لاجئون سوريون في الأردن (محمد حامد ــ رويترز)
أسقط الحراك الشعبي العربي في السنتين الأخيرتين، جملة الأوهام حول البديل الليبرالي؛ تبيّن أنّ مداه لا يتعدى، في أفضل الحالات، تغيير النخب الحاكمة، لا المضامين السياسية والاقتصادية والاجتماعية للحكم الذي بقي بين أيدي الفئات الكمبرادورية المرتبطة بالغرب الامبريالي والرجعية الخليجية. لا جديد يبشر الفقراء والمستغَلين والعاطلين وسكان أحزمة البؤس والمتسربين من التعليم والمحرومين من التأهيل التنافسي. لا جديد يبشر بكسر حلقة التخلف وإحداث القفزة التنموية. لا جديد في ميدان الحقوق الاجتماعية والخدمات العامة، ولا جديد في العلاقة التبعية مع الغرب والخضوع للمشروع الصهيوني. الجديد الوحيد هو في المجال الثقافي، حيث بدأت بالفعل الهجمة على كل مناحي التنوير والمدنية، صوب شمولية ثقافية رجعية معادية لحرية العقيدة والفكر والحق في اختيار نمط الحياة الشخصي، وتقوم على إطلاق الغرائز العدوانية للعصبيات المذهبية والطائفية والاتنية من كل لون وشكل، وعلى التعصّب الأعمى ضد الاختلاف الثقافي، وعلى الإرهاب المستهدف فرض نموذج وحيد لحياة العرب، هو النموذج الوهابي.
وليس ما حدث ويحدث في مصر وتونس ـ حيث نجح التغيير الليبرالي ـ هو انحراف عن الليبرالية، بل هو نتيجتها الحتمية في الظروف العيانية القائمة. فقد مثّل استبعاد البرنامج الوطني الاجتماعي، وبالتالي استبعاد المساس بالأنظمة الكمبرادورية السياسية والاقتصادية، الأرضية المواتية لهيمنة الخطاب الديني الإخواني السلفي المتدحرج نحو الوهابية، سياسياً، وتحوُّل قواه، بدعم أميركي خليجي، إلى أداة جديدة، أسوأ من سابقتها، لإعادة انتاج النظام الكمبرادوري وعلاقاته الاجتماعية الداخلية وسياساته الخارجية في السياق السابق نفسه.
لكن، في سوريا، تحطمت كل الأوهام من كل الألوان. الوعي الليبرالي انزلق وذاب في وعي طائفي مذهبي رجعي، ومن ثم في وعي لا وطني وإرهابي. وهو مسار حتمي؛ فشعار: «حرية» المفقَر من كل مضمون وطني اجتماعي، كان لا بد له أن ينتهي، في ظروف سوريا، إلى خلق حاضنة محلية للغزو الإرهابي الأجنبي والتعاون مع أجهزة الاستخبارات الدولية، والتحوّل من موقع المعارضة الليبرالية إلى العمالة الصريحة والقتل على الهوية. والمثال «الباهر» هنا هو انتقال مثقف ليبرالي مثل عزمي بشارة ــ يعيش تحت سلطة ممالك النقط والغاز ــ إلى التبرير الفكري الصريح للنشاط الإرهابي في سوريا. بالمقابل، سقطت أوهام الفصل التعسفي بين السياستين الخارجية والداخلية؛ إذ تبين أنه كان من المستحيل إدامة سياسات الممانعة والمقاومة مع اتباع السياسات النيوليبرالية وسيطرة الكمبرادور على قطاعات ومجالات اقتصادية وخدمية أساسية وتعمق نظمة الامتيازات واختلاط السياسة بـ«البزنس» والفساد، كما أنّه كان من المستحيل الحفاظ على الدولة القومية المستقلة ونهجها السياسي في ظل العلاقات الانتهازية مع الغرب وتركيا والخليج. وهو ما طرح، في النهاية، الضرورة الموضوعية لانسجام الخيارات والسياسات. والتحدّي المطروح أمام سوريا اليوم هو مواجهة الذات؛ في خيار وطني اجتماعي يذهب نحو الحدود القصوى الممكنة موضوعياً، أو الانهيار تحت ضربات الحصار والإرهاب والخروق الأمنية.
ما البديل؟
بالتأكيد فإنّ البديل ليس بالطبع العودة إلى القديم وترميمه. هذا وهم ورجعية مهما كانت الشعارات، وليس اليأس والعدمية. فهذه هي طريق صريحة لانحلال الأمة لا بالمعنى المجازي، بل بالمعنى العياني في سيناريو يتحول فيه العرب والمسلمون إلى فائض سكاني مفقَر له وظيفة محددة في خطط الإمبريالية هي تزويدها بالنفط والغاز وعوائدهما… وبجيوش من السلفيين الجهاديين لخوض معاركها تحت راية الإسلام السياسي. وعلينا أن نبحث اليوم جدياً في هذا السيناريو: فبسبب أزمتها الاقتصادية التاريخية من جهة، وبسبب مستجدات ولادة تعدد القطبية من جهة أخرى، غدت الإمبريالية ـ التي لا تستطيع فرض هيمنتها على العالم إلا بالقوة ـ منزوعة الأسنان. فهل تجد في القدرات الإرهابية لبعض قوى الإسلام السياسي، أسنانها الجديدة؟
سؤال مطروح اليوم، وسيكون مطروحاً بقوة إذا ما نجح التدخل الإرهابي في سوريا، إذ يمكن نقله، عندها، إلى روسيا نفسها. يعني ذلك أنّ المعركة مع الإسلام السياسي بنسخته الإرهابية أصبحت اليوم معركة كونية. ويخوضها الجيش العربي السوري، لا دفاعاً عن مستقبل سوريا والمشرق والعرب فقط، وإنما دفاعاً عن مستقبل التقدم العالمي أيضاً.
نحن نقترح لسوريا والمشرق والعرب، بديلاً تاريخياً مختلفاً يقوم على إعادة بناء الذات في مشروع تنموي وطني يحقق الخبز والكرامة الإنسانية والقومية والعدالة الاجتماعية والحرية، في ربيع مختلف، عماده تجديد حركة التحرر الوطني.
وللمفارقة، فإنّ صحافياً ليبرالياً يعمل ايضاً تحت سلطة الخليج، لكنّه من أصول مثقفة، هو حازم صاغية، يستذكر في مقال له في صحيفة «الحياة»، عدّة عناصر داعمة للرئيس بشار الأسد، يرى أنها من بقايا «التحرر الوطني». وهذه عنده، بالطبع، قرائن إدانة جديدة لمخلفات ماض يظنه انتهى ويلفظ أنفاسه الأخيرة تحت معاول إرهابيي الوهابية. لكنها، عندنا، قرائن على موجودات يمكن البناء عليها.
لا شيء، عند صاغية، يستحق النقاش. فخطابه قائم على ما نسميه في الأردن «تخنيث الهرج»، أي جعل الحديث خنثى وتسطيحه وتتفيه مضامينه ومراميه وتحويله إلى ثرثرة. لذلك ننتقل إلى مباشرة حوار جدي نرجو أن يجد، في صفوف المثقفين الوطنيين، صداه الذي يستمد ضرورته من الضرورة التاريخية الراهنة لبناء حركة وطنية اجتماعية جديدة في المشرق.
لماذا المشرق؟
أولاً، لأن الصراع في سوريا أظهر حقيقة رئيسية آن الأوان لوضعها على أجندة البحث. وهي تتمثل في الترابط العضوي القائم بين سوريا ولبنان والأردن وفلسطين والعراق. لقد تبيّن أنّ لهذه البلدان الخمسة فضاء سياسي واحد، إذ إنّ الصراع في الجمهورية العربية السورية، انتشر على شكل انقسام حاد شمل بلاد الشام كلها، وعطّل السياسة الداخلية فيها، وأرخى بظلاله العميقة على العراق، وأعاد تموضع هذا البلد المركزي كقوة مشرقية سوف تتعاظم رؤيتها لنفسها خارج السياقين، الخليجي والإيراني، معاً.
ثانياً، لأنّ عناصر التركيب المجتمعي التعددي، وتداخلها وتعقيداتها تتشابه، بل تمتد بهذا القدر أو ذاك، بين الأقاليم المشرقية، بحيث يصعب، لأي منها، النأي بالنفس عما يحدث لدى الجيران.
ثالثاً، لأنّ التراث الثقافي السياسي، رغم الخصوصيات المحلية، يتلاقى في عناوين واتجاهات كبرى، تميّزه عن الخليج من جهة، وعن مصر من جهة أخرى. وسأتوقف، هنا، عند ملمحين ظاهرين: فالعشائر العربية في ثلاثة بلدان رئيسية من الهلال الخصيب هي سوريا والعراق والأردن هي، رغم الاختلافات، تتموضع في سياق ثقافي تراثي سياسي واحد إزاء عشائر الجزيرة والخليج. وتمثّل عشائر الهلال، تاريخياً، عمود العرب، بينما يمثّل مسيحيو بلاد الشام دينامو العروبة. ولا تجمع هؤلاء ـ الذين استعادوا، في حمأة الصراع السوري، نظرتهم إلى أنفسهم كجسم مشرقي واحد ـ مع أقباط مصر، أية روابط روحية أو تشابهات مجتمعية أو ثقافية أو سياسية.
رابعاً، يمثّل الصراع مع إسرائيل قضية مركزية تقع في قلب الفضاء السياسي للمشرق (بينما تبين أنها قضية يمكن تحييدها، واقعياً، في مصر) ويقع المشرق وحده، أيضاً، بين فكّي العلاقة الملتبسة مع كل من تركيا وإيران.
خامساً، إنّ قوى التحرر الوطني في مرحلتها السابقة من لحظة النهضة الأولى إلى الشيوعية العربية والقومية العربية والسورية والبعث والفصائل الوطنية الفلسطينية والعراقية واللبنانية، عرفت نشأتها الأولى وانجازاتها الفكرية والثقافية والسياسية في المشرق أصلاً.
سادساً، القوة الباقية من المرحلة السابقة للتحرر الوطني تتمثل اليوم في الدولة السورية التي سوف يمثّل انتصارها على الغزو الإرهابي الدولي، محطة تاريخية بالنسبة إلى كل بلدان المشرق، سواء لجهة المواجهة مع الخليج وإسرائيل أو لجهة إعادة تعريف العلاقة مع تركيا وإيران أو لجهة اكتشاف الذات المشرقية في مشروع وحدوي، وخصوصاً في مجالي التنمية والدفاع.
التحرر الوطني: المفهوم والحركة
التحرر الوطني مفهومٌ مركّب؛ فهو يتضمن من جهة أولى التحرر من الاستعمار و(أو) السيطرة الإمبريالية و(أو) التبعية السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية للمراكز الامبريالية. ويتضمن، من جهة ثانية، التحرر من شروط التخلف الداخلية المعرقلة لنموّ قوى الانتاج والتشغيل والتنمية المستقلة المتعاضدة داخلياً، أي الاعتمادية المتبادلة بين القطاعات الاقتصادية المحلية والسيطرة على العلاقات الخارجية وفق معادلة التعاون وتبادل المصالح لا وفق المعادلة الكمبرادورية. ويتضمن، من جهة ثالثة، التحرر من العلاقات الطبقية القهرية والامتيازات التي تعرقل التقدم. (والجملة الأخيرة ليست وصفاً لتلك العلاقات التي ستظل قائمة لحقبة ربما تطول، لكن لما يعرقل التنمية والتشغيل منها)، ويتضمن، من جهة رابعة، التحرر من إرث الثقافة القروسطية كالطائفية والمذهبية والجهوية وكذلك الامتثالية السياسية (التي فشلت الأنظمة الاشتراكية والتقدمية في دحرها، بل أكدتها وعممتها) والانتهازية الفردية وعقلية الربح والتربح ومعيارية الثراء المادي والفقر الروحي والعقلية الاستهلاكية والحط من قدر النساء الخ. ويتضمن، من جهة خامسة، النظام الديموقراطي الاجتماعي المنفتح نحو الاشتراكية. ويتضمن هذا النظام، آليات ضريبية وسواها من الآليات التي تتيح الإعادة المنظّمة لتوزيع الثروة على المستوى الوطني، والتنمية المتوازنة للمراكز والأطراف، والمساواة في الفرص الاقتصادية، وشمولية التعليم والتأهيل والثقافة والرعاية الصحية والطبية المجانية واللائقة، وتمكين الأسر من السكن اللائق والخدمات (الماء والطاقة) وشبكات المواصلات المنظمة والرخيصة الخ. ويتضمن، من جهة سادسة، التمكين القانوني والواقعي للفرد، رجلاً كان أو امرأة، من اختيار نمط الحياة الشخصي المتحرر من كل قيد شرعي أو اجتماعي وصيانة حقوقه الانسانية في إطار قانون مدني ليبرالي. وهذه هي المساهمة الوحيدة اللازمة من الليبرالية في فكر التحرر الوطني. وفي ما يخص حركة التحرر الوطني العربية، فقد وجدت نفسها، إضافةً إلى المهمات المطروحة على شعوب العالم الثالث في العرض المار ذكره، في مواجهة مهمتين: الوحدة بوصفها مهمة أساسية لتحقيق التنمية المستقلة، ومواجهة إسرائيل بوصفها قوة تدخل امبريالية، من دون أن ننسى، بالطبع، اغتصابها بلداً عربياً وتشريدها للفلسطينيين.
هنا سؤال رئيسي بالغ الأهمية واجه، ويواجه فكر وممارسة حركة التحرر الوطني العربية: هل الصراع مع إسرائيل، أم القضية الفلسطينية ما يمثل المسألة المركزية؟ يقود الشق الأول إلى مواجهة مصيرية مع الصهيونية والإمبريالية، بينما يقود الشق الثاني إلى إمكانية التفاهم معهما لتسوية «عادلة» للقضية الفلسطينية يمكن أن تشرف عليها الولايات المتحدة وتقود إلى السلام مع إسرائيل؟
واقعياً، تصاغر السؤال ـ على المستوى المصري ـ إلى ما يلي: القضية الفلسطينية أم استعادة سيناء فوراً بالسلام وتلافي المجهود الحربي؟ ثم انزلق السؤال إلى: القضية الفلسطينية أم المصالح المؤقتة للنظام الأردني؟ بل وحتى القضية الفلسطينية أم مصالح الفلسطينيين؟
للإنصاف، ينبغي القول إن السياسة السورية بقيت، من حيث مضمونها، تمنح الأولوية للصراع مع إسرائيل كقضية مركزية، وليس حل القضية الفلسطينية أو حتى استعادة الجولان سلمياً. وهذه السياسة هي عنصر من العناصر الباقية الصلبة للتحرر الوطني في سوريا.
من المفهوم إلى الممارسة، يتطلب التحرر الوطني إزاحة الفئات المسيطرة في القطاعات الاقتصادية الرئيسية (المال والعقارات والزراعة والتعدين والطاقة والنقل والاتصالات…) وإحداث قطيعة مع كل النشاطات ذات الطابع الكمبرادوري في كل المجالات، وإنهاء دور القطاع الخاص في الخدمات المدنية، وخصوصاً التعليم والطبابة. وكل ذلك وسواه سوف يؤدي إلى صدام مع القوى الاجتماعية المتضررة وحلفائها ونخبها السياسية والاعلامية والثقافية الخ. ومن المضحك التفكير في حل هذا الصدام الداخلي المركّب على صدام خارجي مع القوى الامبريالية وحلفائها، بوسائل الديموقراطية الليبرالية الانتخابية. إنّ التماسك الفكري والجدية السياسية يدفعاننا إلى التصريح بوضوح صارم بما يلي: إنّ التحرر الوطني غير ممكن إلا بالدكتاتورية ضد الفئات الكمبرادورية والرجعية.
الدكتاتورية؟ يا للهول! سوف تنزل على رأسي اللعنات! لكن فلنسمِّ الأشياء بأسمائها.
ماذا في مصر، مثلاً، غير دكتاتورية تحالف الكمبرادور والعسكر، المرتبط بالاستعمار الأميركي. وسواء استخدم هذا التحالف حسني مبارك أم محمد مرسي فالأمر في النهاية سيان: الحريات المسموح بها هي تلك التي لا تهدد مصالح التحالف الحاكم، والانتخابات ـ سواء المزورة بالإدارة أم بالرشى ـ ينبغي أن تدور على الملعب الكمبرادوري العسكري. بالمقابل، الدكتاتورية الوطنية الاجتماعية المعبرة عن مصالح الكتلة الشعبية من العاملين بأجر والكادحين في مُلكياتهم الصغيرة، سوف يكون لها ملعبها الديموقراطي الحقيقي؛ انتخابات تنافسية بين قوى التحرر الوطني وحريات التنظيم السياسي والنقابي والاجتماعي للكادحين وصحافة مهنية حرة من الرقيب ومن التمويل البرجوازي معاً.
إنها دكتاتورية، لكن ضد الفقر والتهميش ـ لا ضد الفقراء والمهمشين ـ إنها دكتاتورية الديموقراطية الاجتماعية التي ستمنع، بقوة القانون، أي مساس بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية للأغلبية الشعبية، دكتاتورية ضد الكمبرادور والسياسات النيوليبرالية والامتيازات الطبقية. دكتاتورية تؤمّن الدور القيادي للقطاع العام الاقتصادي والخدمي. دكتاتورية ضد الفساد والفاسدين والإثراء غير المشروع والتهرّب الضريبي… الخ. دكتاتورية ضد التمويل الأجنبي وشبكات التعاون مع القوى الإمبريالية والرجعية.
لكننا نؤكد، هنا، على أن الدكتاتورية الوطنية الاجتماعية سوف تتعفّن إذا لم تكن دكتاتورية ديموقراطية تنبذ الاستبدادية الفردية والسلطوية وتحافظ، تحت أقسى الظروف، على حصانة حقوق الإنسان وكرامته.
والتحرر الوطني غير ممكن من دون السيطرة على مجال العلاقات الخارجية، وإخضاعها للمصالح الوطنية. وهو ما يعني الصدام مع القوى الإمبريالية. وبالنسبة إلى حركة التحرر الوطني العربية، فإنها لا تستطيع تلافي الصراع الحتمي مع الرجعية والصهيونية. وفي الممارسة، ينبغي خوض ذلك الصراع بأعلى قدر من الحكمة والتصميم معاً، وفق حسابات دقيقة لموازين القوى، لكن من دون التخلي، لحظة واحدة، عن المنطق الصراعي مع الأنظمة الخليجية وإسرائيل.
كان «التضامن العربي»، أي سياسة المصالحة بين الأنظمة العربية الرجعية، وفي مقدمتها السعودية، إحدى نتائج هزيمة حزيران 1967. وقد افتتحها الرئيس جمال عبد الناصر، وقتذاك، تعبيراً عن اختلال موازين القوى بين حركة التحرر الوطني العربية وأعدائها من العرب. وقد استمرت هذه السياسة، بعد رحيله، وتعززت، وخصوصاً بعد حرب تشرين وتدفق البترودولار، إلى الحد الذي نقل قيادة العالم العربي من القاهرة وبغداد ودمشق إلى الرياض قبل أن يبلغ الانحطاط مداه ويحط الرحال في الدوحة، لكن، كانت هناك لحظة قصيرة واحدة، في 1990، حاول الرئيس صدام حسين فيها، كسر سياسة التضامن العربي من خلال احتلال الكويت، ضارباً عرض الحائط بموازين القوى الإقليمية والدولية، لحظة أدت إلى انتصار شامل معاكس، لكن المهمة التي تصدى لها صدام حسين تظل مطروحة؛ لا مستقبل لحركة التحرر الوطني العربية من دون مواجهة شاملة مع الأنظمة الخليجية، والنضال، وفق حسابات تستثني المغامرة، لتفكيكها وإخضاعها واخضاع ثروات الخليج لمصالح التنمية المستقلة في العالم العربي.
انتهت هزيمة حزيران (ونتيجتها التضامن العربي) إلى سياسة السلام مع إسرائيل. ومن الملاحظ أن هذه السياسة لم تنعزل عن التراجع الداخلي عن سياسات التنمية المستقلة والديموقراطية الاجتماعية، مما يدل على العلاقة العضوية بين البرنامج المضاد لحركة التحرر الوطني العربية والسلام مع إسرائيل. وسوف نتذكر أن عهد الرئيس أنور السادات تمحور حول خطين سياسيين: الانفتاح الاقتصادي (الانتقال نحو الكمبرادورية) والسلام مع إسرائيل (الصلح والتعاون والتنسيق الأمني). وهذان النهجان المترابطان لا يزالان يحكمان السياسة المصرية حتى الآن، على رغم «ثورة 25 يناير» التي لذلك نعُدّها انتفاضة جزئية تمكنت الأنظمة الحاكمة من استيعابها بتسليم المواقع القيادية في الدولة إلى الإخوان المسلمين، الذين يؤيدون، بجلاء، الاقتصاد الكمبرادوري. وهو ما يجعلهم مجبرين، شاؤوا أم أبوا، على قبول كامب ديفيد والتنسيق مع تل أبيب، تحت الرعاية الأميركية. إنها حزمة واحدة من السياسات: «الصداقة» والتبعية (وخصوصاً العسكرية) للإمبريالية الأميركية، والتحالف مع السعودية، والكمبرادورية، والسلام مع إسرائيل.
في النموذج السوري البالغ التعقيد، كانت دمشق تراوح بين سياسة التضامن العربي ـ وخصوصاً مع السعودية ومصر حسني مبارك ـ والاستمرار في رفض توقيع معاهدة سلام مع اسرائيل، ودعم المقاومة وتواصل التحالف العسكري مع روسيا في أفق «حتمية السلام». وداخلياً ترافقت هذه الحزمة المتداخلة من السياسات مع اضطراب في النهج الاقتصادي الاجتماعي انتهى بسيطرة الكمبرادورية، نسبياً، في القطاعات المالية والعقارية والخدمية. وهو ما أدى إلى انفراط التحالف الوطني الاجتماعي الهشّ أصلاً.
لكن سوريا هي البلد العربي الوحيد الذي لا يزال يشتمل على مواقع أساسية لقوى التحرر الوطني. ومن المأمول أن تعيد تجربة الحرب الوطنية التي يخوضها الجيش العربي السوري ضد التدخل الإرهابي الخارجي صهر تلك المواقع في تجربة جديدة للتحرر الوطني. وهذه مهمة نضالية يمكن أن يحرزها تحالف سياسي من داخل النظام وخارجه، في جبهة وطنية تقدمية من طراز جديد، قادرة على تمثَّل أوسع اتجاهات المفهوم المركب للتحرر الوطني.
تاريخياً، ليست كل القوى التي شاركت في حركة التحرر الوطني العربية في مرحلتها الأولى، الممتدة على عقود الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، استطاعت أن تتمثّل كل عناصر مفهوم التحرر الوطني بشموليته. وذلك تبعاً للطبيعة الاجتماعية للقوى والأحزاب التي احتلت المواقع القيادية في تلك الحركة. وهي هنا قوى قومية تعبّر، في خطها العام، عن عقلية برجوازية صغيرة وفلاحية لم تستطع التحرر من نزعات الانتهازية الفردية والربح والتربح والامتيازات والتعالي على الكادحين والعداء للمثقفين الوطنيين، وانطباعها، في المقابل، بعناصر الثقافة القروسطية، بما فيها التعصبات المذهبية والطائفية والفئوية والممارسات السلطوية التقليدية. وهو ما أدى إلى خلل رئيسي في تكوين النخب القومية الحاكمة وتورّطها في الفساد والاستبداد، وميلها إلى التحول إلى عناصر رأسمالية (وبالتالي كمبرادورية، إذ لا توجد شروط اقتصادية محلية لولادة رأسمالية وطنية) وذلك، من خلال استغلال تحكمها في مفاصل السلطة السياسية، أي في آليات الفساد التي تشتغل مفاعيلها في المستويات الأدنى، وفي كل المجالات والقطاعات.
واجهت القوى القومية المسيطرة في حركة التحرر الوطني العربية، معارضة من داخل الحركة، تمثلت في الشيوعيين الذين سعوا، من جهة، إلى تعميق الانجازات الاجتماعية التقدمية (وهو ما يعبر عن فكرهم ودورهم كممثلين للفئات الشعبية الكادحة)، وتورطوا، من جهة أخرى، في الانزلاق نحو مطالب الليبرالية السياسية. وهو ما يعبر عن مطالب برجوازية. وقد واصلت جماعات منهم ذلك الانزلاق إلى درجة التخلي عن نهج التحرر الوطني كلياً، والانقلاب نحو التحالف مع الغرب والرجعية الخليجية في سياق أطروحة ليبرالية صريحة.
لكن المعارضة الأشرس هي التي واجهتها أنظمة حركة التحرر الوطني من خارجها، أي من الرجعية الدينية المدعومة من مشيخات الخليج. وأقوى منظمات الرجعية الدينية تلك هي منظمة الإخوان المسلمين المعادية للديموقراطية الاجتماعية، والرافضة لتغيير علاقات المُلكية وهدم الهيراركية الاجتماعية. وقد تصدى الإخوان المسلمون، بكل طاقاتهم، للمشاريع التنموية الوطنية في الخمسينيات والستينيات. ولا غرو! فالتنمية الوطنية الشعبية تفكك، بالفعل، الأسس التي تعيش عليها المنظومات الدينية الرجعية، وممثلوها الذين وجدوا أنفسهم في جبهة واحدة مع الفئات الاقطاعية والرأسمالية وشيوخ النفط، وتالياً مع الإمبريالية وإسرائيل.
تمتعت حركة التحرر الوطني، في مرحلتها الأولى، بحليف دولي وازن هو الاتحاد السوفياتي، بينما واجهت العداء الشامل من قبل الامبريالية، وخصوصاً الأميركية والصهيونية وإسرائيل. وقد أصبح معروفاً اليوم أنّ حرب حزيران 1967 التي ضربت التجربة الناصرية في مصر، نفذها الإسرائيليون ـ وأفادوا من نتائجها ـ لحساب التحالف الأميركي ـ السعودي. وقد صلّى الإخوان المسلمون، لدى انتصار اسرائيل في تلك الحرب، ركعات الشكر لله!
اليوم، يشن التحالف الأميركي الخليجي التركي الإسرائيلي، هجمة شاملة لاستئصال آخر مواقع التحرر الوطني في العالم العربي، أي الموقع السوري. وهي هجمة تستهدف أن تظل الحركات الشعبية العربية بعيدة عن الخليج، وأسيرة التصورات الليبرالية في السياسة (سوف تنحط، لاحقاً، إلى انتخابية استبدادية) والنيوليبرالية في الاقتصاد و«الصداقة» مع الولايات المتحدة والسلام مع إسرائيل، على المثالين المصري والتونسي البالغي الدلالة.
وإلحاح الهجمة على سوريا، تحفزه، بالإضافة إلى الإمكانات الواعدة لنمو التيارات الوطنية الاجتماعية في الحركات الشعبية، المخاوف الغربية الخليجية من تحقق الفرصة التاريخية التي يحظى بها، اليوم، الحلف الروسي والصيني لتكوين قطبية مضادة للغرب. ففي مقابل الأزمة الاقتصادية والمالية في الغرب الرأسمالي، تتمتع روسيا والصين باقتصادين صاعدين، وبالإرادة الصلبة للدفاع عن مواقعهما في الاقتصاد العالمي. ولذلك، فإنهما تخوضان، وستخوضان، المعركة السورية بكل ما أوتيتا من قوة. وفي سوريا، يريد تحالف الواحدية القطبية أن يحقق هدفين معاً، تحطيم إمكانية نهوض حركة التحرر الوطني العربية وعرقلة ولادة عالم متعدد القطبية في آن واحد.
بعض المتمركسين المنضوين في العباءة الوهابية، يحاول تصوير روسيا بوصفها دولة امبريالية! وهذا وصف يدعو إلى الضحك حقاً. روسيا، اليوم، رأسمالية وطنية صاعدة تناضل ضد محاولات الحاقها من قبل الضواري الإمبريالية، وتحويلها إلى دولة كمبرادورية. إنها تعيش صعوداً قومياً دفاعياً، وسياساتها كلها تقع في باب الدفاع عن الذات ضد الكمبرادورية والتفكك والتهميش. ولذلك، فهي، بالوصف الماركسي، قومية تقدمية. ولعله من الضروري، هنا، الانتباه إلى أن امكانات روسيا السياسية (العضوية الدائمة في مجلس الأمن) والعسكرية (بما في ذلك قدراتها النووية وصناعتها المتطورة في مجال السلاح) وبناها كدولة صناعية حديثة، لم تأت بفعل نظامها الحالي الرأسمالي الوطني، لكن بفعل التراكم السياسي والتنموي المتحقق في الحقبة السوفياتية. وهذا التركيب بين المنجزات السوفياتية وتنامي قوة رأسمالية الدولة القومية، هو الذي فتح باب التاريخ أمام روسيا لكي تنافس على القطبية الدولية.
روسيا لا تزال اليوم في مرحلة بناء ودفاع. وهو ما يمنح سياساتها بعداً تقدمياً صريحاً. وفي المستقل ستواجه روسيا ثلاثة خيارات: اكتمالها كرأسمالية كبرى، فتتحول، بالتالي، إلى امبريالية. وهذا احتمال ضعيف لأن الإمبريالية العالمية أغلقت ناديها على هيراركية ألحقت بها كل الرأسماليات الكبرى بالهيمنة الأميركية، فلا يعود أمام الروس، في خيار ثان، سوى الالتحاق أو تحطيم النادي الامبريالي، أي خوض حرب عالمية جديدة. أما الخيار الثالث، فيتمثل في انتصار صيغة اشتراكية حديثة في روسيا تربطها بماضيها السوفياتي من دون تكلّسه واستبداديته. ومهما تكن السيناريوهات الروسية اللاحقة، فإن شيئاً واحداً أصبح محسوماً منذ الآن. وهو أننا إزاء عالم متعدد القطبية سوف يمنح، حركة التحرر الوطني، فرصة تاريخية جديدة، تتمثّل في ما يلي:
أولاً، تلافي الهيمنة الامبريالية على القرار الدولي؛ ثانياً، تلافي العدوان الإمبريالي العسكري (مع العودة، بالطبع، إلى الأساليب الاستخبارية والإعلامية وشن الحرب بالوكالة بالاعتماد على الأنظمة والحركات الرجعية كما هو حادث اليوم في سوريا)؛ ثالثاً، إمكانيات التسلّح الحديث وإعادة هيكلة الجيوش الوطنية؛ رابعاً، إمكانيات فك الارتباط بالرأسمالية الامبريالية وتعزيز العلاقات الاقتصادية القائمة على المصالح المتبادلة مع روسيا والصين والبرازيل والهند وجنوب أفريقيا (مجموعة البريكس)، وهو ما يعطي حركة التحرر الوطني القدرة على ضرب القوى الكمبرادورية، واستعادة سيطرة الدولة على العلاقات الاقتصادية الخارجية؛ خامساً، تحرير الإرادة الوطنية في القرار التنموي وإقامة النظام الديموقراطي الاجتماعي.
في الخلاصة، نعيد التأكيد على ما يأتي:
أولاً، كل الطروحات النيوليبرالية والليبرالية واليسارية الليبرالية والسلموية والقومية التقليدية والإسلاموية، التي سيطرت منذ مطلع التسعينيات حتى اليوم، سقطت، اليوم، في الوحل، وظهر عقمها التاريخي في تجارب عيانية في بلدان عربية رئيسية، لكن ظهرت كل بشاعتها التدميرية في سوريا.
ثانياً، أظهرت التجربة السورية الاستحالة الموضوعية للفصل بين السياسات الدفاعية وتلك الاقتصادية الاجتماعية، وبينهما وبين السياسة الخارجية، مما يعيد طرح قضية التحرر الوطني بوصفها قضية مركّبة من الوطني والاجتماعي والسياسي والثقافي والجيوسياسي والاستراتيجي.
ثالثاً، تجديد حركة التحرر الوطني أصبح، إذاً، على رأس جدول الأعمال المشرقي ـ ولاحقاً العربي ـ انطلاقاً من المعركة السورية. هل ذلك ممكن؟ نعم، طالما أن العالم المتعدد القطبية ينبلج فجره الحتمي.
رابعاً، إنّ استنساخ مناهج وبرامج الأنظمة القومية للمرحلة السابقة من حركة التحرر الوطني لا يجدي نفعاً، لأنّها، علاوة على كونها مناهج تجريبية وبرامج مهجنة، فقد أصبحت فائتة موضوعياً، مما يضع على عاتقنا انتاج رؤى جديدة لحركة تحرر وطني جديدة. وهذا ما سأحاوله، هنا، تباعاً، من خلال إثارة القضايا التي لن تنضج إلا بنقاش جاد ومسؤول ورفاقي.