ناهض حتّرإن السياسة، كل سياسة، هي، في التحليل الأخير نشاط وطني؛ أي أنها تتم، حكماً، في سياق الدولة الوطنية. السياسة الخارجية نفسها، ترتد، في النهاية، إلى جذورها في مستلزمات السياسة المحلية؛ أي أنها محكومة، بالتأكيد، بمصالح الدولة الوطنية؛ أو، للدقة، بمصالح الفئات الاجتماعية المسيطرة على تلك الدولة. وعلى الصعيد ذاته، فإن كل معارضة سياسية، تظل، سواء أكانت ثورية أم دستورية، مقيدة بالدولة الوطنية. الثوريون يسعون إلى تغيير النظام السياسي في إطار الدولة الوطنية نفسها. بينما يسعى الدستوريون إلى تطوير ذلك النظام أو تغييره من الداخل، لمصلحة الفئات الاجتماعية التي يمثلونها. فلا سياسة، إذن، خارج الدولة الوطنية، إلا انطلاقاً من النزعات الفوضوية أو النزعات المعادية للدولة الوطنية، لحساب دولة أخرى. والأردن، لأسباب عدة، مبتلى بهذه النزاعات؛ بل ان أصحابها هم، بالذات، الذين يتصدرون الحياة السياسية الأردنية.
والفوضوية الأردنية مزاج يجد أصوله في البداوة. وقد تغذى هذا المزاج، وتبلور، وتصلب، بالتقائه مع العقائديات القوموية التي تعطي للفوضوي إطاراً مرجعياً مقبولاً، ومحتوى فكري، لفوضويته. لذلك، تشكل بين الأردنيين تيار قوموي كبير، هو، في جوهره، تيار فوضوي لا سياسيّ، فهو مضاد للدولة الأردنية، بينما نجد أن الناصرية المصرية أو البعثية السورية أو البعثية العراقية، كانت كلها حركات وطنية دولتية، أي مقيدة بسياقات ومصالح دولها الوطنية.
والفوضوية الفلسطينية، من جهتها، تكونت، في الأردن، جراء محاولة إلغاء الوطنية الفلسطينية، وإلحاقها بالدولة الأردنية، اعتباراً من وحدة الضفتين (1950) وحتى فك الارتباط (1988) فخلال كل هذه العقود، بدت الدولة الأردنية، للوعي الفلسطيني، في مقام النقيض الوطني. وقد عبرت الفوضوية الفلسطينية عن نفسها، تاريخياً، بالقوموية (في الخمسينات والستينات) ثم بالوطنية القطرية الصريحة (في السبعينيات) ثم، أخيراً، بواسطة الحركة الإسلامية.
وتتشكل المعارضة الأردنية الراهنة، للأسف، من الفوضويين الأردنيين والفلسطينيين. ولذلك، فهي قوة لا سياسية، هامشية، قادرة– مثل كل الحركات الفوضوية– على التخريب والهدم؛ ولكنها عاجزة عن التغيير والبناء.
***
وسأضرب أمثلة… فحين تضغط أوساط المعارضة الأردنية، القوموية والإسلاموية، على الحكومة الأردنية، لكسر قرارها القاضي بعدم السماح للسيد إبراهيم غوشة بدخول البلاد، فهي تدعم، علناً، إصراره الفوضوي على خرق قوانين الدولة الأردنية، في عودة، إذا تمت وفق شروطه، ستكون فاتحة لممارسات فوضوية واسعة النطاق، وربما تقود إلى ظروف مشابهة لتلك التي سادت في الأردن بين 1967 و1970؛ وأدت إلى كارثة وطنية.
والمعارضة الأردنية، للأسف، تدعم هذه الفوضوية، بدون أن يرف لها جفن؛ لأنها، بالأساس، فوضوية؛ وتسعى إلى وضع فوضوي! بينما الموقف المعارض المسؤول، في رأيي، يكون كالتالي:
– المطالبة، انسجاماً مع الدستور، بالسماح للسيد غوشة بدخول البلاد، حتى لو أدى ذلك إلى محاكمته وسجنه.
– أو مطالبة السيد غوشة بالتنازل عن الجنسية الأردنية، والضغط، في الوقت نفسه، على الحكومة الأردنية، للسماح له بالإقامة في الأردن، وممارسة نشاطه الإعلامي والسياسي بوصفه قيادياً فلسطينياً؛
– أو مطالبة السيد غوشة بالالتزام بالقوانين الأردنية، من أجل اتساق المطالبة بحقوقه كمواطن بالتزاماته.
وكل هذه المطالبات، لها طابع سياسي أصيل ومسؤول. أما المطالبة بتمتع السيد غوشة بحقوق المواطنة وامتيازات خرق القانون في الآن نفسه، فهي لا تعدو كونها، مطالبة فوضوية.
ومثال فوضوي آخر، نستعيده من قضية اللجنة النقابية لمقاومة التطبيع مع العدو الإسرائيلي. مقاومة التطبيع، بالطبع، حق دستوري. ولكن إجراء المحاكمات للمواطنين الأردنيين هو حق منوط، حكماً، بالسلطة القضائية. وعندما تعطي هيئة غير قضائية لنفسها الحق في محاكمة المواطنين الأردنيين، وإصدار الأحكام بحقهم، فهذه ممارسة فوضوية، سوف تغدو، في حالة القبول بها، سابقة لإقامة محاكم فوضوية أخرى؛ من شأنها تحطيم الدولة وسيادة القانون، وصولاً إلى فوضى شاملة، يستطيع، خلالها، كل من يشاء، نصب محكمة وإصدار الأحكام وإيقاع العقاب بالمواطنين.
والمثال الثالث– والأهم– أسوقه من واقع روحية النشاطات الداعمة للانتفاضة الفلسطينية. لقد كان واضحاً منذ انطلاقة هذه الانتفاضة، في تشرين الأول الماضي، أنها محكومة بالسقف السياسي المحدد للسلطة الوطنية الفلسطينية، في أوسلو؛ وأن الأردن، سوف يدفع الكثير من فواتير الانتفاضة، أولاً، باستقباله لهجرة جديدة تضغط على موارده وتفاقم أزماته الاجتماعية والسياسة، وثانياً، بانهيار خططه الاستثمارية والسياحية… إلخ، وثالثاً، بتعرضه لضغوط أميركية وتهديدات إسرائيلية، خصوصاً لجهة سعي واشنطن إلى جر عمان نحو الانضمام إلى حلف “العقوبات الذكية” ضد العراق.
وقد تعامى معظم المعارضين الأردنيين عن هذه الأخطار، فسعوا إلى جرّ الأردن إلى مواقف راديكالية تتجاوز السقف السياسي للانتفاضة الفلسطينية، مما يشكل ديماغوجية لا مسؤولة إزاء الأمن الوطني الأردني، أمام خطر الترانسفير الداهم، لم يسع أولئك المعارضون إلى الانتباه أو التنبيه، بل اعتبروا ذلك ” إقليمية”؛ فصمتوا، وأجبروا الآخرين على الصمت إزاء ترانسفير قائم خطير. وكان بإمكانهم بالطبع، لا التحذير فقط، بل وتوجيه الدعم نحو تعزيز صمود الأهل في الأراضي المحتلة، والضغط على الحكومة الأردنية، لاتخاذ إجراءات مضادة للترانسفير– وقد أخذت هذه ببعضها أخيراً، ولكن بمبادرة منها، قوبلت بمعارضة ضمنية من الأوساط الفوضوية ذاتها – وأخيراً، فقد تغاضت المعارضة الأردنية عن الضغوط الأميركية والإسرائيلية، ولم تفكر، للحظة واحدة، بكيفية مواجهتها أو باقتراح خطة وطنية للأولويات، تكفل للأردن، العبور من مأزق حلف “العقوبات الذكية” بأقل الخسائر. إنهم يتركون ذلك لعلي أبو الراغب، بالطبع، فهذا شأنه!
***
دعا أحد الفوضويين الأردنيين الكبار، قادة “حماس” للمجيء إلى الأردن، رغم أنف القرار السيادي الأردني. ولم لا-فالأردن، عند هذا الفوضوي، ليس دولة… وإنما مضارب شيوخ! وآخر، يمثل قلعة قانونية أهلية، ينافح عن حق قادة “حماس” بخرق القوانين الأردنية! وكان الاثنان يبخران في محراب المواطن الأردني خالد مشعل؛ وهو يستقوي على الدولة الأردنية، وقوانينها، عالماً علم اليقين بأنها في لحظة ضعف… اللحظة المنتظرة لكسر قيود الدولة وإقامة الفوضى!
***
والدولة الأردنية في لحظة ضعف، ولكنها ليست في لحظة انهيار. صحيح أن الأردن واقع، اليوم، بين المطرقة الأميركية والسندان الإسرائيلي. ولكن الشعب الأردني كان قادراً، دائماً، على اجتراح الصمود والمقاومة وأولهما نبذ أولئك الذين يستقوون عليه بأعدائه.
وعودٌ على بدء
Posted in Uncategorized.