*
تقدمت مجموعة من طلبة إحدى الجامعات الأردنية الخاصة بمذكرة إلى إدارة جامعتهم، تطالب بزيادة الرسوم والأقساط (!) بحيث يغدو صعباً على غير أبناء نادي الأثرياء أن يشاركوهم حياتهم الجامعية ذات الخمسة نجوم! فما الذي حدث في بلد كان يخجل ميسوروه ممّا يمتلكونه، ويحافظون على نمط حياة قريب من نمط حياة أقربائهم، في مجتمع عشائري مساواتيّ لا يمنح أي امتياز معنوي للثراء؟
يقود نادي الأثرياء في الأردن اليوم انقلاباً على الصعيد القيميّ، متمّماً للانقلاب الاجتماعي ـــ السياسي الذي وضع السلطة والثروة في أيدي الأقلية. لقد حقق الأردن في السنوات الأخيرة معدلات نمو جيدة، تدور حول 6 في المئة سنوياً. ولكن الأغلبية لم تفد من هذا النمو، بل يبدو أنه تحقق على حسابها. وبالأرقام، أصبح أغنى 2 في المئة من الأردنيين يملكون وحدهم 13 في المئة من الدخل. وهؤلاء هم أعضاء الطبقة الجديدة من السياسيين المرتبطين بالرأسمال الأجنبي ووكلائه. وبالمقابل، يملك أفقر 30 في المئة من الأردنيين 11 في المئة فقط من ذلك الدخل، وهؤلاء هم مدقعو الفقر والجياع.
وبالمحصلة، فإن اللوحة الطبقية في الأردن، كما ترسمها دراسة إبراهيم سيف وياسمين الطباع (مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، تموز 2008) واضحة الملامح من حيث انقسام المجتمع الأردني إلى أغنياء يتناقصون وفقراء يتزايدون، بينما تتلاشى الطبقة الوسطى ككتلة اجتماعية.
وتشير دراسة سيف والطباع إلى ثلاث فئات تُعدّ «الأغنى» في الأردن هي: أولا فئة الـ2 في المئة الذين يملكون 13 في المئة من الدخل، وثانياً فئة الـ10 في المئة الذين يملكون 30 في المئة من الدخل، وثالثاً فئة الـ30 في المئة الذين يملكون 60 في المئة من الدخل. ولكننا نستطيع، من خلال مؤشرات الدراسة نفسها، أن نؤكد أن عضوية تلك الفئة الثالثة في نادي الأثرياء هي عضوية مؤقتة، ناجمة عن بيع الأصول العقارية، لا عن الفعالية في النمط الاستثماري الجديد القائم على الشراكة بين المستثمرين الأجانب والكمبرادور المحلي.
وبالنظر إلى الاتجاه التضخمي المتصاعد محلياً ودولياً، فإن الضغوط ستشتدّ على الشرائح الدنيا من الأثرياء المؤقتين، بحيث تلتهم ثرواتهم غير المتجددة. وفي رأينا أن اتجاهات الفرز الطبقي في الأردن سوف تتعمق، ما لم تتغير السياسات الاقتصادية الحالية في السنوات القليلة المقبلة. وستتلاشى المساحة المصطنعة بين الفئات الأغنى والفئات الأفقر، بعدما تستكمل العائلات الوسطى التقليدية بيع الأصول العقارية، وبعدما يستهلك التضخم الأثر الإنقاذي للتحويلات المالية لدى الأسر التي لها معيلون خارج البلاد.
لن تنفع أية وصفة من وصفات «مكافحة الفقر» أو صرف الإعانات أو أعمال الخير أو حتى زيادة الرواتب، في منع المزيد من الاستقطاب الطبقي الحاد، عدا عن التخفيف من أثره. وذلك للأسباب التالية:
1 ـــ إن الاقتصاد الأردني المعولم بموجب اتفاقات دولية وسلة من قوانين تسهيل الاستثمارات الأجنبية وتحرير السوق، مكشوف بالكامل على المؤثرات الخارجية من طرف واحد وبصورة غير تنافسية، ليس فقط في مجال الطاقة والغذاء، بل في كل المجالات تقريباً، بما فيها الخدمات. وهو ما يعني أن المستهلك الأردني يشتري السلع والخدمات بالأسعار العالمية، بينما يحصل على أجره وفقاً للمعايير المحلية. ولا يمكن في ظل نمط الاستثمارات ومستوى الإنتاجية الحاليين في البلاد، تحقيق معادلة عقلانية بين الأسعار العالمية والأجور المحلية إلا بالتدخل الدولتيّ الحمائي، وهو أمر غير مطروح في السياسة الرسمية، أو بضمان زيادة الأجور وفقاً للزيادة الفعلية في التضخم، وهو ما لا يستطيع الاقتصاد الأردني أن يتحمّله.
2 ـــ إنّ الاستثمارات الأجنبية المتركزة في قطاعات العقارات والتجارة والخدمات، ليست مولّدة لفرص العمل، لا من حيث الكمّ ولا من حيث النوع. وإلى كونها مستوردة للعمالة الوافدة، وخصوصاً في قطاع البناء، فهي ذات آثار تضخمية مستهلكة للأجور، بالإضافة إلى أنها تطرد المؤسسات الصغيرة والمتوسطة من السوق، وتمنع المنافسة، وتستأثر، جراء ثقلها السياسي، بالامتيازات والعقارات الحكومية والنصيب الأكبر من التسهيلات الائتمانية.
3 ـــ وبينما ساهمت خصخصة المناجم تحديداً، في حرمان البلاد من الارتفاع الهائل في أسعار البوتاس والفوسفات، فإن المساعدات الأجنبية التي ترد إلى الخزينة لا تكاد تغطي العجز في الموازنة العامة. وبالمقارنة بين تلك المساعدات وما تدفعه الخزينة من أقساط وفوائد المديونية وإعفاءات الاستثمارات الأجنبية، فإنّ الحصيلة النهائية سلبية بالنسبة للمالية المحلية.
4 ـــ إنّ السياسات المالية تقوم على التمييز ضد الفقراء والمشاريع الصغيرة لمصلحة تكثيف الدعم وزيادة الإعفاءات والتسهيلات للمستثمرين الكبار والأجانب.
وقد بيّنت دراسة سيف والطباع أن الفئات الأفقر تتحمل، من خلال ضريبة المبيعات، العبء الضريبي الأكبر. وفي التحليل الأخير، تموّل هذه السياسات موازنة منحازة إلى رجال الأعمال الأثرياء.
ولعل هذه المؤشرات الاقتصادية هي القاعدة لعملية انقلابية شاملة من التحوّلات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي قادتها الليبرالية الجديدة المسيطرة على القرار في الأردن. وهذا الاتجاه للانغلاق الطبقي يقوم، بالطبع، على جملة تغييرات عميقة أدت إلى سقوط آليات صعود النخب:
1ـــ فقد اشتهر الأردن، تقليدياً، بنظام تعليم عام جيد المستوى ومفتوح طبقياً. وفي وقت ما، كان الطلبة الأقل ذكاءً وموهبة هم الذين يذهبون إلى المدارس الخاصة، في حين كان التعليم الحكومي يفخر بمدارس رفيعة السمعة مثل «كلية الملك حسين» للذكور و«مدرسة زين الشرف» للبنات. وكانت الجامعة الأردنية، شبه المجانية، معترفاً بمتخرّجيها ككادرات مؤهلة. وإلى ذلك وفوقه، كان الآلاف من أبناء الأسر الكادحة يستطيعون الحصول على دراسة جامعية مجانية ومدعومة من الحكومة والجيش والأحزاب، في الجامعات الأميركية والأوروبية والعربية.
2ـــ عضوية النادي السياسي كانت تمثّل، أيضاً، آلية للصعود الاجتماعي، في ظل نظام يقوم على بيروقراطية قوية متنامية الدور والنفوذ، ومدعومة برواتب جيدة بدينار قوي. وكان هذا النظام البيروقراطي يحتاج إلى كادرات متعلمة، وخصوصاً مسيسة من المثقفين الموالين أو، وهذا أفضل، من المثقفين المدربين لدى المعارضة. وقد تقلّصت الفرص في هذا المجال حتى تكاد تنعدم، بالنظر إلى تراجع مكانة القطاع العام ودوره، ومنح امتيازاته إلى كادرات من خارجه.
3ـــ الآلية الثالثة للصعود الاجتماعي في الأردن، تمثلت هي الأخرى في الدعم السياسي الذي تقدمه العشائر لأبنائها، وخصوصاً المتعلمين والمسيّسين. لكن العشائر الآن هي التي تحتاج إلى دعم اجتماعي بالمعنى المحدد للكلمة.
4ـــ حتى نهاية التسعينيات، كان الشباب من المهنيين ورجال الأعمال الصغار، قادرين على تطوير أعمالهم الخاصة في سوق تنافسي مفتوح في مجالات عديدة لرؤوس الأموال الصغيرة. وقد شهدت هذه المجالات، في العقد الأخير، إما الاندحار تحت تأثير المنافسة الأجنبية بلا حماية، وإما الخروج من السوق أمام الاحتكارات الأجنبية ووكلائها المحليين.
5ـــ الاغتراب، وخصوصاً في دول الخليج، كان في السابق آلية مضمونة للصعود الاجتماعي. ولكن بالنظر إلى لبرلة الاقتصادات الخليجية، والتضخم في المغتربات والبلاد، لم يعد العمل في الخليج، بالنسبة للأغلبية، مجالاً لتكوين الثروات، بل أحياناً لمجرد إعالة الأسرة الصغيرة، ومساعدة الأهل في الأردن على التقليل من شظف العيش.
الآلية الوحيدة الباقية للصعود الاجتماعي هي بيع الأصول العقارية. وهي، على رغم ما تتيحه من أموال سريعة، آلية ذات طابع مؤقت، ومن شأنها أن تفاقم التضخم، وتحرم الأسر من ممتلكاتها.
* كاتب وصحافي أردني
الليبراليّة الجديدة: «النموّ» علـى حساب المجتمع والوطن
Posted in Uncategorized.