ناهض حتّر
كان صالون الفندق البيروتي محتشداً بالمدعوين العرب الى احتفال صحيفة «السفير» بعيدها الخامس والعشرين (العام 1999) من الاردن كانت توجان فيصل وأنا، وكان يجري بيننا حوار متحمس… أو انه بدا هكذا لان بقية الضيوف العرب، كانوا صامتين او متعبين او ضجرين، مشهد الصمت العربي الذي يتخلله الحوار الاردني، لفت نظر رئيس تحرير «السفير»، طلال سلمان… الذي علق قائلاً: «ما يزال الاردنيون متفائلين..»
والزميل طلال سلمان معارض تقليدي للسياسات الرسمية الاردنية، بل انه. على منوال المثقفين العرب، يتبنى التشكيك القوموي التقليدي بالكيان الاردني. لكنه – كغيره، أيضاً، من العرب – لا يستطيع ان يتجاهل التفاؤل الاردني.
صديقي العراقي أمير الركابي المفتون بزيتون عمّان، يرى أن عاصمتنا تعيش زمن الازدهار مثل قاهرة الاربعينات والخمسينات وبيروت الستينات… الخ ويلاحظ حيوية المجتمع الاردني بعين محبة وناقدة، ربما ترى ما لا نراه.
لا يضحك الاردني إلا للرغيف الساخن. انه كشور وجدّي لكنه طيب وقوي ومثابر… ومتفائل. والتفاؤل ميزة استراتيجية بالنسبة للشعوب.
الشعب الاردني ليس «كبيراً» أو «غنياً» انه شعب صغير، لكنه صنع منجزات كبيرة، على رأسها الدولة الاردنية الحديثة. فليقل الكافرون بالكيان الاردني والماسوشيون ما يقولون، لكن هذه الدول، صنعها الالحاح الجماعي للاردنيين. فهم – على مر التاريخ – أهل دولة، وأهل عصبية سياسية، حدثوها، وانتقلوا بها من القبيلة والمنطقة الى الوطن.. وعند اللحظات الحاسمة، فان كل الانقسامات الثانوية فيما بينهم، تنزلق على سطح وحدتهم الصلبة، العصيّة على الاذابة او الكسر.
تحدى شعبنا العزلة التاريخية، والفقر، والتخلف، والقيود، ودخل الى القرن العشرين بقوة. وخلال العقود الماضية، تشكلت من ابناء العشائر، نخبة اردنية في كل المجالات، هي – كجماعة – من أفضل النخب العربية، واكثرها تماسكاً، واندراجاً في فكرة الدولة، بالاضافة الى ان هناك اردنيين بارزين في كل الحقول – من الطب الى الأدب والصحافة، ومن الادارة والسياسة الى العلم والفكر – وهؤلاء ليسوا حالات خاصة، بل خلاصة مجتمع.
من يعرف الاردنيين و«اسرارهم»، يدرك أن التوسعية الاسرائيلية بلهاء تماماً حين تظن انه بالامكان فرض خياراتها على الشعب الاردني. انهم لا يدركون السيكولوجيا نصف الفلاحية – نصف البدوية للأردني الذي تحضر من دون ان يفقد قدرته على القتال!
الاردنيون – من فرط الثقة بالنفس والتفاؤل بالارادة الجماعية والفردية – لا يأبهون بالتشكيك في كيانهم، وهم مؤمنون بأن كل القوى المعادية لن تستطيع ان تزحزح صخرتهم. وهم ينظرون الى التفاصيل الداخلية المضادة، باعتبارها موجات عابرة.
ارادة الاردنيين التاريخية، تجلت، كأفضل ما يكون، في تجربة الشهيد وصفي التل الذي لا يختلف عليه أردنيان. وفي تجربة التل، يظهر ذكاء الاردني ونزعته المساواتية والدولتية، وقدرته على إعادة صياغة التجارب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، في سياق الدولة الاردنية. أفلم ينشىء وصفي التل دولة قطاع عام واصلاحات شعبويّة ويغير بنية النظام السياسي لمصلحة الريف وأبناء العشائر، من دون ثورة… ومن دون شعارات، بل في إطار نظام ناصري ضد الناصرية؟! ان انجازات الدولة الاردنية في كسرالقيود عن نهضة الكادحين في الستينات، لا تقل – وربما تزيد – عن الانجازات الناصرية والبعثية.
وجيشنا.. كان الأفضل أداء في حرب ال¯ 48 والوحيد الذي قاتل في حرب ال¯ ،67 وما يزال الأكفأ، وهو أكثر من جيش.. انه المؤسسة الاردنية. ومن اسرار الاردنيين، حتى اكثرهم تطرفاً في المعارضة، أنهم يثقون بجيشهم… يعتبرونه «ذراعهم العسكري». دعنا من السياسات الرسمية. هناك حبل سري جوهري يربطنا.. لا يراه إلا العاشقون.
أعود الى اللحظة التكوينية الرئيسية للدولة الاردنية الحديثة، حين – مع وصفي التل – بدأ وجرى انجاز مشروع وطني كبير – كم نفتقده الآن! – وورشة بناء للمؤسسات والافكار… والاغاني ولهفة الى الارض.. والخضرة، ونهضة الريف والبادية.
نحن، منذ ستين عاماً، في حالة صعود تاريخي، وفوضى العقد الاخير من حياتنا سوف تنقشع عن تجديد شامل للدولة الاردنية.. ويعرف الاردنيون انه ليس أمامهم سوى أن يدفعوا أتاوة التاريخ.
لنا الحق، إذن، أن نشرب نخب الاردن هذه الليلة. انها ليلة عيد ولحظة تحد. عيد لأن الراية الاردنية العربية ما تزال، رغم ستين عاماً من الأنواء، خفاقة، فوق قلوب ما تزال تملك إرادة الدفاع، وإرادة الحرية، وارادة التقدم.
كانت 60 عاماً من الأمل.. وما نزال قادرين على اجتراح التفاؤل التاريخي.