*
بعد عقد ونيّف من التطبيق العاصف للسياسات النيوليبرالية في الأردن، تكشف نتائج 2009 الاقتصادية عن كارثة: نسبة النمو تراجعت إلى 2،1 بالمئة، عجز الموازنة العامة ارتفع إلى حوالى ملياري دولار، المديونية العامة تضخّمت إلى أكثر من 14 مليار دولار، بنسبة تزيد على 60 بالمئة من الناتج الإجمالي المحلي، قيمة الأسهم في البورصة انخفضت بمعدل 8 في المئة، التدفقات الاستثمارية الأجنبية هبطت بنسبة 65 في المئة، والصادرات بنسبة 20 في المئة، والسياحة بنسبة مساوية تقريباً، وحوالات المغتربين بنسبة 5 في المئة.
الأرقام أعلاه مرشحة للأسوأ في عام 2010. وتأثيراتها تتجاوز العجز عن تلافي التسريحات أو توفير فرص العمل أو زيادة الأجور أو تمويل المساعدات الاجتماعية لحوالى ثلاثة ملايين مفقر، منهم مليون جائع تقريباً، بل هي تهدّد بانهيارات جديدة حادة في بنى الفئات الوسطى التي تتعرض لضغوط شديدة جراء الانكماش المتحوّل ركوداً. وهو ما سيوفّر قيادات مسيّسة للاحتجاجات الشعبية المتوقعة.
تنزع التحليلات المسيطرة إلى تفسير الفشل الاقتصادي والاجتماعي للنموذج النيوليبرالي بالأزمة المالية والاقتصادية العالمية. ولا يمكن، بالطبع، تجاهل تأثير هذه الأزمة، ولكن السؤال يظلّ يتعلّق بصواب الخيار الاقتصادي ـــــ الاجتماعي النيوليبرالي نفسه، وهو الذي يسمح بالانكشاف الكامل إزاء المؤثرات الخارجية. هذا الانكشاف هو جزء لا يتجزأ من النموذج، بحيث إن التحسّب له هو أمر لا مفرّ منه للإدارة الاقتصادية العقلانية. فكما أن النموذج يقوم على تدفق الاستثمارات الأجنبية وتعاظم الصادرات والسياحة الخ، وفق تفاعلات خارجية، فإن العكس ممكن دائماً. وهي حقيقة يعرفها المبتدئون، وتمت مشاهدتها بالعين المجردة في تجارب دول أخرى منذ الثمانينيات.
غير أن تصاعد المديونية العامة لم يحدث في سنة الأزمة فقط، بل هو نتاج سياسات العقد كله من الإفراط في الإنفاق الذي خلق الظروف المؤاتية لجذب الاستثمارات الأجنبية. وكان بعضها لازماً لتحقيق هذا الهدف ـــــ وليس لتطوير قدرات البلاد الاقتصادية بالضرورة ـــــ مثل الإنفاق على البنى التحتية، بينما كان بعضها الآخر لا لزوم له حتى من وجهة نظر النيوليبرالية، ومن ذلك الإنفاق الخيالي المتصاعد على إقامة مؤسسات إدارية جديدة موازية للوزارات، وما سمّي تطوير الإدارة، والدراسات، وعقود الاستشارات، وتوظيف «الخبراء» و«الكفاءات» خارج نظام الخدمة المدنية، والحملات الدعائية الباهظة الكلفة. وقد أوجد هذا النوع من الإنفاق الكثيف، فئة جديدة متسعة من الإداريين والمقاولين ـــــ الذين يُطلق الشارع عليهم وصف «شباب الديجيتل» ـــــ وقد أصبح لهذه الفئة مصلحة مباشرة في المزيد من الإنفاق على هذا المجال الافتراضي الأشبه برغوة تحديثية. بدوره، ضخّم الفساد الكبير ـــــ أو فوّت على الخزينة القدرة على سداد ـــــ المديونية. ولا نريد هنا الدخول في سجال حول ملفات فساد يدور حولها جدل. ونكتفي بالقول إن ملف فساد واحد ـــــ من الملفات المتفق عليها ـــــ وهو المتعلّق بشركة أمنية للاتصالات، كلّف ما يقرب من 750 مليون دولار، أي ما نسبته 5 في المئة من المديونية، أو ما يعادل إجمالي المساعدات الأميركية لعام كامل.
ومع ذلك، فإن الفساد ليس هو المسؤول الأول عن الفشل. ذلك أن كلفة التخبّط في الإدارة الاقتصادية شبه السرية للمشاريع الكبرى هي أكبر من كلفة الفساد. والأهم أنها تتصل بصلب النموذج النيوليبرالي نفسه الذي يسعى إلى تحريك السوق ـــــ والاستثمارات ـــــ بوسائل اصطناعية وقسرية، تنطوي دائماً على افتراضات غير مدروسة الجدوى. ومن الأمثلة على تلك المشاريع الكبرى: تحويل المباني الجديدة للقيادة العامة للجيش إلى مجمع استثماري وتشييد سواها في مكان آخر. وليست لدينا الأرقام حول حجم الأموال الضائعة جراء هذا المشروع المبني على افتراض تحوّل عمان إلى مركز للشركات الدولية الكبرى في ظل ازدهار «موثوق». ولا نعرف أيضاً حجم الأعباء التي سيرتّبها مشروع آخر أطاحته الأزمة، ونعني بيع ميناء العقبة المعد للخدمة الكفوءة لمدة عقدين مقبلين، بيعه كعقار لمستثمر خليجي لإنشاء منتجع سياحي محله، وفي الوقت نفسه تفويض إنشاء ميناء جديد على نظام الاستثمار والتشغيل لحساب المستثمر (بوت).
الأموال التي حصلت عليها الحكومة من بيع الميناء الحالي، تبددت في شبكة الإنفاق الافتراضية، ولكن خصوصاً في رفد تمويل شراء ديون خارجية بشروط مجحفة قبل بضعة أشهر فقط من اندلاع الأزمة المالية العالمية. وقد أدت الصفقة ـــــ التي تجاهلت اعتراضات الصحافة والمحللين الاقتصاديين ـــــ إلى تبديد آخر ما بقي لدى الدولة من أموال الخصخصة.
في أواخر الثمانينيات، أجبرت أزمة المديونية العامة، عمان، على الخضوع لبرنامج تصحيح اقتصادي تحت إشراف صندوق النقد الدولي. وقد جرى ـــــ بكلفة اجتماعية باهظة ـــــ تنفيذ الاستهدافات التقليدية لهذا البرنامج الذي يقوم على الخصخصة الشاملة ووقف بنود الدعم الاجتماعي من الموازنة العامة وضبط الإنفاق العام، بما يكفل تمكين الحكومة من الوفاء بالتزاماتها للدائنين مع ضبط العجز. وقد أدى هذا البرنامج المطبّق بحرفيته ـــــ ما عدا الجانب المتعلق بالخصخصة ـــــ إلى انكماش عميق في التسعينيات قاد إلى عقد من الاحتجاجات الاجتماعية. وما جعل الاقتصاد الأردني قادراً على تحمل الظروف الصعبة للغاية، وتلافي الخصخصة الشاملة خلال العقد، هو المساعدات النفطية العراقية والتجارة شبه الاحتكارية مع العراق المحاصَر. وكذلك، هجرة رساميل العاملين الفلسطينيين في الكويت الذين طُردوا منها بمئات الآلاف، واستقر معظمهم في الأردن.
ومع مطلع العقد المنصرم، بدا كأن النموذج النيوليبرالي، بانفلاته الإنفاقي ووعوده الافتراضية لازدهار سريع، هو الدواء الناجع لشظف التسعينيات الخاضعة لقيود صندوق النقد الدولي. من أين يأتي تمويل النموذج ذاك؟ آنذاك، كان القسم الرئيسي من القطاع العام قد نجا ـــــ جراء مناورات التأجيل للبيروقراطية المحافظة ـــــ من الخصخصة. وتم التوقف عن تلك المناورات المعتبرة «رجعية»، وتم الشروع في عملية خصخصة واسعة النطاق ومتسرّعة، حتى في الجانب الفني منها. كانت الخطة هي التخلّص السريع من المرافق والشركات العامة والمختلطة، كجزء من عملية بناء النموذج النيوليبرالي، ولتمويل نفقاته. شاب الخصخصة فساد ضخم ـــــ وخصوصاً في عمليات بيع الأسهم الحكومية في شركتي مناجم الفوسفات والبوتاس ـــــ لكن الثغرة الأساسية، تمثّلت في عدم وجود خطة شاملة لاستخدام عائدات الخصخصة التي تم الصرف منها أولاً بأول، وفق احتياجات الإنفاق على النموذج، وعلى تسوية الاختلالات الاجتماعية والإدارية الناجمة عنه.
هنا، تدخّل العامل العراقي مرة أخرى، حين تدفقت على البلد أموال مهاجرين عراقيين بعد 2003 وأموال المساعدات الأميركية التي تضاعفت تقريباً إبان «الحرب على الإرهاب» وحرب العراق، وما نشأ على هامشها من بزنس تدريب قوات الأمن العراقية الجديدة.
مع نهاية 2009، انكشفت أزمة النموذج النيوليبرالي الأردني، إلا أن ذلك لم يؤدّ إلى مراجعة النموذج نفسه
كانت الخطة الوحيدة المعتمدة طوال ذلك، بلا نقاش، هي المتمثلة بعمل كل ما هو لازم وغير لازم من بنى وهيئات وقوانين وتسهيلات، لإعداد البلد لجذب الاستثمارات الأجنبية المعوّل عليها في إغلاق افتراضات دائرة النموذج النيوليبرالي من خلال زيادة مطّردة في الاستثمار والصادرات والسياحة وفرص العمل وزيادة الاستهلاك، وانعكاس ذلك كله على موارد الخزينة من ضرائب ورسوم. ومع نهاية 2009 انكشفت أزمة النموذج النيوليبرالي الأردني بحيث لم يعد ممكناً تجاهلها.
إلا أن ذلك لم يؤدّ إلى مراجعة النموذج نفسه، ومنطلقاته وافتراضاته، بل جرى البحث عن خطة لتحفيزه! حُلّ البرلمان وتألّفت حكومة جديدة بفريق اقتصادي محافظ مالياً. وعُبّدت الطريق نحو إصدار قوانين اقتصادية مؤقتة واتخاذ إجراءات بلا رقيب، هدفها من جهة تقديم المزيد من الخفوضات الضريبية والتسهيلات الإدارية والقانونية واللوجستية للرأسمال الأجنبي ووكلائه المحليين، وتحفيز الجهاز المصرفي على الإقراض، ومن جهة أخرى ضبط الإنفاق العام الذي سيركّز، بطبيعة ميزان القوى السياسي، على خفض البنود الاجتماعية وتجميد التوظيف والأجور. وسيكون على الأغلبية الشعبية أن تتحمّل، مرة أخرى، وزر خيار اقتصادي تقرر بمعزل عن إرادتها وواقعها ومصالحها. ولكن الأفق سيظل مغلقاً. فالأزمة المالية والاقتصادية العالمية وخصوصاً الخليجية، تتعمّق. ويواجه الأردن أعباء مديونية عامة ضخمة لم يعد لها ما يقابلها من موجودات وطنية تمّت خصخصتها وبيعها وإنفاق عائداتها. وقد تنجح الحكومة الجديدة بوقف الهدر هنا أو هناك، وحتى ضبط الفساد المتوسط والصغير، لكنها لن تنجح ـــــ بالنظر إلى متطلبات إدارية وأمنية واجتماعية ـــــ في خفض العجز إلى حدود لا تستوجب المزيد من الاستدانة. وهكذا يكون البلد قد دخل في دائرة مفرغة. ومن دون الحل المتمثل بتغيير شامل يطيح النموذج النيوليبرالي كله لمصلحة نهج تنموي وطني في ظل ديموقراطية اجتماعية، فإن الحلول الممكنة على المدى القصير هي حلول سياسية، وأخطرها: المساعدات مقابل الوطن البديل. وليست هذه مساومة واشنطن والغرب فقط، بل هي أيضاً مساومة السعودية.
* كاتب أردني