*
أسال الدروينيّون أنهاراً من الحبر في إثبات نظرية تحوّل القرد إلى إنسان. لكن الشاعر السوري الراحل محمد الماغوط، أثبت النظرية المعاكسة، أي تحوّل الإنسان إلى قرد، بكلمتين تحسمان النقاش: المواطن العربي!
هكذا أشعر وأنا أجول في عمّان الجميلة التي لوّثتها لافتات المرشحين للانتخابات البرلمانية، وزحمتها مقارّهم الفخمة: لا نقاش سياسياً، ولا كلمة واحدة عن الاحتلال الأميركي للعراق، ولا تنديد واحداً بإسرائيل، ولا تنديد بالخصخصة، ولا مطالبات اجتماعية، كما كانت الحال في الماضي. المرشّحون من أصل فلسطيني يطالبون بالتوطين السياسي النهائي، بينما يشدّد المرشّحون الأردنيّون على إبراز أسمائهم من خمسة مقاطع، وآخرون يغازلون «المرأة» التي هي «نصف المجتمع». أحدهم رفع شعاراً: بل «المجتمع كلّه»!
على كل حال، لم يعد هناك أهمية للشعارات. حتى إنّ أحد المرشّحين في إربد رفع لافتات بيضاء تماماً على سبيل الاحتجاج. الاختيار بين إسلامي أو قومي أو يساري أو وسطي إلخ… أصبح تقليعة قديمة. فالمواطن الأردني الآن، لديه خيارات حرة بين تاجر المواد الغذائية أو تاجر المفروشات أو تاجر مواد البناء أو تاجر العقارات والإسكانات أو متعهد الإنشاءات أو مالك سلسلة ناجحة من مطاعم الفلافل أو تاجر «دراسات» و«استطلاعات رأي» أو تاجر خادمات (من الحزبين السريلانكي والفليبيني)، هذا إضافةً إلى تشكيلة واسعة متنوعة من أصحاب السوابق في الفساد.
بدأت الحملة الانتخابية للبرلمان الأردني الخامس عشر. أهمّ خبر من هذه الحملة، ولقبها الرسمي: «العرس الديموقراطي»، أنّ سعر «الصوت» بلغ حتى الآن مئتي دينار (حوالى ثلاثمئة دولار). الطلب على «الأصوات» كثيف بسبب تنافس حوالى ألف مرشح ومرشحة على 110 مقاعد، وسط عزوف غير مسبوق من الناخبين.
تجارة الأصوات الانتخابية مجرّمة في القانون الأردني، لكنّ الأجهزة الحكومية والأمنية تغضّ الطرف، بل إنها تشجع هذه التجارة في مملكة أصبحت عقلية «البزنس» أيديولوجيتها الرسمية. وقد تجسّد هذا التشجيع في عمليات غير قانونية منظمة لنقل سجلات عشرات آلاف المقترعين من الدوائر الانتخابية في المناطق الشعبية والريفية والمخيمات، إلى الدوائر الانتخابية في المناطق التي تقطنها الفئات الوسطى والمثقفون أو التجمعات العشائرية الوازنة.
وبالمحصّلة، أنجزت الجهات الحكومية مهمة «تحرير» السوق الانتخابية وإزالة العقبات أمام «المستثمرين». وهكذا، غزت تجارة الأصوات قلاع الطبقة الوسطى والتراتبيات والتحالفات العشائرية التقليدية، وأصبح المال هو العامل الحاسم في الانتخابات الأردنية.
«ثمن» الصوت الانتخابي لا يعني الحصول عليه ببساطة. فلا بد أيضاً من المقارّ والولائم وشراء المفاتيح الانتخابية وتقديم التسهيلات اللوجستية، ما يجعل كلفة الترشيح الجدّي تراوح بين نصف مليون دولار ومليون، حسب المنطقة وشدة التنافس. فمَن هم هؤلاء المرشحون المستعدون لاستثمار سياسي بهذا الحجم؟
يأتي هؤلاء من فئتين اجتماعيتين، قَويتا وتوسّعتا بفضل الاحتلال الأميركي للعراق: الفئة الأولى تتألف من التجار ورجال الأعمال الذين حققوا أرباحاً طائلة من خلال العمل كمزوّدين للقوات الأميركية في العراق باحتياجاتها المدنية وتعهد التدريب الشرطي والإداري ونحوه، بينما تتكوّن الفئة الثانية من تجار الأراضي والعقارات التي شهدت أسعارها في الأردن ارتفاعات جنونية، جراء الطلب العراقي (من جانب أثرياء الحرب)، والفلسطيني (من جانب جماعات «السلطة»)، إضافةً إلى الاستثمارات الخليجية. وعلى رغم أنه استطراد غير لازم في هذا المقام، فلا بد من التوضيح أن شركات آل الحريري أفادت من هذه الفورة العقارية، وحصلت على أفضل العقارات في البلاد، من خلال الشراكة السياسية، لا من خلال المال.
الطبقة الجديدة من تجّار الغزو الأميركي، هي التي فرضت شروطها واتجاهاتها و«قيمها» على الانتخابات الأردنية. ومصلحة مرشحيها في الاستثمار الكثيف للحصول على مقاعد نيابية ظاهرة للعيان. فهؤلاء بحاجة إلى تنظيم وضعهم الاجتماعي المستجدّ، وتحصينه سياسياً.
سآخذ هنا مثالاً واحداً من صقور الطبقة الجديدة تلك، لكي يلاحظ القارئ حجم إلحاحها ـــــ الطبقة ـــــ على اختراق الحياة السياسية. فقبل 2003، كان أحد المرشّحين مساعداً لوالده، تاجر المواد الغذائية التقليدي. لكنه قفز، من خلال عقوده مع قوات الاحتلال الأميركي في العراق، إلى «رجل أعمال» ذي ثروة طائلة. وقد استطاع مطلع هذا العام أن يفوز برئاسة نادي مخيم الوحدات ـــــ أكبر وأهم الأندية الفلسطينية في الأردن ـــــ في مواجهة جميع التنظيمات الفلسطينية والزعامات التقليدية في المخيم الشهير. وسرعان ما تبين أن هذه مجرد خطوة نحو دور سياسي أكبر. الخطوة التالية تمثلت في الترشّح للبرلمان. وهنا حظي بمساعدة حكومية على نقل سجلات آلاف المقترعين من المخيم وجواره، إلى دائرة عمّان الثالثة، حيث المقعد الذي يترشح لملئه. وإذا حظي بهذا المقعد، فمن الأرجح أنه سيكون قادراً، باستعداده السخي للتمويل السياسي، على تأليف كتلة نيابية والتحول إلى رقم محسوب في المعادلة السياسية الأردنية. وقد لا ينجح الرجل في طموحه هذا، لكن الطموح نفسه سوف يحققه آخرون من الفئة نفسها.
وإذا كانت هذه الفئة قد وسمت بميسمها الطابع الرئيسي للعبة الانتخابية، فإن الفئات الأخرى من الزعامات التقليدية والمرشحين العشائريين والجهويين، تظل الأكثر حضوراً، لكنها أصبحت مضطرة إلى المزيد من «الاستثمار» للحصول على حصصها من المقاعد
النيابية.
وهناك دائماً، بالطبع، دوافع سياسية وراء الترشيحات. لكن الامتيازات التي يحصل عليها النائب في البرلمان الأردني تستحق المجازفة. ففي النظام السياسي للمملكة، القائم على المزاوجة بين الحكم المطلق والهيكلية الدستورية لاتخاذ القرار، أصبح ضمان الولاء الكامل للنواب ضرورة حاسمة، تتم الاستجابة لها بوساطة المكاسب المالية، والإعفاءات الجمركية، والتراخيص الاحتكارية، وتوزيع وظائف الدرجة الأولى، والبعثات الدراسية الثمينة على أبناء النواب وأقاربهم…
وعلى رغم أن الرضى الضمني للأجهزة الأمنية كان لا بد منه دائماً للحصول على مقعد نيابي بالنسبة إلى معظم المرشحين، فقد شهدت الحملة الانتخابية الحالية ظاهرة جديدة، هي السعي العلني إلى مباركة تلك الأجهزة للترشح نفسه وليس للفوز بالضرورة. فهذه «المباركة» تنشئ، في كل الأحوال، علاقة مفيدة للمستقبل، سواء للحصول على وظائف أو تسهيلات.
في أجواء كهذه، من المتوقع بالطبع، أن تعفّ أو تعجز الشخصيات الوطنية والثقافية والمعارضة أو الجديّة، عن المنافسة الانتخابية. لكن، بالنسبة إلى «الإخوان المسلمين» الذين لا يعوزهم المال ولا المؤسسات الاقتصادية والخيرية، فقد خضعوا، من دون شروط، للإملاءات الحكومية بشأن أسماء مرشحيهم وحصتهم من المقاعد النيابية. أمّا تحالف التيار الديموقراطي المؤلف من الحزب الشيوعي الرسمي والجبهتين الشعبية والديموقراطية، وبعض المستقلين، فهو أضعف من أن تفاوضه الأجهزة، ولا يملك المال، و لا يضم في صفوفه شخصيات وازنة. وقد لجأ غلى مداراة وضعه المأساوي إلى حل هزلي يتمثل في تقديم «الدعم» إلى مرشحين لا علاقة لهم بالحركة الوطنية، من أولئك الحاصلين على الدعم الحكومي أو مالكي الثروات.
وفيما قاطعت التجمعات والشخصيات اليسارية والقومية والعشائرية المعارضة ـــــ أو حتى شخصيات محسوبة على النظام وتحظى بالاحترام ـــــ الانتخابات، ترشيحاً واقتراعاً، فإن شخصيات أكاديمية ومهنية ووزارية من «التيار الليبرالي الجديد»، تشارك بقوة في عدة دوائر انتخابية، متخليةً كلياً عن شعاراتها التحديثية والإصلاحية، وغارقة حتى الأذنين في تجارة الأصوات والتحشيد العشائري والجهوي.
الخاسر الأكبر في هذا «العرس الديموقراطي»، ليس أولئك المبعدين عنه من ممثلي القوى الاجتماعية الشعبية والثقافية والمهنية، تلك التي انتهت إلى اليأس من الأيديولوجيّة الإصلاحية والبرلمانية، بل الخاسر الأكبر هو صاحب «العرس» نفسه. إذ من الآن فصاعداً، مَن ذا الذي سيتحدث، جاداً، عن إصلاح النظام السياسي الأردني، ذلك الوهم الذي استهلك قوى البلد الحية لعقدين
كاملين؟
* كاتب وصحافي أردني
الانتخابات الأردنيّة: «العرس الديموقراطي» ومأتم «الإصلاح»
Posted in Uncategorized.