الأردن: النهاية غير السعيدة للحركة الإسلاميّة

*
حركة الإخوان المسلمين في الأردن تتهاوى. ليس هذا، بالنسبة لي أنا العلماني، خبراً سعيداً. فالحركة تلك، على نقدنا الجذري لخطابها الذي تتجاور فيه الليبرالية الاقتصادية والدوغمائية الثقافية، لعبت منذ السبعينيات ثلاثة أدوار هيكلية في البنية الأردنية المعقدة، هي: 1) مَنْحُ جمهورها الفلسطيني ــــ الأردني هوية ثالثة تتسامى على الهويتين الدنيويتين المتصارعتين في البلد، مما خفّض، تقليدياً، مستوى التوتر في هذا المجال، 2) التمثيل والتوسط السياسيان لقسم أساسي من الكتلة الفلسطينية ــــ الأردنية، ما عّدُ حلاً واقعياً لتمشية مصالح ذلك القسم في بلد عشائري، 3) استيعاب الصحوة الإسلامية وضبطها في نطاق إخواني تقليدي معتدل، ما خفّض خطر انتشار السلفية الجهادية في الأردن إلى الحد الأدنى. ومن المهم القول إن نجاح «الإخوان» في هذا الدور تحديداً لم يكن ممكناً من دون ارتباطهم مع حركة المقاومة الإسلامية في فلسطين «حماس». وهو ارتباط مكّن حركة الإخوان من ملء الفراغ الجهادي في خطابها، وصرف الطاقة الجهادية الإسلامية عن تأييد «القاعدة»، حتى في ذروة ألقها، إلى تأييد سياسي وسلمي لـ«حماس» التي (بالإضافة إلى إسلاميتها وجهاديتها) تمثل حركة وطنية مناضلة لتحقيق أهداف وطنية تتطابق مع نزعات الوجدان الشعبي أكثر بما لا يقاس من أهداف «القاعدة» الأممية الغامضة.
اللُّحمة السياسية والتنظيمية التي مكنت «الإخوان» من لعب تلك الأدوار، تتفسّخ اليوم نهائياً مع انشقاق الحركة إلى تيارين متصلبين أصبح كل منهما يتصرف كحزب مستقل له منطلقاته وسياساته وحلفاؤه: التيار الأول هو التيار الحمساوي. وهو يصر على تلخيص حركة الإخوان في كونها الذراع السياسي والإعلامي لحركة حماس في الأردن. وعلى رغم أن التسمية الإعلامية لهذا التيار هي «الصقور»، فإن المهمة التي يطرحها على نفسه تقوده إلى موقع حمائمي في ما يتصل بالداخل الأردني. فما دامت مصالح حركة «حماس» هي المعيار الحاسم في الخطاب والسلوك السياسيين، فإن موقف الإخوان الحمساويين من القضايا الأردنية (كالإصلاح السياسي والتنموي ومواجهة الوطن البديل) يظل لفظياً، بينما يتمحور موقفهم من السلطات حول موقف الأخيرة من «حماس»، يصعّدون إذا صعدت ضد «حماس» ويتنازلون عن كل مطالب المعارضة الداخلية إذا جرت المصالحة الرسمية ــــ الحمساوية.
التيار الثاني هو التيار «الوطني» (بمعنى المحلي) الذي يؤكّد على أولوية القضايا الأردنية الداخلية، وفي مقدمها الإصلاح السياسي في صيغة الملكية الدستورية ومجابهة الوطن البديل. ويسمي الإعلام هذا التيار «الحمائم»، على رغم أنه يتخذ مواقف صقرية في السياسة الداخلية. وهكذا، فإن التسميتين، «الصقور» و«الحمائم»، مرتبطتان بالموقف من تأييد «حماس» لا بالمواقف الداخلية. فإذا انتقلنا إلى الصراع الداخلي، أصبحت التسميتان معكوستين. في أواخر آب الماضي انفجر الخلاف داخل «الإخوان» إلى درجة الانشقاق غير المعلن ولكن الفعلي، عندما سُرّب تقرير سياسي أعدّته اللجنة السياسية الإخوانية التي يسيطر عليها «الوطنيون» برئاسة الدكتور إرحيّل الغرايبة، وأدى نشره إلى عاصفة سياسية في البلاد، لما تضمنه من اتهام صريح للنظام الأردني بالاندراج في «مؤامرة أميركية ــــ إسرائيلية» لتمرير مشروع الوطن البديل.
تبادل التياران، في تصريحات علنية، الاتهامات بتسريب التقرير، وتنصلت منه قيادة الإخوان المسيطر عليها التيار الحمساوي بزعامة الدكتور همام سعيد، وأردفت ذلك التنصّل بحلّ اللجنة السياسية الإخوانية، ورفض كل المساعي والضغوط للتراجع عن هذا القرار كخطوة للمصالحة التنظيمية.
وكشفت الاتهامات المتبادلة، أكثر فأكثر، طبيعة الصراع الإخواني الداخلي. فالإخوان الحمساويون، الراغبون بمصالحة بين عمان وحماس، اعتبروا أن الإخوان الوطنيين سرّبوا التقرير لإحراج حركة الإخوان ككل، وجرّها للدفاع عنه وتبنيه، والاصطدام بالتالي مع السلطات، بينما اعتبر الوطنيون أن الحمساويين سرّبوه في إشارة حسن نوايا نحو النظام وإظهار الوطنيين كمتطرفين. الحلقة الثانية من مسلسل تصاعد الصراع الإخواني الداخلي، تمحورت حول المكاتب الإخوانية في دول الخليج، التي تمثّل أطراً تنظيمية مشتركة بين الإخوان وحماس. ويلح الوطنيون على إعادة تنظيم هذه المكاتب على أساس الفصل الكامل بين التنظيمين الأردني والفلسطيني، بينما يصر الحمساويون على موقف معاكس.
في الأسبوع الماضي، عقد كل من التيارين اجتماعاً منفصلاً معلناً عنه، ما يجعلنا نعتبر أن الانشقاق بينهما قد حصل فعلاً. وهو انشقاق لا يتعلق بقضايا فقهية أو جزئية بحيث يمكن تسويته، بل يتمفصل حول مسائل السجال الوطني الأساسية في البلاد. فقضية الارتباط السياسي والتنظيمي الإخواني ــــ الحمساوي، هي خلاصة قضية أعم هي قضية الارتباط الأردني ــــ الفلسطيني. وإذا كانت سياسات المملكة الرابعة، منذ مطلع الألفية، قد أدت إلى فصم عرى ذلك الارتباط خارجياً، أي إنهاء الدور الأردني في فلسطين لمصلحة السلطة الفلسطينية، فإن المطروح حالياً هو، بالمعكوس، إنهاء الدور الفلسطيني الباقي في الأردن (عبر إنهاء العلاقة الحمساوية ــــ الإخوانية).
بذلك تكون حركة الإخوان المسلمين، التنظيم السياسي الأكبر والأكثر فعالية في الأردن، قد دخلت، في رأينا، مرحلة الأفول والتهميش. فسرّ قوة «الإخوان» في الأردن يكمن، بالضبط، في ذلك الائتلاف الاجتماعي ــــ السياسي في حركة تجمع ناشطين وجماهير من الكتلتين الديموغرافيتين الأساسيتين في البلاد. وبينما يمنح الإخوان الأردنيون حركتهم شرعيتها الأردنية، يمنح الإخوان الفلسطينيون ــــ الأردنيون الحركة جماهيريتها وأصواتها الانتخابية. وتوحِّد الطرفين مؤسسات اقتصادية واجتماعية ومالية قادرة على تلبية مصالح الجميع. وفي أفق الانشقاق الحاصل، فإن حركة إخوانية معرّاة من الشرعية تلك، ويهيمن عليها خطاب فلسطينوي صريح، ستنعزل سياسياً في البنية الأردنية. بالمقابل، فإن الإخوان الأردنيين، رافعين راية خطاب وطني محلي، سيخسرون التأييد الجماهيري الفلسطيني، فيما تأثير الإسلام السياسي في صفوف العشائر الأردنية هو ضيق للغاية، ولا يسمح بحركة مستقلة.
وهكذا، فإن المآل الممكن لانشقاق حركة الإخوان الحالية لن يتعدى تحوّلها، واقعياً، إلى تنظيم حمساوي محصور في الوسط الفلسطيني من جهة، وإلى مجموعة معارضة علمانية تنضاف إلى شبيهاتها في الوسط الأردني، من جهة أخرى. وفي مراجعة خلفيات هذه الأزمة الإخوانية غير المسبوقة، لا يمكننا تجاهل العوامل الآتية:
1) تراجع تأثير الإسلام السياسي، بعامة في البلاد، جراء الانتكاسات السياسية والأخلاقية التي عصفت بمنظمات الإسلام السياسي، بدءاً من الحرب الأهلية في العراق، ومروراً بالصراعات اللبنانية، وليس انتهاءً بالممارسات السلطوية العنفية لحكومة حماس في غزة.
2) شيوع اللبرلة الثقافية ــــ المسلكية ــــ الحياتية في العقد الأخير في الأردن، بتأثير توسع الليبرالية الاقتصادية وإلحاح المملكة الرابعة على تحديث نمط الحياة اليومية. وهو ما حصر تأثير الدعاة الإسلاميين في حدود تزداد ضيقاً، وأوقف تزويد الحركات الإسلامية بذلك السيل من الكادرات والشباب، وشل هيمنتهم على الحياة العامة،
3) نشوء ممثلين للفلسطينيين ــــ الأردنيين واصطناعهم، من أوساط الكمبرادور الليبرالي، وتمكين هؤلاء من القيام بدور الوساطة بين هذا الجمهور والسلطات، وإقامة بديل أكثر فعالية من التوسط الإخواني،
4) ظهور «الصحوة العشائرية»، الأسوأ والأكثر تطرفاً، التي تعبر عن نفسها بالعودة إلى العصبيات العشائرية المقترنة بالعنف، وحتى تكوُّن مليشيات عشائرية مستعدة لتحويل صدام بين أسرتين إلى اشتباكات عنيفة بين العشائر وبينها وبين قوات الأمن،
5) انهيار النموذج الاقتصادي الليبرالي للمملكة الرابعة (الاستثمارات العقارية والمالية والسياحية والصناعة التصديرية)، مع تصاعد المديونية والعجز والبطالة والفقر إلى أرقام ونسب غير مسبوقة (بالترتيب: أكثر من 9 مليارات دينار، 1,1 مليار دينار، 24 بالمئة، 50 بالمئة)،
6) الفشل في حل مشكلة تنظيم المواطنة أو حتى تنظيم العودة مع مليون ومئة ألف فلسطيني يملكون تصاريح العودة إلى الأراضي الفلسطينية، مما ولّد انعدام الثقة إزاء السياسات الرسمية في هذا المجال أيضا، وفاقم من الانشقاق الأهلي الضاغط على كل القوى السياسية إلى حد شلها.
هذه العوامل، وسواها، تضغط بدورها على الانشقاق الإخواني، وتقوده إلى اصطفافات اجتماعية وسياسية يظهر أنها تتجاوز الأيديولوجيات.
* كاتب أردني

Posted in Uncategorized.