الأردن: وطن في مهبّ الريح

*
فتح الكونغرس الأميركي إحدى قاعاته يوم الأربعاء 21 أيار / مايو 2008، لمناقشة اقتراح مقدَّم من حزب «الاتحاد الوطني الإسرائيلي»، يقضي بضمّ الضفّة الغربية لإسرائيل مع اعتبار سكّانها مواطنين أردنيّين مقيمين بصفة مؤقتة في دولة إسرائيل التي سيكون من حقها إلغاء إقامة أي مقيم لأسباب أمنية.
الحزب المذكور صهيوني متطرّف، ولا يملك تأثيراً قويّاً في تل أبيب أو واشنطن. واقتراحه لن يكون جدياً على مستوى التعاطي الدبلوماسي. لكن هذا الاقتراح يصوّر عملياً الواقع القائم. فالضفة الغربية تخضع لما هو أكثر من الضمّ، أي للتوسّع الاستيطاني الصهيوني.
وبالنظر إلى انسداد أفق قيام دولة فلسطينية ذات مقوّمات، وإلى الشروط اللاإنسانية التي يفرضها الاحتلال على مواطني الضفة، فإن هؤلاء يجدون أنفسهم مدفوعين إلى الهجرة إلى شرقي النهر. إنّ الإقامة المؤقتة هي واقع فعلي بالنسبة للمحتلّين، كما بالنسبة لكل من يستطيع الهجرة من الجحيم المتصل بين الاحتلال و«السلطة».
ووفقاً لقانون الجنسية الأردني الساري المفعول، فإن مواطني الضفة الغربية هم مواطنون أردنيون. إذ إنّ قرار الملك حسين في عام 1988، بفكّ الارتباط الإداري والقانوني مع الضفة الغربية، مورس بموجب تعليمات إدارية، ولم يأخذ حتى الآن، شرعية دستورية وقانونية. بل إنّ هناك في الضفة حالياً فلسطينيين يحملون الجنسية الأردنية فعلاً.
اقتراح الحزب الإسرائيلي المتطرف ليس مجرد أحلام صهيونية إذاً. فهو يترجم مضمون واقع قائم حقّاً. وهو واقع طالما كان في صلب اهتمام السياسة الخارجية الأردنية ومساعيها الدؤوبة. كانت استراتيجيّة الملك حسين تقوم على استعادة ضمّ الأرض والسكّان في دولة موحّدة تتلافى خيار الوطن البديل، بينما سعى الملك عبد الله الثاني إلى تكثيف الجهود لدعم الرئاسة الفتحاوية للتوصّل إلى قيام دولة فلسطينية تسمح بتلافي الخطر نفسه، على أن يُوطّن اللاجئون والنازحون، الحاصلون على الجنسية الأردنية أو المقيمون في الأردن إقامة دائمة، توطيناً سياسياً نهائياً يأخذ بالاعتبار نظام المحاصصة.
وقد افترضت السياسة الخارجية الأردنية في السنوات الخمس الأخيرة، أن هناك فرصة حقيقية لإنجاز تسوية كهذه، انطلاقاً من الآتي: أوّلاً حاجة إدارة الرئيس جورج بوش إلى حليف محلّي قوي في سياق سياساتها لإقامة شرق أوسط جديد، يبدأ أو ينتهي باستقرار الاحتلال في العراق، والحرب على إيران وتحجيمها، وتغيير النظام السوري، وشطب المقاومات العراقية، اللبنانية والفلسطينية.
وقد وضعت عمّان كلّ طاقاتها السياسية والأمنية في خدمة تلك الأهداف، آملةً بالمقابل أن تُجبر إسرائيل، أميركياً، على التوصّل إلى تسوية «الدولة» في الضفة والقطاع. ثانياً، حاجة هذه التسوية إلى طيّ ملف اللاجئين الفلسطينيين في «حل إجرائي» تملك عمان وحدها القدرة على تنفيذه، بالنظر إلى أن حوالى نصف هؤلاء مواطنون أو متوطنون في الأردن فعلاً. ومن الممكن ترتيب أوضاعهم الاقتصادية من خلال تعويضات، وأوضاعهم السياسية من خلال المحاصصة.
على أنّ الرياح جرت على الضدّ من الشراع السياسي الأردني، وانتهت أخيراً سنوات العمل الحثيث ضمن المشروع البوشي حتى من دون مكافأة نهاية الخدمة. فالإدارة الجمهورية الطامحة بالتجديد لولاية ثالثة أدركها الوقت، وضغطت عليها الأحداث، بحيث أنها اضطرّت، لضمان خوض الانتخابات الرئاسية بعراق هادئ، إلى تسويات إجرائية مع إيران بصدد ملفّها النووي، ومع سوريا بصدد ثلاثة ملفات أساسية:
ـــ تهدئة طويلة في الأزمة اللبنانية، وفي الأزمة السورية ـــ اللبنانية، بما في ذلك وقف التصعيد في «المحكمة الدولية»، وضمان مشاركة المعارضة الحليفة في الحكم والقرار، وإخراج سلاح حزب الله من جدول الأعمال.
ـــ تهدئة في غزة هي اعتراف ضمني لكنه مفتوح للتطور، بالسلطة الحمساوية في القطاع.
ــــ عدم اعتراض المفاوضات السورية ـــ الإسرائيلية بشأن الجولان. ومن المعلوم أن هناك تياراً قوياً في إسرائيل، لا سيما بين الجنرالات، يؤيّد عقد اتفاقية سلام مع سوريا، سوف تضمن عملياً إغلاق الجبهة الشمالية، وإدراج حزب الله وحماس في إطار التسوية.
في المقابل، فإن إدارة بوش لم تجد نفسها ملزمة، تحت أية ضغوط، لإنجاز تسوية في المفاوضات مع السلطة الفلسطينية التي فقدت، بالنتيجة، مصداقيتها وشرعية وجودها. فهي أمام خيارين: إمّا الخروج من الميدان أو القبول بتنازلات يرفضها الشعب الفلسطيني قطعاً، ما يعني أيضاً سقوطها سياسياً. وهناك تقديرات بأن تياراً مؤثراً داخل «السلطة» يريد حلاً مع الإسرائيليين بأي ثمن، وخصوصاً أن هذا التيار متورّط بعلاقات أمنية واقتصادية متشابكة مع المحتلين، تجعل التراجع بالنسبة إليه صعباً. وبينما أصبحت غزة خارج المعادلة، فإن ما في جعبة إسرائيل بشأن الضفة لا يزيد عن وضع نصفها في كانتونات غير متصلة ومعزولة بين الجدار الاستيطاني غرباً، والجدار الأمني في غور الأردن شرقاً. وهذا الضمّ الإسرائيلي الواقعي للأرض غير ممكن عملياً من دون إدارة البلد المجاور أي الأردن. فهل هذا بعيد حقاً عمّا يقترحه الاتحاد الوطني الإسرائيلي؟
وعلى رغم تصريحاتهم العلنية الرافضة لمآل كهذا، فإن المسؤولين الأردنيّين خائفون من الخضوع له تحت ضغوط اقتصادية (خفض حجم المساعدات الأميركية والسعودية)، وسياسيّة (انكفاء الدور الأردني، بل إمكان التفاهم مع الإسلاميّين الأردنيّين بشأن برنامجهم الرافض لفكّ الارتباط بين الضفتين)، وأمنية (تفعيل خلايا «القاعدة» أو تنشيط انشقاقات مختلفة).
وتفتقر النخبة السياسية الأردنية المسيطرة إلى الإرادة السياسية لمواجهة المشروع الأميركي ـــ الإسرائيلي بصدد الضفة الغربية. وهي مشغولة بصورة تثير الريبة بالبزنس والصفقات العقارية والمالية وخصخصة (نهب) الممتلكات والمرافق التابعة للدولة.
وعلى هذه الخلفية المثيرة لغضب الأغلبية الشعبية التي تتضوّر فقراً وجوعاً، وانسداد آفاق الحياة، نلاحظ أن تركيبة النظام السياسي هشّة للغاية: فالمجلس النيابي الذي نتج من انتخابات مزوّرة، لا يمثل القوى الاجتماعية الحية أو الاتجاهات أو التيارات السياسية. ورغم ذلك، فهو مغيب عن القرار، مثله مثل الحكومة الشرعية التي تجوّفت من الداخل، وتحوّلت إلى هيئة موظفين تنفيذية لصالح حكومة غامضة من الليبراليين الجدد وصقور رجال الأعمال.
وفي حين كان جهاز الاستخبارات الأردني الشهير بمثابة حزب الدولة ومصمّم استراتيجيتها السياسية، تحوّل إلى جهاز أمني بالمعنى المحدد للكلمة.
العلاقات التي كانت ذات يوم متجذرة ومتشعبة بين القصر والمجتمع، هي اليوم شبه مقطوعة. وهي تُدار من مجموعة متغرّبة عن المجتمع الأردني، ومرتبطة بالمحافظين الجدد في الولايات المتحدة. وهم، من حيث تركيبتهم الاجتماعية والسياسية والنفسية، عاجزون حتى لو أرادوا، عن التفكير «أردنياً».
أما على المستوى الشعبي، فعملت سياسة الاستقطاب وشراء الضمائر والتوزير الكثيف، خلال العقدين الفائتين، على ضمور النخبة السياسية المعارضة، وافتقار الحركات الشعبية إلى الكادرات. وينطبق ذلك على الإسلاميّين المنقسمين عملياً بين رجال للنظام منبوذين منه، وبين رجال لـ«حماس» لا دور سياسياً لهم، بل يحرجون الحركة الفلسطينية أكثر مما يفيدونها.
يشعر الأردنيون الآن بالضياع والارتباك والتحفز. فدولتهم في مهبّ الريح من دون أن يتوصلوا بعد إلى بديل استراتيجي لقوة تفرض مراجعة السياسات المفلسة داخلياً وخارجياً.
وليس مصادفة أنّ مجموعات سياسية شعبية عديدة بدأت تتحرك لعقد «المؤتمر الوطني الأردني»، في استذكار ذي دلالة لذلك المؤتمر المنعقد في عمان، عام 1929، الذي أطلق الحركة الوطنية وبرنامجها التأسيسي للدولة الأردنية الحديثة.
هل ستكون المرحلة الأردنية المقبلة مرحلة ضياع أم إعادة تأسيس؟ سؤال برسم الوطنيّين الأردنيّين.
* كاتب وصحافي أردني

Posted in Uncategorized.