*
إنّنا نعيش، بالضرورة لا بالحتم، عشية ثورتين: الثورة العراقية والثورة الأميركية. أعني أنّ المآل الثوري العراقي سوف يضع الولايات المتّحدة أمام استحقاق ثورة تجديد الذات الوطنية اللازمة لإعادة قراءة دورها الكوني.
الحرب بين الولايات المتّحدة الأميركية والعالم العربي ـــــ الإسلامي لم يكن ثمة مناص منها، سواء كان 11 أيلول تمّ من قبل «القاعدة» أو من قبل الأجهزة الأميركية الغامضة، أو بالتواطؤ بينهما. سوف نترك ذلك لمؤلّفي القصص البوليسية والاستخبارية، ونتبنّى أطروحة سوسيو ـــــ ثقافية نعتبرها نافذة فعلاً، وضعها المفكّر المصري سمير أمين: الحرب الصليبية الجهادية أصبحت ضرورة بين منطقتي التخلّف الثقافي الرئيسيّتين في العالم. فالحيّزان، الأميركي والعربي ـــــ الإسلامي، يتشاركان معاً في قوّة حضور السلفية الدينيّة. وهي الخلفية الملائمة للتحالف وللتقاتل معاً. ثمّ يأتي بعد ذلك ميدان الصراع: النفط. فالعرب والمسلمون يتربّعون على 60 في المئة من ثروة العالم النفطية، بينما تحتاج الولايات المتّحدة إلى السيطرة على هذه الثروة للاحتفاظ بالسيطرة على الاقتصاد العالمي. لكن هذا السبب «المادّي»، كما سنلاحظ لاحقاً، لا يفسّر الحرب وإنّما يمنحها مضموناً لا غير.
السلفيّتان الأميركيّة والإسلامية، تحالفتا ضدّ الشيوعية في الثمانينيات، وبدأتا بالافتراق ثمّ الصدام منذ لحظة «النصر» الكارثي في أفغانستان. وهي اللحظة التي فتحت الباب أمام تصفية الحسابات على المستوى الكوني.
القوى العالمية الأخرى: أوروبا، اليابان، روسيا، الصين، الهند، أميركا اللاتينية… لم تكن وليست بمنأى عن الحرب، لكنّها خارجها بالمعنى التاريخي. العلاقة بين المناطق الثقافية في العالم والمنطقة الثقافية الإسلامية، تقع في باب الوقائعي لا في باب الحدث التاريخي غير الممكن إلّا بالعلاقة مع الولايات المتّحدة التي، هي أيضاً معقل للسلفية. وهذه السلفية هي غير السلفية المسيحيّة التي ماتت منذ زمن. إنّها السلفية المسيحيّة التوراتية التي أُعيد إنتاجها في العالم الجديد الذي استعار التقدّم التقني وطوّره، ولكنّه على المستوى الثقافي بدأ من نقطة الصفر البدائية، وخلق بالتالي هذا التناقض الكارثي بين الدولة الأكثر تقدّماً وغنىً وقوّة في العالم، وبين مجتمعها المتخلّف سياسيّاً وثقافيّاً.
وسوف تعبّر هذه الدولة عن أزمتها الاستراتيجية في المنافسة العالمية المحتدمة بالمستوى نفسه الذي عبّرت فيه أوروبا المسيحيّة في القرون الوسطى عن أزمتها الاستراتيجية آنذاك، أي بالحرب الصليبية. والأخيرة تحتاج بالطبع إلى عدوّ من البنية الثقافية نفسها، أي إلى مقاتلين جهاديّين.
يدور القتال بين الصليبيّين الأميركيّين والجهاديّين الإسلاميّين بالطبع حول مقدّس هو بالنسبة للأوائل فلسطين، وبالنسبة للأخيرين إسرائيل. لكن رحى الحرب تقوم في الأخير في ميدان الأرضية الثقافية المشتركة.
كانت غزوة أفغانستان والحرب على الإرهاب هما التمويه العمليّاتي قبيل غزو العراق، الهدف المركزي للحرب الأميركيّة منذ انفراط الاتحاد السوفياتي. لماذا العراق؟ هناك جملة من الأسباب المادية، من الثروة النفطية الضخمة غير المستغلَّة بكامل إمكاناتها بعد، والموقع الاستراتيجي، وأمن إسرائيل والخليج. لكن السبب الرئيسي يكمن في التحدّي العراقي المتمثّل على المستوى الثقافي بإمكانية تجديد الإسلام على أنقاض السلفية، وقيادة قاطرة التحديث الأيديولوجي في العالم العربي، ثمّ التحدّي المادّي المتمثّل بإمكانية إنجاز الثورة التكنولوجية على أنقاض التخلُّف الاقتصادي الاجتماعي السياسي.
هاتان الإمكانيّتان توفّرتا للعراق بسبب أيديولوجيّته المدنية في لقائها مع حركة التجديد الشيعي، والمضمون غير السلفي للتسنّن العراقي، غير الوهّابي وغير الإخواني. كذلك بسبب تجذّر المجتمع العراقي وتراكم الخبرات العلمية والتقنية والعسكرية، واتساع نطاق وعلوّ نوعية النخبة الوطنية العراقية.
وكانت هاتان الإمكانيّتان تحقّقان نفسيهما تحت نظام الرئيس صدّام حسين، بالرغم منه وبالانسجام مع ميوله، في الجانب التقني، لبناء دولة قوية تعوّض فقره الأيديولوجي والسياسي وضعف ركائزه الاجتماعية. أي أنّ الرئيس الراحل كان يلعب، في الوقت نفسه دورين، أحدهما يتناقض مع صيرورة التقدّم الأيديولوجي والسياسي للعراق، وثانيهما يتساوق مع صيرورة التقدّم التكنولوجي. وهذا هو التناقض الذي حكم نظام صدّام وقضى عليه.
خطّة الأميركيّين في العراق، في رأيي، كانت تستهدف ضرب الإمكانيّتين معاً: أوّلاً تفكيك البنى الإدارية والعلمية والتكنولوجية والصناعية والعسكرية العراقية وتصفية أو تهجير النخب الوطنية في هذه المجالات، من خلال قرارات بريمر والتدمير المنهجي للمؤسّسات واللصوصية والقتل. وثانياً ضرب إمكانية التحرّر الأيديولوجي العراقي من خلال ضرب ما بقي من دولة المواطنة المدنية التي كانت تتلاشى في أواخر عهد صدّام، وإنشاء سلطة المشايخ والملالي ونظام المحاصصة المذهبية والطائفية والاثنية.
وجد الغُزاة الأميركيّون شريكاً مدفوعاً هو الآخر إلى المشاركة الفعّالة في تنفيذ خطّتهم التي عرضناها، أعني إيران التي لها هي الأخرى مصلحة استراتيجيّة في تدمير إمكانات العراق التكنولوجية ومطاردة نخبه والاستيلاء على قدراته التصنيعيّة، على خلفية المنافسة الإقليمية والانتقام، وكذلك لجم إمكانات التحرُّر الأيديولوجي وإعادة تأسيس الإسلام لمتطلّبات القرن الحادي والعشرين في أفق إلغاء التشيّع والتسنّن معاً، واستعادة وتحديث النزعة التوحيديّة الكونية التي كان العراق منبعها على مرّ التاريخ.
وهكذا كان لا بدّ من إحداث التغيير في بنية «العدو» العراقي لكي تتلاءم مع بنية الغازي الأميركي الصليبي، أي تغيير العراق من المدنية إلى السلفية المستعدّة للحرب، ولكن أيضاً للتفاهم على المشترك وهو منع التقدّم العراقي الذي يهدّد الفريقين:
ـــ يهدّد الأميركيّين بولادة مجتمع عربي عراقي تتزاوج فيه الثروة النفطية مع القفزة التنموية «العلميّة» التكنولوجية إلى ما بعد المجتمع الصناعي، إذ إنّ العراق هو الوحيد المؤهَّل لهذه القفزة في العالم العربي ـــــ الإسلامي، وبالتالي تحرير النفط العربي، وإذاً تحرير العالم من السيطرة الأميركيّة.
ـــ يهدد السلفية الإسلامية بالتلاشي على هامش الانتقال إلى الحداثة الجوّانية في العالم العربي ـــــ الإسلامي بقوّة القاطرة التوحيديّة العراقية.
ما لم يدركه المحافظون الجدد ـــــ الصليبيّون الجدد، أنّ استعادة الصليبية في القرن الحادي والعشرين، أي الانخراط في صراع بشروط القرون الوسطى هو، بالنسبة إلى قوّة عظمى حديثة وصفة للفشل والهزيمة. ففي هذا الميدان بالذات، تكون الغلبة للفريق الأكثر تطابقاً مع شروط القرون الوسطى، تقنياً وثقافياً. أعني أنّ الصليبية الأميركيّة كان يمكنها الانتصار على عدوّ نقيض ثقافياً ومتماثل تقنياً كالاتحاد السوفياتي، لكن لا يمكنها الانتصار، إطلاقاً، على عدو متماثل ثقافياً ونقيض تقنياً. هنا «النصر» معقود للتخلّف المنسجم مع نفسه.
المفارقة الكبرى أنّ الولايات المتّحدة الأميركيّة لم تخسر فقط الحرب الصليبية في الميدان العسكري والسياسي، لكنها خسرت أيضاً حرب النفط على الصعيد الدولي. فخلال هذه السنوات الست من الحرب الأميركيّة على الإسلام، قضمت روسيا والصين والهند أكثر من ثلث سوق النفط العالمي الذي كان حكراً في التسعينيات على الولايات المتّحدة. موسكو وبكين ونيودلهي نجحت في المنافسة النفطية من دون أن تطلق رصاصة واحدة، بل بالخضوع لمعايير السوق، أي لشروط المنافسة التجارية في السوق العالمية التي تحرّرت، جزئياً، من هيمنة واشنطن العالقة في المستنقع العراقي. لن ننسى هنا ما أفادته هذه البلدان في كل أشكال المنافسة الأخرى ـــــ حتى العسكرية ـــــ بفضل «الغياب» الأميركي في العراق. ذلك الغياب الذي أتاح لأوروبا فترة ذهبية من الاسترخاء والرخاء، وسمح للقارّة اللاتينية بأن تنتقل إلى اليسار.
كيف ستنتهي هذه الحرب الدامية؟
تماماًَ مثلما انتهت الحروب الصليبية، ليس فقط بهزيمة الصليبيّين في الشرق، بل بهزيمتهم الاجتماعية والسياسية والثقافية في الوطن أيضاً. ولن يستطيع الأميركيّون الخروج من العراق كما خرجوا من فيتنام، إلى عزلة مؤقّتة لمداواة الجراح والهجوم من جديد. فهزيمة الصليبية الأميركيّة في العراق سوف تطرح على جدول الأعمال الأميركي ضرورة التغيير الشامل في الدولة الأميركية، أي ضرورة قيام ثورة ديموقراطية تكنّس الماضي الأيديولوجي القروسطي المسيطر في الولايات المتحدة، كما حدث مع الصليبية الأوروبية التي آذنت هزيمتها في بلادنا بالثورة عليها في بلادها، والانتقال نحو الحداثة.
إنّ الشرط الحاسم لتبلور هذه الضرورة الأميركيّة ـــــ وبالتالي الكونية ـــــ هو انتصار الأيديولوجية التوحيديّة المساواتية في العراق المقاوم، وهو ما سيحسم المعركة على الأرض من تحرير البلد إلى إعادة بناء مؤسّساته ونخبه.
هل تلوح هذه الإمكانية في الأفق؟
نعم. فالتسنّن العراقي ينتفض الآن ضدّ السلفية وتنظيم «القاعدة». وإذا كان الأميركيّون فرحين بهذا التطور لأسباب تكتيكية، ويقدّمون له الدعم، فإن مآل هذه الانتفاضة هو إمكانية اندماج سنّة العراق في النهضة التوحيدية التي تتجلّى مظاهرها في وسط وجنوب العراق، في الانتفاضات الجماهيرية ضدّ الملالي والميليشيات السلفية المذهبية المرتبطة بملالي
طهران.
* كاتب وصحافي أردني
الثورة العراقيّة والثورة الأميركيّة
Posted in Uncategorized.