الإخوان المسلمون في مملكة عبد الله الثاني

*
في خطوة مفاجئة، قام التيار المحلّي المعتدل في «الإخوان المسلمين»، بانقلاب داخلي: تخلّى عن شروط ضمان نزاهة الانتخابات النيابية المقبلة ـــــ فيما لم يشهد الأردن هذا الحجم من التدخلات الحكومية في التحضير المسبّق لنتائجها، بل قُل «التعيين بالانتخاب» ـــــ وعقد صفقة المشاركة فيها، ونيل حصّته من التعيينات الانتخابية بالشروط التي حدّدها رئيس الوزراء معروف البخيت، وهي:
أوّلاً استبعاد الأمين العام لحزب «جبهة العمل الإسلامي» وأنصاره المقرّبين من «حماس» من قائمة المرشّحين الإسلاميّين.
ثانياً استبعاد تأليف قائمة موحّدة مع المعارضة اليساريّة والقوميّة والعشائريّة.
ثالثاً وقف مقاومة الإجراءات الحكوميّة الخاصّة بتجريد الإخوان من أذرعتهم الاقتصادية والخيرية.
المرشّحون الإسلاميّون الاثنان والعشرون ينتمون إلى فئتين من المعتدلين، وهما مخضرمو الحركة الإسلامية ممن تبوّأوا مناصب رسمية في الماضي، مثل رئيس مجلس النواب الأسبق، الدكتور عبد اللطيف عربيات، وقيادات جديدة معتدلة وذات توجّهات محلية، مثل نائب الأمين العام لـ «الجبهة»، إرحيل الغرايبة الذي رُشّح في أكثر الدوائر الانتخابية أهمية من الناحية السياسية، وهي دائرة عمّان الثالثة.
وتمثّل هذه الترشيحات، من الناحية التقنيّة، تقدماً ملموساً في مجال المستوى والثقافة والأداء، مقارنةً بأعضاء الكتلة الإسلامية السابقة التي تميّزت بأدائها الضعيف، وكانت خليطاً من المتطرّفين وخطباء المساجد والوجهاء المحلّيين. إلا أنها، من الناحية السياسية، تمثّل اتجاهاً إلى القبول بمطالب النظام بإعادة هيكلة حركة «الإخوان المسلمين» أردنياً، ونزع أظفارها واستقلالها المالي، وفصم عُرى علاقاتها المتعدّدة الأشكال مع حركة «حماس»، وإعادة بنائها في النهاية، بما ينسجم مع توجّهات المملكة في عهد الملك عبد الله الثاني.
وينسجم هذا التوجّه الحكومي مع اتجاه مؤثّر داخل الحركة الاسلامية يسعى بدوره إلى الخلاص من تأثير «الحمساويّين» و«الصقور»، من وجهة نظر إخوانيّة تقليديّة، أو من وجهة نظر تيارات شابّة محلّية حديثة، تسعى إلى تطوير الحياة السياسية الأردنية من خلال تكوين جبهة ديموقراطية مع قوى وشخصيات معارضة من العلمانيّين.
وقد خسرت هذه التيارات المعركة الحالية، مثلما خسرها «الحماسيون»، وعاد «الإخوان» إلى الخطّ القديم المحافظ والموالي.
غير أنّ هذا الانتصار الحكومي خطر للغاية، فإعادة تركيب الحركة الإسلامية الشرعية وعزلها عن النقاش الإسلامي والوطني العام، من شأنه أن يصبّ في نهر السلفيّين الجهاديّين، القوّة المتنامية في البلاد.
منذ إلغاء الأحكام العرفية عام 1989، احتلّت حركة الإخوان المسلمين، فضاء الحياة السياسية الأردنية، من دون أن تقدّم خلال الفترة العصيبة من قمع الحركات اليسارية والقومية والوطنية، في العقود الثلاثة الممتدّة منذ 1957، أي جهود أو تضحيات. ففي تلك العقود، كان «الإخوان» هم الحزب الوحيد المصرَّح به، وتمتّعوا برعاية خاصة من القصر، وشاركوا في الحكومات، وتولّوا أرفع المناصب، وخصوصاً في المجال التربوي.
لم يشارك «الإخوان»، على أي مستوى، في انتفاضة نيسان 1989 التي استندت إلى قوى عشائرية ويسارية بالدرجة الأولى. وقد زُجَّ بمناضلي الحركة الديموقراطية بالسجون وطوردوا، قبل أن يتراجع النظام وينتقل من الشكل العرفي إلى الشكل نصف الديموقراطي. ومع ذلك، حصد الإسلاميون النتائج، ربما جزئياً، بسبب ما كانوا يتمتّعون به من قدرة على البناء التنظيمي في المرحلة العرفية. إلا أنّ هناك سببين أكثر أهمية: تصدّيهم لتمثيل الجمهور الأردني من أصل فلسطيني من جهة، والدعم المتعدّد الأشكال من نظام الملك حسين.
كان الملك الراحل متمسّكاً باستراتيجية وحدة الضفّتين تحت عرشه، بينما «الإخوان» يمثّلون قوّة فلسطينيّـــــــة داخل الأردن، واتضح أنهم يمثّلون قــــــــــــوّة موازية داخل الأراضي الفلسطينية، هي الأقدر على منــــــــــــافسة قوى منظّمة التحرير الفلسطينية، الخصم التقليـــــــــــــــدي للنظام الأردني حينها.
وهكذا التقت مصالح الفريقين.
قدّم الملك حسين رعاية استثنائية لحركة «حماس»، المنبثقة عن «الإخوان»، الذين بذلك ارتفع شأنهم أكثر فأكثر. وخلال التسعينيات، قدّم «الإخوان»، ثلاث خدمات جليلة إلى النظام الأردني:
أوّلاً تصدّروا واستوعبوا الحركة الجماهيرية الجبّارة التي انطلقت وخرجت عن السيطرة، دفاعاً عن العراق في مواجهة العدوان الأميركي عام 1991، فجوّفوها من داخلها، وحرفوها عن التبلور في برنامج سياسي لتغيير مجمل نهج السياسة الخارجية الأردنية، لمصلحة خطاب ديماغوجي بدّد الحركة الجماهيرية إلى فراغ.
ثانياً امتنعوا عن تقديم أي دعم للانتفاضات الاجتماعية التي اجتاحت الريف الأردني عامي 1996 و1998، ولجموا بشكل خاص جماهير المخيّمات عن المشاركة فيها، ما أدّى إلى فشلها، واعتقال المئات من المناضلين اليساريّين والقوميّين.
ثالثاً رغم أنّهم اعترضوا على معاهدة 1994 مع إسرائيل، والتطبيع معها، لم يخرجوا مطلقاً عن إطار الاعتراض الإعلامي، ولم يقدّموا معتقلاً واحداً من بين عشرات المعتقلين الذين تصدّوا للمعاهدة والتطبيع. وكانوا يعبّرون في ذلك كلّه عن تفاهم استراتيجي مع النظام حول دعم «حماس» والحيلولة دون قيام تحالف عرفاتي ـــــ إسرائيلي، يمسّ بمصالح الطرفين.
وكان انتقال العرش من الملك حسين عام 1999، إلى الملك عبد الله، إيذاناً بتغيير استراتيجيات النظام الأردني الذي كفّ كلياً عن «اللعب» إقليمياً، لحسابه الخاص، والتخلّص من نهج الملك الراحل في التحالف الصراعي مع واشنطن، أي التحالف من موقع استراتيجية أردنية خاصة، كانت لها مظاهرها السياسية الاقتصادية والاجتماعية والإعلامية. وأهم تلك المظاهر: التحالف الوثيق مع عراق صدام حسين، حتى عندما اصطدم الأخير بالولايات المتحدة وواجه عدوانها وحصارها الدولي منذ 1990. وكذلك رعاية «حماس» في التسعينيات. إلا أن هذا الاستقلال النسبي للسياسة الأردنية أصبح من الماضي.
ويرتبط هذا التغيير أساساً، بانتصار خطّ إلغاء المشروع الأردني في فلسطين، وتفكيك جميع الاستراتيجيّات الإقليميّة المستقلّة التي رعاها الملك الراحل، وخصوصاً إزاء التحالف مع العراق، لمصلحة استراتيجية تقوم على شعارات «الاقتصاد أوّلاً» ثم «الأردن أوّلاً». وفي سياق الالتحاق غير المشروط بالسياسات الأميركية، جرى إطلاق برنامج التحوّلات الليبرالي الجديد، و«تحرير» السوق، والخصخصة الشاملة، وتحويل الدعم في الموازنات العامة من المجال الاجتماعي إلى رجال الأعمال.
ومنذ عام 2000، حين جرى طرد قادة «حماس» من الأردن، بدأت العلاقات بين النظام و«الإخوان» تتوتّر، وتصل أحياناً إلى الصدام. وكان جلياً طوال الوقت، أن المطلوب من الأخيرين الامتثال لاستراتيجية القصر المستجدة، وفكّ ارتباطهم مع «حماس»، وعدم اعتراض طريق اللبرلة الثقافية، ودعم السياسة الأردنية الجديدة في فلسطين والقائمة على دعم «السلطة» وتمكينها من بناء كيان يحول دون تدفّق هجرات فلسطينيّة أخرى نحو الأردن.
وفي خضمّ هذا الصراع، نشأت تيارات داخل «الإخوان» هي أوّلاً، المخضرمون من الوزراء وكبار الموظّفين والأوساط الإخوانية القديمة التي برزت في عهد الأحكام العرفية، وثانياً، الجيل الجديد من القادة المعتدلين التجديديّين المشغولين بالقضايا المحلية، وثالثاً، التيار «الحمساوي».
لا خلاف رئيسياً بين العهد الحالي و«الإخوان» على الإيديولوجيا الليبرالية الجديدة وحرية السوق والتجارة … كما أن «الإخوان» لم يتوصّلوا بعد، إلى مفهوم عام للديموقراطية باعتبارها نظاماً تعددياً للمشاركة السياسية يقوم على الاعتراف غير الملتبس بالآخر. ولذلك، فإن صراعاتهم في هذا المجال لا تُعنى بتطوير عملية ديموقراطية وطنية شاملة، لكنها تُعنى بالدفاع عن مكتسبات «الحركة» وزيادتها.
وتكمن لحمة «الحركة» الأساسية في شبكة المصالح المختلطة على أربعة مستويات:
أوّلاً المشاريع الخاصة، وخصوصاً في التعليم والطب والهندسة والمهن، وما تدرّه من أرباح وتوفّره من فرص عمل غير متاحة إلا للأنصار، أي إنّ «الحركة» هي في النهاية، منظّمة تضامنية بين عناصر بورجوازية وبورجوازية صغيرة.
ثانياً تأمين المصالح الخاصة بشبكة التضامن الإخوانية في النقابات المهنية. وكلّ من يدرس تاريخ الصراعات الانتخابية النقابية، سوف يكتشف أن التحالفات «الإخوانية» سيّرتها دائماً المصالح الخاصّة الضيّقة للشبكة، لا التحالفات السياسية.
ثالثاً الوساطة بين مجتمع «الإخوان»، الفلسطيني الطابع ـــــ لا المجتمع كلّه ـــــ وبين السلطات، في تأمين مصالح فردية وخاصة وحلّ مشكلاتها.
رابعاً العمل الخيري الذي يُديم ولاء أكثر فئات المجتمع «الإخواني» فقراً.
وبالنسبة إلى الاستراتيجية الحكومية المعتمدة حيال القوى المحليّة، فإن استقلال شبكة «الإخوان» الاقتصادية ـــــ الاجتماعية، يمثّل خطراً ماثلاً ومستقبلياً. ويبدو أنّ النظام لن يتراجع عن توجّهه إلى تفكيك هذه الشبكة.
أخيراً، فإن الليبرالية الاقتصادية الجديدة، الميّالة إلى لبرلة الحياة اليومية والسلوك الثقافي الجماهيري، لأسباب تجارية بالدرجة الأولى، تصطدم مع «الإخوان» في هذا المجال. وهو ما حدا بالحكومة الحالية إلى منع «الإخوان» من تولّي أي من البلديات الرئيسية، لئلّا يعرقلوا اللبرلة الاجتماعية. وما يفسّر التناقض بين الإلحاح الحكومي على إخراج «الإخوان» من البلديات، وجرّهم إلى المشاركة في الانتخابات النيابية، هو أن رئاسة البلديات وعضويتها، على العكس من عضوية المجلس النيابي، تتضمّن شيئاً من السلطة الفعلية في المحليات.
لكنّ النفوذ الرئيسي لـ«الإخوان» كان ولا يزال في المجال التربوي. صحيح أنّ الوجود المباشر للقيادات «الإخوانية» لم يعد بالكثافة التقليدية نفسها في الوزارة، لكنّ مناهج «الإخوان» لا تزال هي المسيطرة في دروس اللغة العربية والثقافة الوطنيّة خصوصاً. وهي دروس تهيّئ الطلبة للالتحاق بصفوف «الإخوان» أو أنصارهم من دون عناء يبذله التنظيم.
وهو ما يعني أن الليبراليّين الجدد يطمحون إلى ليبرالية ثقافية سلوكية استهلاكية، ويبغضون في الوقت نفسه التنوير الثقافي، بسبب أخطاره السياسية.
الإخوان المسلمون الأردنيّون في طريقهم إلى الامتثال لشروط البقاء والقبول في مملكة عبد الله الثاني. فهل ينجح اليسار في العودة إلى صدارة المعارضة الأردنية، مثلما كان في السبعينيات والثمانينيات، أم أنّ المستقبل هو للسلفية الجهادية؟
* كاتب وصحافي أردني

Posted in Uncategorized.