في ضحى ذلك اليوم الحزين، 26 تشرين الأول 1994، كنا بضعة وثلاثين لا غير، يساريين وقوميين وإسلاميين، في باحة المسجد الحسيني الكبير وسط عمان، نهتف ملء حناجرنا ونلوّح بقبضاتنا ضد المعاهدة مع إسرائيل. لم ينضم إلينا أحد من خارج صفوفنا، أقصد من الشعب. كان هنالك بالطبع، توتر أمني شديد وتخويف أيضاً. كان وسط البلد قد تحوّل منذ زمن إلى مركز للمهاجرين من مصر والعراق ودول أخرى، فلم يكن جمهور«نا» هناك. أما الحقيقة المرة التي كنا نعرفها ونشيح عنها، فهي أن ذلك الجمهور كان، في أغلبيته الكبرى، يؤيّد المعاهدة
*
في ذلك الزمن، زمن توقيع اتفاقية وادي عربة، كان فلسطينيو الأردن منتشين بأوهام أوسلو، وكان الأردنيون يريدون اللحاق بالجنّات الموعودة، وكان النشطاء والمثقفون مهزومين ومكلومين، فتُركوا لمداراة آلامهم، ومُنحوا حق التعبير عن رأي بلا تأثير. قال لي أحدهم ذلك اليوم: «إنها محدلة». مَن هو العاقل الذي يجابه محدلة؟ ربما تصرخ، أو تبكي، ولكنك ستخلي الطريق. وقد أخليناه عائدين إلى بيوتنا لا نلوي على شيء.
سأتذكر ذلك اليوم دائماً، حين رأيت الشعب متواطئاً. الشعب يتواطأ… لا عن خوف أو جهل، إنه يدرك قوته ويعرف مضمون المعادلة المخجلة، ويقبلها انطلاقاً من أسوأ الغرائز.
في دعايته الكثيفة لـ«السلام» مع إسرائيل، استخدم الملك حسين كل ثقله في خطاب متعدد الأبعاد. ترك الحديث عن المنافع المادية، كعادته، للمسؤولين والإعلاميين. وبينما تحدّث علناً حديثاً غير مفهوم عن السلام كقضية بحد ذاتها، ركّز في مسعاه لإقناع البيروقراطية والقيادات والعشائر على القضايا الاستراتيجية:
ــــ أصبح الأردن بعد أوسلو معزولاً تماماً، فعداء السعودية والدول الخليجية للأردن، بسبب وقوفه الصريح مع صدام حسين في مسألة الكويت، تحوّل حصاراً ومسعى للانتقام. وعلى الخلفية ذاتها، كانت العلاقات مع مصر وسوريا شبه مقطوعة، وبوارج التحالف الغربي تحاصر ميناء العقبة وتفتش السفن الذاهبة إليه بحجة منع وصول الممنوعات إلى العراق.
ــــ كان لدى الأردن حتى 1993 ورقة واحدة، هي دوره في المفاوضات على المسار الفلسطيني. وقد أسقط ياسر عرفات هذه الورقة في أوسلو. لقد اعترفت إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية مفاوضاً، لقاء ثمن باهظ جداً، ولم تعد «المظلة» الأردنية لازمة.
ــــ والأردن المعزول يواجه، بذلك، تحالفاً إسرائيلياً ــــ فتحاوياً من شأنه أن يضع خطة الوطن البديل على الطاولة بتأييد دولي وعربي.
وهكذا، فإن معاهدة وادي عربة تغدو نوعاً من الرد على هذا الوضع كله، وعودة إلى الميدان، وإنقاذاً للبلد. مصطفى حمارنه، مستشار الملك حسين، كان يقول: «نحن لا نفاوض عن القدس، بل عن عمان».
اعتبر الملك حسين أن المعاهدة تنازل أردني غير مشروط مقابل اعتراف إسرائيلي بالمملكة الأردنية
إصرار الملك حسين الملحاح على الحصول على تفويض سياسي وشعبي كان يثير لديّ الشعور بعمق الأزمة التي وجد نفسه فيها: فوادي عربة، بالنسبة إليه، كانت مخرجاً من مأزق استراتيجي. لكنها، كما كان يدرك، ستضعه خارج المعادلة. أراد أن يضمن التأييد الداخلي، ويحافظ على احترام الأردنيين له، متجنباً صورتيْ أنور السادات وياسر عرفات التهريجيتين. لكنه بعد التورّط في وادي عربة وقع هو نفسه فريسة اللهاث وراء إرضاء الرأي العام الإسرائيلي والأميركي على حساب رضى الرأي العام الأردني والعربي. ونذكر هنا مشاركته الساخنة في جنازة إسحق رابين 1995، واعتذاره الشخصي المؤلم لأسر ضحايا حادث الباقورة 1997، حين قتل جندي أردني سبع طالبات إسرائيليات. وقد سبق أن قلت في كتابي «الملك حسين بقلم يساري أردني»، إن الرجل مات سنة 1994 لا عندما وافته المنية سنة 1999. الضربة السياسية الجادة الأولى التي تلقتها معاهدة وادي عربة، وأطلقت التيار العام لمعارضتها، تمثّلت في تصويت الرئيس أحمد عبيدات ضدها في مجلس الأعيان. يحظى عبيدات بالشعبية وبالاحترام في أوساط النخب الأردنية. فهو أحد الذين خاضوا المواجهة الدامية مع فتح وحلفائها عام 69ــــ70، وتعرّض حينها للاختطاف والتعذيب، ولكنه عُرف بعدائه لإسرائيل ونزاهته ومقاومته للفساد خلال شغله مناصب رفيعة، منها مدير دائرة الاستخبارات العامة، عندما كانت الدائرة حزب النظام وركنه الركين قبل 89، ورئيس الوزراء الذي لم تحتمل التركيبة الحاكمة جديته واستقامته، ورئيس لجنة الميثاق الوطني التي ضمت ممثلين عن معظم التيارات السياسية وأطلقت الحياة الحزبية في مطلع التسعينيات، وعضو مجلس الأعيان، أحد مجلسي الأمة الذي يعين الملك أعضاءه. وبكلّ هذه الصفات، كان رفض الرجل معاهدة وادي عربة، لحظة صحو لدى أوساط جماهيرية واسعة. لقد تبين أن ما تقوله قوى المعارضة عن تفريط المعاهدة بالحقوق الأردنية في الأرض والمياه صحيح، وها هو يكتسب تأييداً ومباركة من أفضل شخصيات النظام نفسه!
في ذلك اليوم، زرتُ عبيدات، مع رفاق آخرين، في مكتبه في جمعية البيئة الأردنية، منهين جفوة كان سببها إفراطه كمدير للاستخبارات في التضييق على القوى السياسية، وبالأخص الشيوعيين. لكن لحظة التلاقي كانت أكبر من هذا الجانب. يومها سألني الرجل سؤالاً غريباً: ما هو رأي الشارع الفلسطيني بموقفه؟ وقد حرت، ولم أزل، جواباً.
كان اهتمام الجمهور الفلسطيني ينصبّ على «نجاحات» الزعيم الموثوق من جانبهم، ياسر عرفات، في أوسلو. وكانت النزعة المشروعة لتحصيل دولة وطنية على الأرض، بأي ثمن، قوية جداً ومفهومة. ولا بد من التذكير بأن السنوات الأولى من قيام السلطة، حتى اندلاع الانتفاضة الثانية، قد خلقت سياقاً تتواءم فيه النزعة الوطنية والمصالح والشؤون الفردية. ولم تبق قوة مؤثرة معارضة للعملية السلمية بين الفلسطينيين سوى الإخوان المسلمين. لم يأبه «الإخوان» بتفاصيل التنازلات التي قدمتها عمان في معاهدة وادي عربة. فهم رفضوها من حيث المبدأ، مركزين هجومهم على المنظمة والسلطة. وكان هذا الرفض المبدئي الذي يبتعد عن وحول التفاصيل، وينقل الصراع إلى الخارج، ملائماً للغاية لأغراض الملك حسين كما سنرى لاحقاً.
بالمقابل كانت الحركة ضد معاهدة وادي عربة والتطبيع قد انطلقت. وكان الناشط المعروف ليث شبيلات قد بدأ سلسلة فعاليات ومحاضرات في هذا السياق كلفته القطيعة مع النظام والسجن. لكنه كان يصمت عن الاحتجاج الذي يتلقاه بسبب عدم تعرّضه لأوسلو وياسر عرفات. وشبيلات، المستقل والمعروف بنزاهته، لم يكن يفعل ذلك نتيجة ارتباط خفي مع فتح، بل لأنه كان يدرك أنه بينما تتسع دائرة الجماهير الرافضة أو المشككة بوادي عربة، كان لا يزال التأييد الشعبي لأوسلو وعرفات قوياً، ولا يمكن مجافاته.
ومما عزّز الشكوك حول معاهدة وادي عربة أن كادرات من لجان المفاوضات بدأت، في مسعى مشروع للدفاع عن النفس، تسرّب أن الجهاز الأردني الفني استعد للمفاوضات بملفات كاملة وأسس واضحة للحقوق الأردنية المغتصبة من الإسرائيليين، إلا أن أوامر سياسية قطعت التفاوض الفني، ووجهت المفاوضين الأردنيين إلى تسهيل الوصول إلى اتفاقات. وهكذا، تم التوصّل إلى أسوأ شروط بالنسبة للأردن:
أولاً، الحدود: انطلقت المفاوضات من تنازل أساسي قدّمه الجانب الأردني، ويتمثل بالتخلي المسبق عن بحث إعادة بلدة أم الرشراش على خليج العقبة، التي احتلها الإسرائيليون عام 1949، أي بعد الهدنة وفي خرق لها، وأقاموا فيها ميناء «إيلات» الذي ما فتئ أن توسع على حساب المياه الإقليمية الأردنية لاحقاً. يحدّد أطلس المركز الجغرافي الأردني (مؤسسة تابعة للقوات المسلحة) الصادر عام 1983، الذي سُحب من التداول بعد المعاهدة، خرائط الأراضي الأردنية المحتلة من «العدو الإسرائيلي»، بادئاً بالخريطة الرقم (1)، خريطة منطقة الاحتلال في خليج العقبة. ويقول النص المرفق بها الذي كان يمثّل الموقف الرسمي في حينه: «تبيّن الخريطة أن خط الهدنة عام 1948 يقع في الطرف الشمالي الغربي من خليج العقبة، وقد ضمنت اتفاقية الهدنة هذا الخط، ولكن إسرائيل احتلت الموقع الحالي والمبين في الخريطة بحجة أن الحد الفاصل بين فلسطين وشرق الأردن في عهد الانتداب كان يمثله هذا الخط. وبذلك تكون إسرائيل قد خرقت اتفاقية الهدنة، ولم تكتف بذلك، إذ إن المنطقة المخصصة لرسو السفن في ميناء إيلات تتعدى لتشمل مياهاً إقليمية أردنية صميمة. وإذا اعتبرت العوامات التي تضعها إسرائيل في خليج العقبة فاصلاً بين المياه الإقليمية الأردنية ــــ الإسرائيلية، فإن هذا يعني تقليص المياه الإقليمية الأردنية باتجاه الجنوب ليصبح عرضها صفراً، وهو ما تبينه الخريطة».
وقد بدأ مفاوضو وادي عربة من الاعتراف بالحجج والوقائع التي فرضها الاحتلال الإسرائيلي، متنازلين، رغم الدستور، عن أراض وطنية ومياه إقليمية، وعن المدى الجغرافي الطبيعي للمنفذ البحري الوحيد للبلاد، وعن الاتصال الجغرافي مع مصر. وتمثّل هذه التنازلات المسبقة كارثة استراتيجية وتنموية وأمنية. على أن المفاوضين الأردنيين لم يتمسكوا بالسيادة أو حتى بالمساحات في ما يتصل بمنطقتي الاحتلال موضع التفاوض في الباقورة (شمالاً) ووادي عربة (جنوباً).
يقول أطلس المركز الجغرافي الأردني رفقة خريطة الاحتلال في الباقورة الرقم (2) ما يأتي: «عينت الحدود بين شرق الأردن وفلسطين إبان الانتداب البريطاني، واعتبر نهر الأردن حداً فاصلاً بين القطرين، ونهر اليرموك حداً فاصلاً بين الأردن وسوريا. إلا أن اليهود احتلوا المنطقة الواقعة في الجانب الأردني عند ملتقى نهر الأردن ونهر اليرموك في غرب الباقورة التي بلغت مساحتها 1390 دونماً. ويبدو واضحاً أن إسرائيل تهدف إلى السيطرة على ملتقى النهرين، واستغلال المياه من خزان اليرموك».
وفي وادي عربة، قدم الجانب الأردني تنازلات واسعة وغامضة وخطيرة. فقد قبل باسترداد 850 دونماً وتنازل كلياً للإسرائيليين عن 540 دونماً. علماً بأن مئات الدونمات هنا لها أهمية استراتيجية في ما يتصل بالحقوق المائية في نهري الأردن واليرموك.
لكن الأسوأ هو الثمن الذي دفعه الأردن لقاء الاستعادة القانونية، لا السيادية أو الفعلية، على الـ850 دونماً تلك، وهو قبوله بعدم ممارسة أي لون من ألوان السيادة الحدودية أو القانونية أو الضريبية أو الشرطية على الأرض «المستعادة» التي أُخضعت لـ«نظام خاص» يسمح بحقوق تملك الإسرائيليين وشرطتهم وموظفيهم، واستعمالهم وإقامتهم ودخولهم وخروجهم إلى المنطقة من دون قيود، ويُمنع المواطنون الأردنيون، بالمقابل، من الدخول إليها إلا بتصاريح، ويجمد سيادة القوانين والمحاكم الأردنية كلياً فيها.
ويظل الأخطر هو حدود منطقة «النظام الخاص» التي تخطت الأراضي «المستعادة» إلى أراض لم تكن محتلة سابقاً، لكنها أُخضعت لشروط النظام الخاص بمنطقة الباقورة / نهاريم وفق الملحق (1/ب) لمعاهدة وادي عربة، التي ظل تعيين حدودها سرياً وغامضاً، ولكنه يشمل على الأقل الأراضي التي كانت مخصصة، قبل قيام دولة إسرائيل، لشركة كهرباء فلسطين في الموقع الذي يسميه الإسرائيليون «نهاريم»، وهي أراض أردنية صميمة لم تكن محتلة ولكنها موضع مطالبة إسرائيلية بحقوق ملكية، وتبلغ مساحتها 5380 دونماً. وبالمحصلة، فإن إسرائيل «استعادت» تملك أراض أردنية واستخدامها تحت مظلة قانونية تنزع عنها كل ممارسات السيادة، بما فيها البلدية.
وبالنسبة لخريطة منطقة الاحتلال الإسرائيلي في وادي عربة (الرقم 3)، يقول الأطلس ذاته: «قامت إسرائيل بعد عام 67 بتغيير خط الهدنة في وادي عربة، وزحزحت هذا الخط شرقاً لمسافات مختلفة، وصلت في بعض المناطق إلى 8 كلم، بطول 128 كيلومتراً. أما المساحات التي استولت عليها إسرائيل فقد بلغت 387،4 كيلومتراً مربعاً». وقد اتُّفق بصدد هذه المنطقة على تسوية أعادت قسماً منها إلى الأردن مقابل التخلي عن الحق في الممارسات السيادية الأردنية عليها، بما في ذلك منح المستوطنين فيها حقوق استئجار واستثمار. والسائر في طريق البحر الميت ــــ العقبة يلاحظ المزارع الإسرائيلية الغنّاء في الوادي، ويلاحظ أن الجانب الأردني غير مستغَل زراعياً إلا في حدود ضيقة ومن شركات تابعة للأمن. ولا يعود ذلك إلى ظروف طبيعية، فالطبيعة واحدة، ولا إلى كسل الأردنيين، بل إلى الامتيازات الإسرائيلية في استغلال المياه الجوفية والاشتراطات الأمنية. وبالمحصلة، تخلص الإسرائيليون من أعباء حماية مستوطنيهم في وادي عربة، وانتزعوا قوننة استثماراتهم وسرقتهم للمياه الجوفية الفلسطينية ــــ الأردنية.
ثانياً، المياه: وقد قدّم الجانب الأردني، في هذا المجال، ما يُعد كارثة بالنسبة لبلد هو من أفقر عشرة بلدان في الموارد المائية:
1) أقر الجانب الأردني بالواقع القائم من استئثار إسرائيل بكل المياه العذبة في أعالي نهر الأردن حتى بحيرة طبريا، متنازلاً عن حقوقه المائية في البحيرة وفي المصادر المائية شمالها، وتبلغ 100 مليون متر مكعب، هي حقوق أراضي الزور الأردنية، وعن حوالى 5 م.م.م من المياه العذبة لإرواء الملكيات الإسرائيلية في أراضي الباقورة، وعما مقداره 10 م.م.م لإرواء الأراضي المؤجرة للمستوطنين الإسرائيليين في وادي عربة. وهكذا نلاحظ أن التنازل عن السيادة على أراضي الباقورة والغمر في وادي عربة، استتبع التنازل عن حصصهما المائية. وحصل الأردن مقابل ذلك على حق تحلية 60 م.م.م من المياه المالحة جنوبي طبريا وإقرار إسرائيل بحقوقه في تصريف أوديته الداخلية، وحقوقه لدى سوريا في نهر اليرموك!
2) ورغم أن نهر اليرموك هو نهر سوري ــــ أردني داخلي، وليس للأراضي الفلسطينية، وبالتالي الإسرائيلية، حقوق عليه، باستثناء حقوق مثلث اليرموك ومقدارها 17 م.م.م، إلا أن الجانب الأردني، من دون مشاركة سوريا أو موافقتها، أبرم اتفاقاً مع طرف ثالث بشأن الحقوق الثنائية الأردنية ــــ السورية، وتنازل للإسرائيليين عن 25 م.م.م من مياه اليرموك، ووافق على إقامة سد تحويلي مشترك مع الإسرائيليين على اليرموك. وقد أدى هذا الإجراء العدائي إلى نشوب مشكلة مياه مع سوريا التي لم تعد تعترف بالحقوق الأردنية في اليرموك، وتقوم بالتالي بالسحب فوق حصتها من النهر وتخزينها في سدود محلية، ضمانة لعدم تسرّب هذه المياه إلى إسرائيل.
3) اعتمد الاتفاق بين الجانبين الأردني والإسرائيلي مبدأ الربط المائي الثنائي، وأهم عناصره تخزين فائض المياه الأردنية الشتوية في بحيرة طبريا، رغم أن تخزينها محلياً أكفأ وأقل كلفة، عبر أنابيب، واستعادتها صيفاً. وتحسن المياه الشتوية العذبة نوعية المياه المستهلكة في إسرائيل التي تضخ، بالمقابل، مياهاً من نوعية رديئة، وغالباً ملوثة إلى الأردن صيفاً. وهو ما فجر فضائح متكررة خلال السنوات الخمس عشرة الماضية.
ثالثاً، اللاجئون: الأردن هو أكبر مستضيف للاجئين الفلسطينيين خارج فلسطين. ويعيش على أرضه حوالى مليوني لاجئ وفدوا إثر النكبة. ومن البديهي أن إنهاء حالة الحرب والصلح بين الأردن وإسرائيل يتطلبان، وفقاً للشرعية الدولية وموجبات السيادة والمصالح الأردنية، القيام أولاً بإنهاء الوقائع الناتجة من الحرب، وأهمها بالنسبة للأردن، واقعة اللجوء الفلسطيني. وقد تنازل الجانب الأردني عن حقه كدولة مضيفة وعن حق اللاجئين في العودة والتعويض والملكية. وقد اعتبرت المادة 8 من معاهدة وادي عربة قضية اللاجئين والنازحين «مشكلة إنسانية» ناجمة عن «النزاع في الشرق الأوسط»! وأحالت البحث فيها إلى لجنة رباعية مع مصر والفلسطينيين (بالنسبة للنازحين) والمجموعة الدولية المتعددة الأطراف. وقد وضعت إسرائيل اللجنتين على الرف، بينما ينفذ الأردن من طرفه الاتفاق الثنائي بشأن «تطبيق برامج الأمم المتحدة المتفق عليها وغيرها من البرامج الاقتصادية الدولية المتعلقة باللاجئين والنازحين، بما في ذلك المساعدة على توطينهم». وهكذا نلاحظ أن معاهدة وادي عربة تنص على التوطين صراحة ولا تذكر حق العودة والتعويض إطلاقاً، وتؤكد الطابع الإنساني للمشكلة والأفق الاقتصادي لحلها. ومما يثير الاستهجان والتساؤل قبول الأردن بالتعامل في معاهدة دولية مع قضية اللاجئين بهذا القدر من الخفّة. غير أن الخفّة والتنازلات المعيبة والغموض تميّز كل حرف في معاهدة وادي عربة التي أُلحقتْ بعشرات الاتفاقات التفصيلية بشأن التعاون الثنائي في كل المجالات الممكنة، القائمة والمستقبلية. وهي اتفاقات سمحت لإسرائيل بإحداث اختراقات في جهاز الدولة والاقتصاد والمجتمع في المملكة. اختراقات حظيت بتشجيع رسمي كثيف (نذكر مثلاً التعاون الأمني والتبادل التجاري وتبادل الوفود ونشاطات ومشاريع التطبيع الثنائية سواء في المجالات الإدارية والتقنية والتربوية، وصناعة التصدير في المناطق الصناعية الفاشلة)، وقوبلت بنشوء حركة شعبية لمقاومة التطبيع عرفت فترات مد وجزر، ولكنها أصبحت عنواناً للمعارضة الوطنية ومحوراً صراعياً في السياسة الداخلية.
تخلى الأردن، بموجب المعاهدة، من طرف واحد، عن إجراءاته الدفاعية إزاء إسرائيل، وفكك منظومة الدفاع الوطني والاستخبار عن العدو ومكافحة التجسس الإسرائيلي، وألغى نظام خدمة العلم، ما يطرح التساؤل: هل رأى الملك حسين حقاً أن الخطر الإسرائيلي على الأردن لم يعد قائماً؟
لقد أسهبتُ في التعريف بحجم التنازلات التي قدمها الجانب الأردني في مجالات الأرض والمياه واللاجئين والدفاع، لأظهر أن معاهدة وادي عربة لم تكن، في أدق تفاصيلها، سوى صك إذعان، ثم لأسأل: لماذا؟ وأحاول تقديم إجابة.
لقد اعتبر الملك حسين، ومعه نخبة الحكم، أن المعاهدة ابتداءً هي تنازل أردني غير مشروط، مكتوب في وثيقة دولية، مقابل اعتراف إسرائيلي بالمملكة الأردنية الهاشمية ككيان، ووعد مفتوح غير
تنازل المفاوضون عن أراض وطنية، وعن المدى الطبيعي للمنفذ البحري الوحيد للبلاد
مكتوب بتخلي الإسرائيليين عن مشروع الوطن البديل. لكن، ما إن ضمن الملك حسين، أو ظن أنه ضمن ذلك، حتى بدأ يخطط للآتي. فهو، في مقابل أوامره بتسهيل الاتفاق، أي القبول بتنازلات جوهرية في مجالات تخص مصالح الأردن الحيوية، ألحّ على دور أردني خاص في القدس. لقد كان متشبثاً بتلك العلاقة الرمزية بفلسطين التي قد تتحول، مرة أخرى، إلى علاقة سياسية. من الناحية الاستراتيجية، كان الملك حسين ينظر إلى المعاهدة كشيء عابر مؤقت يريده عاجلاً لاستخدامه التكتيكي، فلا يدقق في تفاصيله ويتساهل في إنجازه، بينما غريزته السياسية تدله على الإمكانات التي يفتحها أمامه صعود حركة حماس. وقبل المعاهدة، ولكن وبقوة أكبر بعدها، رعى الملك حسين الحركة التي كان يؤمل أنها قادرة على إحداث انقلاب في السياسة الفلسطينية، يطيح ياسر عرفات وفتح، ويسمح بعودة العلاقة الوحدوية بين الفلسطينيين والمملكة. وبصورة جدلية، رأى الملك في رفض حماس أوسلو وإلحاحها على المقاومة، طريقاً يفضي إلى مفاوضات جديدة تفرضها الأحداث، تكون عمان هي المؤهلة كمفاوض رئيسي فيها، وتستعيد وحدة المملكة في صيغة كان اقترحها عام 72 تحت اسم «المملكة العربية المتحدة». حماس ستقلب الطاولة، وبوصفها امتداداً للإخوان المسلمين الأردنيين ــــ الفلسطينيين، رأى الملك قاعدة داخلية للوحدة تحت عرشه. ولذلك، سنستذكر الآن، بانتباه خاص، أن المرة الوحيدة التي هدد فيها الملك بإلغاء المعاهدة، كانت عندما حاول الموساد الإسرائيلي اغتيال رئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل في عمان. بالطبع، كان الملك يريد لمشعل الحياة، لكنه، بالأساس، أراد أن يفرض على إسرائيل حق الأردن السيادي في التحالف مع حماس، أي حقه في التدخل في السياق الفلسطيني، وهو حق كان التنازل عنه يجعل المعاهدة بلا معنى، بل عبئاً ثقيلاً جداً.
برحيل الملك حسين انتهت اللعبة الاستراتيجية المحفوفة بالمخاطر والمتوترة بالاحتمالات المفتوحة. قرر الملك عبد الله الثاني، مدفوعاً بنخبة الحكم ومصالح طبقة جديدة، أن يغلق النافذة الغربية، فقطع مع حماس، وتطابق مع الموقف المصري في تقديم دعم غير مشروط للسلطة الفلسطينية، وفق رؤية تظن بأن وقف التدخل في الشأن الفلسطيني ودعم السلطة ومساعدتها على ترتيب علاقتها مع الولايات المتحدة وإسرائيل، والأمل، في النهاية، بقيام دولة فلسطينية ما، هو ما يؤمّن سلامة الكيان الأردني، وينأى بالبلاد عن شجون القضية الفلسطينية من جهة، والأطماع الإسرائيلية من جهة أخرى، ويسمح بالتفرّغ لإقامة منظومة نيوليبرالية مزدهرة في بلد كوزموبولتي ناجح اقتصادياً. ومن شأن هذه السياسة التي سُميت «الاقتصاد أولاً» ثم «الأردن أولاً»، أن تلغي مشكلات الهوية والتوطين السياسي والتوتر الأردني إزاء إسرائيل، وتخلق ثقافة سلام جماهيرية. وقد انتهى هذا المشروع، كما هو معروف، إلى فشل كامل على المستويين الاقتصادي والاجتماعي. أما على المستوى السياسي، فقد تبين أن الهرب من استحقاقات القضية الفلسطينية ينقلها إلى داخل الأردن في شبكة من الألغام المحلية، بينما تتصاعد التهديدات من اليمين الصهيوني الذي يسيطر، لفترة طويلة مقبلة، على القرار الإسرائيلي، متبنياً استراتيجية تسير في أرض مفتوحة، تحرق فرص الدولة أو حتى الحكم الذاتي في فلسطين، وتوجه النار نحو الأردن، حيث بات مشروع الوطن البديل مطروحاً للتنفيذ، مستفيداً من معاهدة لم تكن مقصودة لذاتها، أخذ الإسرائيليون ما يريدون منها كاملاً ومكتوباً، بينما حصل الأردن على وعد شفوي من زعيم إسرائيلي (إسحق رابين) أصبحت عظامه، بل أصبح حزبه وخطه، مكاحل. في الذكرى الخامسة عشرة لمعاهدة وادي عربة، لم تعد موجباتها الأردنية قائمة من قريب أو بعيد. فلا الوطن البديل مستبعد ولا الدولة الفلسطينية ممكنة، ولا القدس مسورة برمزيتها. ولم يبق بالمقابل سوى التزامات الإذعان الأردنية. وهو ما يجعل إسقاط المعاهدة الآن لا واجباً وطنياً فحسب، ولا استعادة لحقوق مهدورة فحسب، بل مهمة إنقاذية للأردن وكيانه ودوره.
* كاتب أردني