لا يوجد نظام انتخابي سيئ وآخر جيّد، قديم وعصري الخ؛ الأنظمة الانتخابية تتساوى وفق محددات أُخرى، أولاها تلك المتعلّقة بنظام الدوائر الانتخابية.
على سبيل المثال، فإن نظام الصوت الواحد يغدو فعّالا في تمثيل الناخبين تمثيلا صحيحا، إذا كان مرتبطا بنظام الدائرة الفردية (صوت واحد – دائرة ذات مقعد واحد) بشرط إلزام الناخبين، قانونا، بالاقتراع في الدائرة التي يقيمون فيها بصورة دائمة. وهي صيغة لم نجرّبها في الأردن، رغم أنها قد تكون الأقرب إلى تمثيل التنوّع الاجتماعي المحلي.
يظل هناك العيب الأساسي، الناجم عن التركيب الاجتماعي – السياسي، لا عن نظام الصوت الواحد – الدائرة الفردية، والمتمثل في استبعاد الشخصيات الوطنية لصالح الشخصيات المحلية.
في انتخابات 2013، جرى الخلط بين نظامين انتخابيين: الصوت الواحد في دائرة متعددة المقاعد، ونظام القائمة الوطنية. وقد أخضع النظام الأولُ، الثاني، لمعاييره؛ فتشكلت قوائم وطنية جزئية مصممة لإنجاح مرشح واحد، كما عملت جهات على تكثير القوائم الوطنية للحيلولة دون استحواذ أي منها على حصة سياسية من المقاعد البرلمانية.
نظام القائمة الوطنية نظام فعّال للغاية إذا ما تم اعتماده وحده، وجرى ربطه، حصريا، بالأحزاب السياسية، بشرط قدرة الحزب على ترشيح قائمة كاملة لكل مقاعد البرلمان على مستوى المملكة، وتقديم برنامج انتخابي مفصّل للحكم، وتحديد حصة المكونات والنساء في صلب القائمة. وفي هذه الحالة، يمكن تلافي تأثير المال السياسي، بمنح القوائم الحزبية تمويلا حكوميا متساويا، وخدمات إعلامية متساوية، ومنع أي إنفاق خارج التمويل الحكومي.
القائمة بمرشحين لكل المقاعد النيابية، غير ممكنة إلا بالنسبة لقوى وتيارات، وهي لن تزيد على 4 إلى 5 قوائم. وهو ما يشد روابط الوحدة الوطنية، ويفعّل الحياة السياسية، ويسمح بتشكيل حكومات برلمانية. ويتطلب ذلك بالطبع قانون أحزاب يسمح بتشكيلها بمجرد العلم والخبر. وهكذا، عندما يتفق 130 مرشحا على مستوى المملكة، بمن فيهم مرشحو الكوتات، على الترشح في قائمة، يسجلون حزبا، على أن تكون المقاعد للحزب وليس للأفراد. ومن الواضح أن تنطبيق هذا النظام يحتاج إلى تعديل دستوري؛ فالدستور الأردني ينص الاقتراع لمرشّح طبيعي وليس لمرشح اعتباري.
نظام القائمة النسبية المفتوحة، كما هو مقرر في مشروع قانون الانتخاب العام الحالي، المحال إلى مجلس النواب، يُعَدّ مجرد تنويع على قانون الصوت الواحد في دائرة متعددة المقاعد؛ فالإقتراع للقائمة والمرشح المفضل في آن، يسمح للمتمولين والنافذين والزعامات العشائرية بتشكيل قوائم تساير، شكليا، النظام الانتخابي، بينما هدفها فوز راعي القائمة؛
وهكذا، لن يكون هنالك فارق سياسي في نتائج الانتخابات عن نظام الدوائر الوهمية أو نظام الصوت الواحد.
المعركة الآن هي على طبيعة نظام الدوائر الانتخابية؛ فالأوساط المرتبطة بالمشروع الأميركي في الأردن، تسعى لفرض نظام دوائر يقوم على الدائرة / المحافظة، ما عدا ثلاث محافظات سوف يتم تقسيمها إلى دوائر كبرى.
والأهداف التي تريدها تلك الأوساط، لا تخفى على المراقب؛ بل إن أحد الوزراء العاملين المعنيين، لخّصها كالتالي:
أولا، تفكيك مراكز نفوذ البيروقراطية المدنية والعسكرية،
ثانيا، تفكيك الثقل السياسي للعشائر،
ثالثا، زيادة نسبة تمثيل الأردنيين من أصل فلسطيني إلى 40 بالمئة.
وهي أهداف يمكن تحقيقها من خلال ادماج المخيمات في الدوائر الانتخابية، وإذابة الدوائر العشائرية في دوائر أكبر من خلال نظام الدوائر الذي ما يزال موضع صراع داخل الحكومة ومؤسسة الحكم.
وعلى سبيل المثال، فإن ادماج دائرة عين الباشا ـ البقعة الكثيفة السكان في دائرة محافظة البلقاء، سوف يطيح بالقوة التصويتية لقيادات الدولة وللعشائر، ولا يسمح، فقط، بزيادة تمثيل الدائرة الجزئية المذكورة، وإنما يسمح لها بتغيير قواعد اللعبة السياسية في المحافظة. وفي مثال آخر، جرى تسمية شخصية سياسية رفيعة من الحرس القديم بأنها ستخرج من الميدان السياسي كله، جراء إعادة تركيب الدوائر في محافظة إربد.
الأهداف الثلاثة لجماعة المشروع الأميركي في الأردن، ظاهرها ليبرالي ‘تقدمي’؛ فمَن يجادل في أن تفكيك مراكز النفوذ البيروقراطي والعشائري هو إجراء ‘ تقدمي’؟ ومَن يجادل في أن زيادة تمثيل الأردنيين من أصل فلسطيني
بحيث يساوي نسبتهم بين المواطنين، هي خطوة لبناء دولة المواطنة؟
لكن، بالنزول بتلك الأهداف من علياء الأفكار إلى أرض الواقع، سنجد أن البيروقراطيين والعشائريين سيخسرون مواقعهم السياسية، ليس لصالح قوى وطنية تقدمية، وإنما لصالح قوى الإسلام السياسي والمتمولين والمرتبطين بالاستعمار الأميركي والسلام مع إسرائيل.
وبالنسبة للهدف الثالث، أي زيادة نسبة التمثيل السياسي للأردنيين من أصل فلسطيني، فهو لا يتضمن الحرص على مصالحهم، بل يرمي إلى استخدام قوتهم التصويتية والسياسية والاقتصادية الخ لتفكيك التركيب السياسي الأردني الوطني. وهو ما سيترك آثاره الوخيمة على الوحدة الوطنية؛ ذلك أنه يضع كتلة ديموغرافية في مواجهة كتلة أخرى من أبناء الشعب الواحد.
يدرك أكثر الوطنيين الأردنيين راديكالية أن قسما كبيرا من الأردنيين من أصل فلسطيني يتجه إلى الاندماج في الوطنية الأردنية، وفق معايير المواطنة في دولة مدنية. وتعزيز هذا الاتجاه يتم، بالطبع، من خلال تفعيل التمثيل السياسي؛ غير أن هناك أربع مشكلات واقعية بهذا الصدد:
أولا، من خلال استعراضنا للمرشحين من أصل فلسطيني، الفائزين بعضوية مجلس النواب منذ 1989، نلاحظ أنهم ، باستثناء الإخوان المسلمين، يمثّلون عصبيات مناطقية لا تعود، فقط، إلى ما قبل الوطنية الأردنية، بل إلى ما قبل الوطنية الفلسطينية، أو يمثلون المال السياسي. وهذا لا يقود إلى الاندماج أو إلى الدولة المدنية، وإنما إلى العكس،
ثانيا، إذا كان ينبغي أن يكون تمثيل الأردنيين من أصل فلسطيني، مساويا لنسبتهم من المواطنين. ولا يوجد معترضون على ذلك، فإن الفارق بين اتجاه التكوين السياسي للدولة المدنية واتجاه المحاصصة والتوطين السياسي لحساب المشروع الصهيوني، يكمن في التحديد القانوني للمواطنة الأردنية؛ فمن غير المعقول ـ بل والمثير للشبهات ـ أن نمضي إلى إقرار قوانين الإصلاح السياسي قبل أن يتم إقرار قانون جديد للجنسية الأردنية، يشتمل على تعليمات فك الارتباط مع الضفة الغربية، ووقف الأساس المتضمن في قانون الجنسية الحالي الذي يسمح بتجنيس بلا حدود للأشقاء الفلسطينيين،
ثالثا، من خلال ما لاحظناه من اتجاهات راديكالية، اجتماعية ووطنية، أثناء الحراك الأردني 2010 ـ 2013، نستطيع القول إن تفاعل حالة الإفقار والتهميش الاقتصادي السائدة بغياب الدور الاجتماعي للدولة، مع حالة التهميش السياسي المتوقعة جراء خطط المشروع الأميركي لنظامي الانتخابات والدوائر وقانون اللامركزية الخ سوف يؤدي، أي ذلك التفاعل، إلى نتائج وخيمة، في ظل ظروف إقليمية متحركة وقلقة ومفتوحة على أخطر الاحتمالات الجيوسياسية.
إن كتلة الحراك الأردني التي تجاوزت برنامجها الاجتماعي حرصا منها على الدولة الوطنية في مواجهة الأخونة والتدخلات الإقليمية ونمو الظاهرة الإرهابية، سوف تجد نفسها وقد خسرت كل شيء، مما يقود إلى فوضى هدّامة.
رابعا، تواجه المملكة – بالإضافة إلى مديونية أصبحت تساوي الناتج الاجمالي المحلي، وتصاعد خدمة المديونية التي تضغط على الخدمات وتدفع نحو تناقص الدعم وزيادة الرسوم والضرائب، والركود التضخمي وانحدار الفئات الوسطى – مخاطر جمة ناجمة عن القلق الإقليمي والدولي. وهو وضع قد تستفيد منه إسرائيل للقيام بانسحاب مفاجئ من طرف واحد من مناطق الكثافة السكانية في الضفة الغربية، وترك الفلسطينيين للحرب الأهلية بين فتح وفتح وفتح وحماس وحماس وداعش الخ، وهو ما سيدفع بهجرة جديدة واسعة النطاق باتجاه المملكة، مما يضع البلاد أمام استحقاقات صعبة، تبدو اندفاعة جماعات المشروع الأميركي في الأردن، أشبه بأولاد بلهاء يتلاعبون بقنبلة.
من المؤسف أن المشتغلين في العمل العام والمثقفين والأحزاب السياسية، في معظمهم، غائبون عن النقاش الجدي للتحديات المصيرية التي تواجهها البلاد، ويغرقون في تفاصيل ملهاة الإصلاح السياسي، بينما المهمات المطروحة على جدول الأعمال الأردني، راهنة وخطيرة ومصيرية.