*
لا يرتبط حزب حديث بمؤسسه مثلما يرتبط الحزب السوري القومي الاجتماعي بأنطون سعادة الذي قضى حياته القصيرة الملتهبة (1904ـــــ1949) في نضال دؤوب لتحقيق «نبوّته». فسعادة لم يكن في الواقع مجرد مفكر كبير أو مجرد مناضل مثابر أو مجرد قائد كارزمي، أو كل ما كانه وعبّر عنه في إنسانيته الفذة. كان أهم من ذلك مجتمعاً، إذ اكتشف، مبكراً ووحيداً، قانون الممارسة السياسية في المشرق بوصفها ممارسة نبوية. ولعل مسمّى «الزعيم» واحتكار رسم العقيدة وتطويرها من جانبه، تتطابقان مع وجدان نبي علماني لا مع وجدان فاشي كما قرأه مستوردو الأفكار والنماذج الغربية ومعاييرها.
ولدت الأحزاب الشيوعية في بلادنا على نهج فكري وسياسي عالمي مدعوم بحركة عالمية كبرى. فلم يكن لمؤسسيها إلا فضل النضال. أما الأحزاب القومية العربية، التي استوردت خطابات غربية ولم تنجز نظرية، فهي ولدت في وسط سياسي مؤات تحفزه نزعة متعددة المشارب، تراكمت في أجيال، وتواطأت مع الخطاب السياسي والاجتماعي والديني والثقافي المسيطر. لم يصدر حزب البعث أو الحزب الناصري أو حركة القوميين العرب عن دعوة ورؤية، بل عن حراك سياسي منح المؤسسين أدوات وكادرات وفرصاً. وحزب الكتائب، الأقدم بين أشباهه، من كل الألوان، نشأ هو الآخر في سياق تبلور مشروع سياسي لعصبية طائفية. وحده الحزب السوري القومي الاجتماعي نشأ عن دعوة غير مسبوقة، كقطيعة مع ما كان كله، في نظرية متكاملة أطلقها في حزب سري، وقتذاك، (في 16 تشرين الثاني 1932) مثقف واحد وحيد في ريعان شبابه (28 عاماً) اعتمد كلياً على إلهامه وقوة إيمانه وإلحاحه وصبره وثباته وجهده.
ناضل كمحمد، مستخدماً وسائل الدعوة والتحشيد والتنظيم والقتال، مستعجلاً النصر، ومات كالمسيح، أسيراً ومهزوماً وعزيزاً وواثقاً، في تراجيديا تاريخية وشخصية كان يدركها إدراكاً كاملاً بكل أبعادها النضالية ـــــ المأساوية. ففي رسالته إلى إدفيك جرديني (5 شباط 1938) يؤكد شيئين: شعوره الجارف بتوحده مع قضيته حد التماهي التام، وإيمانه بضرورة انتصار القضية الآن، إذ انتصارها اللاحق غير حتمي. يقول: «إني أحبك، ولكن حبي لك ليس لنفسي وليس هو محور حياتي، بل سورية هي المحور الذي تدور عليه حياتي وحبّي. كلنا يحب أن نكون لسورية، لأنه جاء الوقت الذي إذا فات ولم نفعل شيئاً في سبيل حريتنا فإننا ساقطون في عبودية شديدة طويلة».
وفي مسعى صميم متصف بدينامية نادرة المثال لتلافي هذا المصير، اندرج سعادة في نشاط محموم، درس وكتب ونظّم خارج السجن وداخله، في الوطن والمنفى، مانحاً قضيته كل ذرة من كيانه. وفي السنتين اللاهبتين بين 47، حين عودته من المنفى، و49 حين استشهاده، عمل بلا هوادة من أجل الثورة في ظروف مستحيلة.
يرى أفضل دارسي سعادة، الدكتور عادل ضاهر، في كتابه المهم «المجتمع والإنسان ـــــ دراسة في فلسفة أنطون سعادة الاجتماعية»، أن سعادة الذي اتبع المنهج التركيبي التاريخي المتصل بالطبع بالغائية، كان مؤمناً بتطوّر البنى الاجتماعية التاريخي، من دون أن يقع في فخ الحتمية التاريخية. وبالنظر إلى واقعيته الصلبة في رؤيته المتحد الاجتماعي الأتمّ، مشروطاً بوحدة الحياة المادية والروحية في بيئة ضامة للمتحدات الأصغر التي تشكّل الأمة السورية، فإن استنتاجه بأن الفشل في تحقيق النهضة في الثلاثينيات ـــــ الأربعينيات، حينما كانت المتحدات تلك لا تزال متصلة نوعاً ما، ولم يتجذر بعد انفصالها الذاتي، سيؤدي إلى «عبودية طويلة» ناجمة عن تقطّع وحدة الحياة بينها. وهو ما حصل بالفعل منذ هزيمة حركة الحزب عام 1949 حتى الآن، بصورة انتقلت بالنهضة من إمكانية فعلية إلى فكرة. فكرة لا تزال ملهمة لمناضلين في لبنان وسوريا، لكنها معزولة في حزب قبِل الأمر الواقع من تفتّت فضائه السياسي.
سعادة اتبع المنهج التركيبي التاريخي المتصل بالغائية، وكان مؤمناً بتطوّر البنى الاجتماعية التاريخي
ولا نلوم الحزب في ذلك، فلا يمكن قادته اليوم أن يسيّروا، كزعيمهم في عام 1938، وفداً لتنظيم فروع الحزب من بيروت إلى دمشق فعمان فحيفا! وليست عند الحزب جماهير 2 آذار 1947 الهدّارة، الآتية من كل الأقطار السورية لاستقبال الزعيم العائد إلى أرض الوطن. فلسطين اليوم محتلة، وانتصر بين الفلسطينيين، منذ زمن بعيد، خطاب «القرار المستقل»، وتتجذر في صفوف الأردنيين هوية محلية تكتسب صلابتها من التهديد الصهيوني للمتحد الأردني، وتشمل لبنان عصبية متطرفة، بينما تعيد الشام تعريف هويتها، واقعياً، في إطار الجمهورية القائمة: تقفز عن جراح الإقليم السليب إلى علاقات استراتيجية مع تركيا، وترسّم الحدود، فعلياً ورمزياً، مع الأردن، وترسل سفيراً إلى بيروت، وتقبل بالقرار الفلسطيني المستقل. صحيح أن لدمشق دوراً لا نتجاهله في لبنان وفلسطين، ولكنه سقط من الخطاب والهوية، وانحصر في توظيف القوى في الصراع مع إسرائيل، ذلك الصراع الذي انضغط هدفه إلى استرداد الجولان المحتل لا أكثر. وفي العراق، حيث لم تحظ الدعوة بأنصار، فإن التاريخ يسير باتجاه تأطير المتحد العراقي، خارج القوميتين، العربية والهلالية. وهو خيار لا بديل منه لتلافي انحلال المتحد نفسه.
منذ رحيل سعادة، يتجه تاريخ الهلال كله، بالعكس من الإرادة التي انطلقت في 16 تشرين الثاني 1932، في تأسيس حزب ثوري لإعادة وحدة الحياة، شرط النهضة، إلى الوطن المجزّأ. ولكن، يا للمفارقة، في إطار القوانين التي وضعها سعادة نفسه في كتابه الأم، والمدهش، «نشوء الأمم»، حيث الأمة ليست فكرة ولا رغبة، بل إطار واقعي، مادي وروحي، تجزّأ فعلاً إلى خمسة أطر لخمسة مجتمعات لا يمكن الحزب أن يتجاهل حضورها الصلب، إلا إذا قبل، كما هي الحال فعلاً، بأن تتجاهله.
ربما من الظلم لسعادة أن نفصله عن تراثه الملموس المتمثل في الحزب، ومن الظلم للحزب أن نجرّده من أغلى ما يملك. لكن الظلم الأكبر لسعادة وللحزب وللأمة، ألّا يتحقق ذلك الفصل بينهما في الواقع الراهن، لتحقيق ثلاثة ضرورات عامة هي الآتية: أولاً، إدراج المنجز الفكري الأهم لسعادة، أعني كتابه «نشوء الأمم»، في السجال الراهن حول المجتمع والإنسان والقيم والتوحيد والتحرر، ونقله من مكتبة الحزب إلى مكتبة الوعي العربي. فالأخيرة بحاجة ماسة لهذا العمل العلمي ـــــ الفكري التأسيسي، حاجتها إلى استنطاق سلفه «مقدمة ابن خلدون»، في سياق إنتاج نظرية اجتماعية تاريخية أصيلة، تؤسس لعلم اجتماع سياسي مطابق في بلادنا، ينأى بفهمها عن أدوات الكمبرادور الفكري المضللة.
ثانياً، الانطلاق من كتاب سعادة، «الإسلام في رسالتيه» وتراثه العلماني، لبناء نظرية أصيلة فعالة للعلمانية في بلادنا. يحتاج الهلال الخصيب في واقعه المتشظي بالطائفية والمذهبية إليها، بصورة ملحة لا تقبل التأجيل لتلافي خروج متحدات الهلال الخصيب من التاريخ في ظلام السلفيات والحروب الأهلية. العلمانية الآن شرط حيوي لا للوحدة والنهضة فحسب، بل للبقاء. ومن الجلي أن العلمانيات المستوردة، بسبب عدم مطابقتها للاحتياجات المحلية، لا تزال تفشل في الحضور الفاعل في حياة مجتمعاتنا. ومأثرة سعادة أنه قدّم إطاراً سسيوثقافياً وفلسفياً (المدرحية) لتطوير علمانية هلالية.
ثالثاً، الانطلاق من لحظة سعادة الاستشهادية لإدراك أن الأسلوب النضالي في نشر الدعوة فات أوانه، لكن نشر الدعوة يظل ضرورة روحية راهنة، وضرورة سياسية آجلة، مما يتطلّب نشر العقيدة كدين علماني، واستحضار سعادة كنبي علماني للروح الواحدة للهلال الخصيب. وتخرج الدعوة بذلك من إطار حزب، لكنها تخترق، كطوبى، كل الأحزاب والتيارات.
لا يُنتقص كل ذلك من نضالية الحزب السوري القومي الاجتماعي، ولا من دوره في الحياة السياسية حيث تمكّنه الحركة في إطار جبهوي تحرري. لكن سعادة ليس ملكاً لحزب أو فرقة. إنه للأمة، وهي تحتاجه.
* كاتب أردني
77 عاماً على الحزب، لكن سعادة لم يأت بعد!
Posted in Uncategorized.