جدول أعمال حوار وطني في لبنان المحتاج إلى قرار وطني للشروع في الاستفادة من ثرواته.
الفلسطينيون في وضع كارثي؛ فالشق السلطوي الفتحاوي اندرج في مفاوضات مع الإسرائيليين قبل أن تتضح موازين القوى الإقليمية والدولية. وهي تعدلت وتتعدل لمصلحة الفلسطينيين، ما يجعل الاستمرار في تلك المفاوضات بلاهة استراتيجية. أما الشق السلطوي الحمساوي، فقد اندرج، بدوره، في المشروع الإخواني، وقد انكسر بانكساره، بحيث تحوّل إلى العزلة والانتحار، فيما يصرّ على اتباع سياسات تجعل من حماس التي كانت ذات يوم محل التأييد الشعبي العربي، مكروهة من قبل التيارات القومية واليسارية وأغلبية الشعب السوري واللبناني والمصري والأردني، بالإضافة إلى نصف الشعب الفلسطيني على الأقل. هكذا أصبحت فلسطين بلا مفاوضين ولا مقاومين؛ ولعل الحل يكمن في بناء جبهة مستقلة تشمل قوى المقاومة من التيار الوطني في فتح والمقاتلين الإسلاميين دون قياداتهم والجبهة الشعبية وعناصر قومية ويسارية أخرى، جبهة تكون من القوة بحيث تشكل بديلاً تاريخياً.
وأخيراً، يدعو وضع الأردن إلى الألم؛ فهو فشل في بناء نموذج تنموي يحرره من الحاجة الملحة للمساعدات المالية. وهي تأتي، عادة، مقابل خدمات سياسية، قد لا تعود مطلوبة في المدى المنظور. مصالح الأردن لتجاوز المشروع الصهيوني للوطن البديل تدفعه نحو الالتحاق بمحور المقاومة، بينما بنية النظام الأردني لا تسمح بذلك. ولا يعود أمامه سوى اللعب على الحبال في الوقت الضائع.
* كاتب أردني

Posted in Uncategorized.