الحزب الشيوعي الأردني: وفاة عياديّة بعد 40 عاماً من الوفاة السياسيّة

*
يواجه الحزب الشيوعي الأردني الآن معضلة تدعو إلى الحزن، أكثر ممّا تدعو إلى النقد. ففي نيسان المقبل، تنتهي فترة السماح التي أعطتها الحكومة الأردنية للأحزاب المرخَّصة لزيادة عديد مؤسّسيها إلى خمسمئة مؤسّس، وفقاً لقانون الأحزاب الجديد. والحزب الذي كان يسيّر تظاهرات بمئات الألوف في الخمسينيات، يكدّ الآن لتجميع خمسمئة عضو. يفتح دفاتره القديمة، ويسعى إلى الاتحاد مع مجموعات صغيرة منشقّة عنه، لكنه لا يزال عاجزاً عن توفير متطلّبات القانون في بلد يعجّ بمئات الكوادر اليسارية الشابة. والحزب الذي ليست له فاعلية شعبية وسياسية للبقاء من دون ترخيص، قد يتمكّن من تجميع التواقيع المطلوبة، لكن من مسنّين تركوا النشاط السياسي منذ وقت طويل، ومعظمهم من خارج التيّار العام للمجتمع الأردني، وتحديداً من شخصيّات مسيحيّة وفلسطينيّة متقوقعة. إلا أنّها نهاية موجعة، لولا أنّ الأردن، في الوقت نفسه، يشهد ولادة حركة يسارية جديدة فاعلة تستقطب الاهتمام والأعضاء من جيل شاب لم يسبق له النشاط اليساري، هي حركة اليسار الاجتماعي الأردني.
وُلد الحزب الشيوعي الأردني مطلع الخمسينات من اندماج حركتين، الأولى ناضجة منظَّمة لها تاريخ وكوادر وزعماء هي «عصبة التحرّر الوطني في فلسطين»، وكانت تمثّل القسم العربي من الحركة الشيوعية الفلسطينية، والثانية شابة غير مؤطَّرة بعد، تتألّف من مجموعات وشخصيات أردنية اعتنقت الشيوعية خلال فترات الدراسة الجامعية والإقامة في دمشق وبيروت.
ونشأ عن اتحاد الحركتين، بعيد وحدة الضفتين، حزب واحد للشيوعيّين الذين رأوا في الوحدة الأردنية ـــــ الفلسطينية، على نواقصها وعيوبها، صيغة أكثر رحابة وفعالية للتقدّم الاجتماعي. وأقف، هنا لألفت الانتباه إلى الأهمية الاستثنائية للدور الذي لعبه الشيوعيون في ترسيخ وحدة الضفتين، ومنحها مضموناً تقدّمياً من خلال توحيد فعالية العناصر الأكثر ثورية في النخبة الأردنية ـــــ الفلسطينية في إطار برنامج نضالي واحد يهدف إلى تحرير البلاد من النفوذ البريطاني، والتحوّل الديموقراطي، ودفع القوى التنموية، وتعزيز المشاركة الشعبية في كلّ المجالات.
ولقد حافظ الشيوعيون على هذا الموقف الوحدوي (الأردني ــــــ الفلسطيني) بعد الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية في حزيران 1967، ورأوا أن مشروع تأسيس كيان فلسطيني مستقل «مؤامرة إسرائيلية». وبحوزتي مجموعة من البيانات التي عملت شخصيات شيوعيّة من الضفة الغربية على إصدارها عامي 1968 و 1969، تؤكد أن الضفة الغربية هي «جزء لا يتجزأ من المملكة الأردنية الهاشمية».
وعندما أفكر في هذه الرؤية، وأهميتها بالنسبة إلى المملكة التي هدّدها دائماً الانشقاق الداخلي، أجدني حائراً إزاء القمع الشديد الذي سلّطه النظام السياسي الأردني على الشيوعيين، وهم الفئة السياسية الأكثر إخلاصاً وفعالية لدولة الوحدة. بعد حزيران الـ1967، تنبّه الملك حسين إلى هذه الحقيقة، وأدرك الضرورة التاريخية لدور الشيوعيّين في الحفاظ على وحدة الدولة. وقد بادر إلى استقبال وفد من قيادة الحزب الشيوعي ــــــ أواخر عام 1967 ــــــ والاعتذار عن فترات القمع السابقة. وعلى الرغم من أنّه أبلغ الوفد الشيوعي بأنه لا يستطيع إلغاء قانون مكافحة الشيوعية، فإنه وعد بعدم تطبيقه، (تمّت العودة إلى تطبيقه جزئياً في السبعينات، قبل إلغائه مطلع التسعينيات)، وأصدر أوامره لمدير المخابرات وقتها ـــــ محمد رسول الكيلاني ــــــ بالتوقّف عن تعقب الشيوعيّين والسماح لهم بممارسة نشاطهم. وقد شدّد الملك الراحل أمام الشيوعيين، على ضرورة العمل على الحفاظ على منظماتهم في الضفة الغربية، وقدم إلى الحزب أكبر تبرع يحصل عليه في تاريخه (وهو 75 ألف دينار).
لكن الشيوعيين خسروا في النهاية معركة وحدة الضفتين، ووحدة الحزب الشيوعي، بالنظر إلى حجم التطورات اللاحقة المعروفة، وانشقاق الحزب إلى جناحين أحدهما، الأكبر، كان يسمّى الجناح القومي، وقد التحق سياسياً بالخطّ الفتحاوي، وثانيهما، الأصغر، وكان يسمى الجناح اللينيني، وكان أقرب إلى الخط السوري والأردني.
مذاك، أي في مطلع السبعينيات، فقد الحزب الشيوعي الأردني استقلاله السياسي، من دون أن يفقد استقلاله التنظيمي، وأصبح ملتحقاً، بجناحيه، بمحور الصراع بين النظام الأردني ومنظمة التحرير الفلسطينية.
في الخمسينات، كان الحزب الشيوعي أكثر الأحزاب الأردنية فعالية في تحريك الفئات الشعبية للمشاركة في الحياة السياسية، سواء في تسيير التظاهرات أو في المساعدة على تشكيل المنظمات الأهلية والنقابية أو في المشاركة في الانتخابات النيابية. ومن اللافت أن الشيوعيّين استطاعوا في انتخابات الـ1956 أن يمثّلوا قوة أساسية قدّمت مرشحين وفازت بعدة مقاعد للشيوعيين وحلفائهم، إضافةً إلى أنها قدّمت الدعم إلى مرشحين ديموقراطيين. والعلامة البارزة في انتخابات الـ1956 هي فوز المرشح الشيوعي ــــــ من الكرك ــــــ الدكتور يعقوب زيادين عن المقعد المسيحي في القدس، في واحدة من الانتصارات السياسية المدوية للشيوعيين ونزعتهم الوحدوية.
دعم الشيوعيّون حكومة سليمان النابلسي وتوجهاتها الوطنية ـــــــ الديموقراطية ــــــ وكانوا مقربين من رئيسها الذي حافظ على علاقاته الودية بالحزب حتى رحيله.
بعد الانقلاب المعادي للديموقراطية في 10 نيسان 1957، جرت مطاردة عنيفة للشيوعيين، واعتُقل المئات من أعضاء الحزب ومناصريه. وقد قضى العشرات منهم فترات طويلة في السجن (معتقل الجفر الصحراوي) حتى عام 1965. لكن الحزب، أثناء فترة القمع، حافظ على وجوده التنظيمي ونشاطه السياسي وإصدار مطبوعاته السرية.
وهنا ألفت الأنظار إلى دور الشيوعيّين في الحفاظ على الحياة الحزبية في البلاد، وترسيخ القيم النضالية والشجاعة وروح التضحية في أوقات كانت الأحزاب الأخرى تتراجع فيها وتجمّد نشاطاتها.
خلال العقود الأربعة الممتدّة من الخمسينات إلى الثمانينات، أدّى الحزب الشيوعي الأردني أدواراً اجتماعية وثقافية بالغة الأهمية، بل تتعدّى أهمية دوره السياسي بكثير.
1- لقد دفع الحزب بالآلاف من أبناء الفلاحين والكادحين إلى الدراسة الجامعية في البلدان الاشتراكية في بعثات لم يكن هؤلاء يستطيعون الدراسة بدونها. وقد أسهم ذلك في تحولات اجتماعية عميقة في صفوف أبناء الفئات الشعبية في الضفتين، من خلال التعليم وتحسين المستوى المعيشي والثقافي. كذلك فقد رفدت هذه البعثات المجتمع الأردني بآلاف الكوادر في حقول مختلفة، ولا سيما في الطب والهندسة والمهن الحديثة.
2- اهتمّ الشيوعيون اهتماماً كبيراً بالنشاط الثقافي. وقد عملوا على تنشيط الحياة الأدبية والفكرية والترويج للأدب الفلسفي والسياسي والاقتصادي ونشر القيم الديموقراطية وقيم المساواة والعدالة الاجتماعية واغتناء الروح الوطنية بالأفكار الاجتماعية، وتعزيز قدرة أبناء الفئات الشعبية ودفعهم إلى الثقة بالنفس والإبداع والمشاركة في الحياة الثقافية والسياسية.
3- ويستطيع الشيوعيّون الأردنيّون أن يفخروا بأنهم كانوا وراء إنشاء وتعزيز ودفع الحركة النسائية ونشر أفكار المساواة بين الجنسين، وقيم وثقافة التحرّر الاقتصادي والاجتماعي للمرأة الأردنية.
4- وأدّى الشيوعيون دوراً أساسياً في تأسيس النقابات العمّالية وتفعيلها وتطوير النقابات المهنية، وتأسيس الجمعيات والمنتديات الثقافية، ومنها رابطة الكتّاب الأردنيين (1974).
في عام 1977، كنت طالباً في السنة الأولى في قسم الفلسفة والاجتماع في الجامعة الأردنية، حين كانت الماركسية، بتلاوينها، هي الاتجاه الفكري الأكثر انتشاراً بين الطلبة الطليعيّين. أمّا في ميادين العمل الطلابي في الجامعة، فقد كانت المنظمات اليسارية ــــــ وفي مقدّمتها الحزب الشيوعي الأردني ـــــــ هي التي تستأثر بالهيمنة السياسية. لكن القيادات الشيوعية كانت توظّف هذا الحضور التنظيمي والسياسي لخدمة الخط الفتحاوي. وهو ما حدا بمئات الشباب الآتين إلى صفوف الحزب بحثاً عن هويتهم الوطنية والاحتجاج الاجتماعي الى التمرّد، وبلورة خطّ أردني محلّي مرتبط بالقضايا الاجتماعية الوطنية. وقد تجسّد هذا الخطّ، وقتها، في منظمة تابعة للحزب لكنّها منفصلة سياسياً وتنظيمياً، هي «اتحاد الشباب الديموقراطي الأردني». وهو أصبح، فيما بعد، قاعدة «التيار الثوري» في الحزب، والسلف التاريخي لولادة حركة اليسار الاجتماعي الأردني (2007). وكانت تلك ثلاثة عقود من المخاض العسير… وللحديث تتمّة.
* كاتب وصحافي أردني

Posted in Uncategorized.