الأردن: عود على بدء… سورياً

خريطة بالأهداف الـ23 المتوقعة للضربة الغربية لسوريا، كما سربتها وسائل الإعلام الأميركية (الأخبار)
وسط غموض لم يتبدد، أردنياً أو سورياً، حول حجم ونوع التورّط الرسمي الأردني في عمليات التصعيد السعودية ضد الجار السوري، أعلنت الحكومة الأردنية، أمس، أن المملكة «لن تكون منطلقا لأي هجوم على سوريا». أين يقف الأردن، اليوم، في ملف الحرب والسلام في بلاد الشام؟

الشعور الجديد بالقوة، يدفع بمطبخ القرار إلى التصرّف بمنأى عن الحسابات الداخلية؛ فطالما كان «إخوان» الأردن يشكلون خطرا على نظام الحكم، اتجه الأخير إلى ترتيب تفاهمات مع القوى الوطنية واليسارية والقومية والعشائرية، لتشكيل ثقل داخلي مضاد. وكان من عناوين هذه التفاهمات اتباع سياسة الحياد الإيجابي نحو الأزمة السورية.
صحيح أنه كانت تحصل، بين الحين والآخر، تدخلات ومداخلات لا تنسجم مع تلك السياسة، لكنها ظلت في حدود دنيا، تحدث تحت الضغوط الشديدة، وتتراجع بسرعة. الآن، هناك تورّط لا يخلو من التصميم والمثابرة؛ ما هو حجمه ونوعه؟ هناك ثقات يؤكدون أن معظم ما تُبطنه عمان تُظهره، خصوصا التعاون مع الأميركيين. وربما يكون السبب أن الأخيرين يعلنون، صراحة، عن أوجه ذلك التعاون، وهي: وجود عسكري تخطى الألف ضابط وجندي متمركزين في قاعدة عسكرية خاصة بهم في شمال شرق البلاد، طائرات إف 16 وطيارون، وحدات صواريخ باتريوت بطواقمها. وتنشر وسائل الإعلام، كذلك، أخبارا اعتيادية عن تموضع القوات الأردنية على الحدود مع سوريا. ولعل ما هو مخفي من أوجه التدخل الأردني في سوريا هو المرتبط بالتعاون مع السعودية، في استضافة غرفة العمليات برئاسة الأمير سلمان بن سلطان، وتهريب مسلحين، تقول مصادر موثوقة إنهم من الجنود السوريين الهاربين، المدربين على أيدي الأميركيين، وتؤكد المصادر أنه جرى تسهيل دخول المئات منهم إلى الأراضي السورية، بقيادة ضباط غربيين، بينما لا يزال الحظر قائما بالنسبة لمقاتلي السلفية الجهادية، لكن الحدود، على كل حال، لم تعد مضبوطة كالسابق. وبالنسبة للتسليح، فالمعلومات المتوفرة شحيحة. وهي تشير إلى أن مستوى التسليح المار عبر الأردن، لا يزال في حدود أدنى من حيث النوعية، ولا يزال يمر بوسائل التهريب المسموح به.
هناك ما يشبه الاجماع في صفوف القيادات الأردنية والمحللين ومصادر المعلومات على أن الأردن لن يرسل جيشه إلى سوريا؛ بعضهم يقطع في التأكيد بأن ذلك لن يحدث أبدا، مهما كانت الظروف والمعطيات، وبعضهم يشير إلى أن ذلك قد يحدث، فقط، في شروط معينة يكون فيها النظام السوري على شفا الانهيار. لكن هناك أوساطاً داخل النخبة المحيطة بمطبخ القرار، تتحدث عن امكانية المشاركة في تسهيل إقامة منطقة آمنة في جنوب سوريا، وحتى المشاركة في فرض الحظر الجوي فوق هذه المنطقة، إذا قامت. ولكن، في النهاية، لم يعد هناك أي شيء مؤكد؛ كل الاحتمالات مفتوحة، أقله على المستوى النظري. أما على المستوى العملي، فمن الصعب الركون، أقله، إلى الادعاء الحكومي بأن القوات الأميركية المرابطة في الأردن، ستكون، كما قيل، خاضعة للسيادة الأردنية.
ما هي المعطيات الفعلية على الأرض؟ هذا ما يعرفه الطرفان الأردني والسوري. وبينما لا يفصح الطرف الأردني عن أي معلومات، ويلوذ بالإنكار، فإنه من غير المفهوم بعد لماذا يصمت الطرف السوري عن الوقائع، تاركا الجميع يتكهّن؟ هل لا تزال شعرة معاوية تربط عمان بدمشق؟ هذا ما يمكن استنتاجه من تصريحات وزير الخارجية السورية، وليد المعلم، أمس، حين اعتبر إعلان الحكومة الأردنية بعدم السماح بأي هجوم ضد سوريا انطلاقا من الأردن، «طبيعيا»، مؤكدا أن دمشق ليس لديها أي موقف عدائي تجاه عمان، وأنها لن توجه أي ضربات صاروخية أو سواها نحو الأردن، مما يجعل قلق الحكومة الأردنية، حسب المعلم، في غير محله، ولا يستوجب استحضار وحدات الباتريوت أو سواها.
كالحدود بينهما، فإن كل ما يدور في العلاقات الرسمية بين الأردن وسوريا، غامض؛ إنما على الصعيد الشعبي، فالأمر مختلف؛ لقد أعلنت شخصيات حزبية ونيابية وقيادية، تمثل التيارات اليسارية والقومية والوطنية والمتقاعدين العسكريين، موقفا حاسما من تصاعد وتيرة التهديدات ضد سوريا؛ يقول البيان إنه «لممّا يشعرنا بالعار أن تكون السلطات الأردنية متورطة في خطط العدوان على سوريا، وأنها تضع الدولة الأردنية في تصرّف مغامرات أمير الإرهاب، بندر بن سلطان». وفي إشارة صريحة إلى المصدر الداخلي لقوة الدولة، أوضح البيان أن «وطنية الأردنيين وإحساسهم العالي بالمسؤولية، (كانا السبب) وراء تمتع الأردن بالاستقرار في ظل ظروف انفجار الإقليم كله. ومن المؤسف أن السلطات لا ترى هذه الميزة الاستراتيجية، وتصرّ على المقامرة بمصير البلاد».
وتنتشر في أوساط الحركة الوطنية، مخاوف من أن يؤدي زج الأردن بأي شكل في الحريق السوري إلى إضعاف المؤسستين العسكرية والأمنية الأردنية، بحيث تفرغ الساحة للسلفيين الجهاديين وللمشروع الصهيوني في إقامة الوطن البديل. وتلتقي السلفية الجهادية مع تل أبيب، حسب تلك الأوساط، في مصلحتهما المشتركة في إثارة الفوضى والحرب الأهلية في الأردن الذي يعاني من تركيبة سكانية هشّة جراء وجود ملايين اللاجئين والنازحين الفلسطينيين في البلاد، يشكلون حوالي 43 بالمائة من السكان، وتتمتع الحركات الإسلامية بنفوذ واسع في صفوفهم.
يتعدى الجديد في المشهد الأردني، التغيرات في موقف النظام من الأزمة السورية، إلى ظهور أربعة عناصر مرتبطة جميعها بتطورات الأزمة السورية والتحولات الإقليمية، تتمثل في الآتي: (1)، اختراق السلفية الجهادية، أيضا، لصفوف أبناء العشائر في المحافظات، وهي التي تمثّل القاعدة الجغرافية الاجتماعية والسياسية للنظام والدولة معا. ويأتي هذا الاختراق بفعل عاملين، أولهما، التجاهل المستمر، رغم سنتين من الحراك الشعبي، للمطالب التنموية للأرياف، وثانيهما، توسع حركات السلفية الجهادية، وتمتعها بقدر من حرية الحركة، في ظل التحريض المذهبي والدعاية المكثفة للوسائل الإعلامية الخليجية ضد سوريا. و(2) تبدّل الموقف الحكومي من الإخوان المسلمين المحليين؛ فقد تبلورت أطروحة في الأوساط الحكومية، ترى بأن تراجع قوة الإخوان الإقليمية فرصة مناسبة ليس للانقضاض عليهم، ولكن للحوار معهم، واستيعابهم من موقع القوة، وخصوصا لجهة استخدامهم لتغطية أي تطورات تتعلق بالتدخل الأردني في سوريا أو بمشروع الكونفدرالية مع الفلسطينيين. خلال الأسبوع الماضي، أعلن وزير التنمية السياسية، اليساري السابق، خالد كلالده، عن عزم الحكومة على الحوار مع الإخوان، وكان مدهشا أن أكثر القياديين الإخوانيين تشدداً، زكي بني ارشيد، أعلن، فورا، أن الجماعة ترحّب بحوار غير مشروط. و(3) سعي الفئات الحاكمة إلى التنصّل من كل الوعود التي سبق أن طرحتها إبان صعود الحراك الشعبي، وخصوصا لجهة مراجعة النهج النيوليبرالي ومكافحة الفساد واستعادة دور الدولة الاقتصادي الاجتماعي، عدا، بالطبع، السير في مضمار الإصلاح السياسي والإداري. و(4) وجرّاء كل ذلك، تتسع هوّة انعدام الثقة بين الأردنيين ونظامهم السياسي، إلى درجة غير مسبوقة. وبينما غزا اتجاه الاضرابات الاجتماعية الفئوية مؤسسات رئيسية في الدولة ــ كالجمارك مثلا ــ فإن تهاوي المستوى المعيشي للأغلبية الشعبية، مشفوعا باليأس من التغيير بالوسائل الديموقراطية، انعكس على فشل الانتخابات البلدية التي عقدت أمس الثلاثاء، ولم تحظ بمشاركة فعلية تزيد على 20 بالمائة ممن يحق لهم المشاركة في الاقتراع البلدي.
مَن يأبه للانتخابات البلدية، بينما تتالى التهديدات لحرب مقبلة ضد سوريا، ينتشر الشعور الشعبي المبهم بأن الأردن قد ينزلق إلى المشاركة فيها، أو أنه، على الأقل، سوف يتحمل جزءا من نتائجها الأمنية، بالإضافة إلى التوقعات حول اضطرار المزيد من السوريين إلى اللجوء إلى الأردن، جراءها؟
تخيّم غيوم من الكآبة والغضب المكتوم والقلق والتوتر على يوميات الأردنيين، الواقعين تحت ضغوط معيشية غير مسبوقة، والخائفين على أمنهم واستقرار بلدهم ومستقبله؛ إنها مشاعر شعب لا يصنع مصيره بيديه ووفقا لمصالحه وتناغما مع توجهاته وطموحاته ومشاعره. فهل تكون هذه لحظة الوعي بضرورة إعادة تأسيس الدولة الأردنية بما يعبر عن وينسجم مع وجدان الأردنيين وتطلعاتهم نحو حياة جديدة ودور جديد لبلدهم في محيطه المشرقي والعربي؟
هل سينتفض الأردنيون على نطاق واسع يغير المشهد المستجد في العلاقة الأردنية السورية، إذا ما حدث العدوان الأميركي على سوريا؟ نعم. انما بشرط واحد هو قيام السوريين بردّ الضربة، عسكريا، نحو أهداف إسرائيلية. فإذا حدث ذلك الردّ، مهما كان حجمه، فإن الطاقة الكامنة المناهضة للوجود الأميركي في البلاد، ستنفجر، ولكن إذا قررت القيادة السورية، ابتلاع الضربة، فإن نتيجة العدوان سوف تنشر اليأس والخمول في أرجاء البلاد، وتسمح بالمزيد من التطاولات على سوريا والأردن والمنطقة.

Posted in Uncategorized.