بدعوة كريمة من حكومة الجمهورية الإسلامية في إيران، قمت بزيارة إلى طهران، للقاء مسؤولين سياسيين ومثقفين وصحافيين من البلد المضيف؛ أهم ما في الدعوة أنها وُجِّهت إلي بصفتي التي أعتزّ بها كوطني أردني؛ أي، بدقةٍ أكثر، بصفتي ممثلا للحركة الوطنية الأردنية التي تستمد جذورها من الزعيمين حسين باشا الطراونة والشهيد وصفي التل.
لفتتني العاصمة الإيرانية التي لا تقل في جمالها وعمارتها وبنيتها التحتية عن أي عاصمة أوروبية؛ وفاجأني أن الحياة اليومية فيها أكثر تحررا من أي مدينة عربية باستثناء دمشق؛ بل ربما كانت نسبة المحجبات في عمان أكثر من نسبتهنّ في إيران. الايراني لا يتزوج إلا بواحدة؛ يقول : ‘الله واحد، زوجة واحدة’! على كل حال، فإن نسبة الجمال الطاغية بين الفارسيات، ربما تجعل الرجل مكتفيا بواحدة. والنساء في إيران يحظين بمكانة رفيعة، بل ربما كن مهيمنات على العوائل، بينما تجد حضورهن في المؤسسات العامة ملحوظا، حتى بما يقارب الغرب أو يزيد.
في وسط طهران شارع جميل، كان يسمى ‘ جوردن’، نسبة إلى الأردن؛ حوّل اسمه الآن إلى نلسون مانديلا. وقد تقدمي بطلب إعادة تسمية الشارع باسم الأردن، أو تسمية سواه باسم بلدنا، وتزيينه بتمثال لشاعر الأردن الكبير، عرار، أو بتمثال لنجله الشهيد القائد وصفي التل. وبعنادي المعهود، سأتابع هذا الطلب حتى تحقيقه.
التماثيل ليست ممنوعة في إيران؛ بالعكس تراها في كل مكان؛ منها تمثال الشاعر الفارسي الكبير فردوسي في أقدم وأجمل شوارع طهران، المسماة باسم الشاعر العظيم.
من مكتبة في فردوسي، اشتريت ديوان عمر الخيام من القطع الكبير، تزين صفحاته الرسومات الشرقية. الديوان المطبوع بصورة باذخة يعد رمزا قوميا، على رغم أنه مخصص، كما هو معروف، للاحتفال بالخمر والحب.
حرية الأديان والمذاهب لا تمسها قيود في الجمهورية الإسلامية، ليس فقط بالنسبة للسنة و المسيحيين واليهود ـ وكلاهما أقليتان تحظيان بمكانة اقتصادية و اجتماعية في البلاد، بل حتى بالنسبة للمجوس الزرادشت، ويمثل اتباع هذه المذاهب والديانات، نواب فاعلون في البرلمان. وهو ما ينطبق على خمسة ملايين عربي ومليوني كردي وأقليات قومية أخرى.
حياة الإيرانيين لا تصبغها الأيديولوجيا؛ ويعترف المسؤولون أن 40 بالمائة من مواطني إيران علمانيون، ولكنني أقدر أنهم يشكلون الأغلبية. العلمانية، هنا، هي علمانية واقعية حياتية، لا يزعجها سوى الحصار الاقتصادي الذي يضغط، نسبيا، على مستوى المعيشة، ولكن ليس على الصحة والتعليم والمواصلات العامة، شبه المكفولة من قبل الدولة.
الدولة التي اعتاد الغرب تسميتها ‘دولة الملالي’، هي ، في الواقع، دولة حديثة مؤسسية، لا تُدار بالأدعية، وإنما بالعلم وحسابات الاقتصاد والقوة؛ وفي داخل هذه الدولة اتجاهات وآراء ومواقف وحيوية سياسية وثقافية. أما التدين؛ فهو أقرب إلى النزعة الصوفية؛ سوف أرى امرأة باهرة الجمال قرب مقام، ترتدي ملابس أوروبية حديثة، غير محجبة، ولكنها تتهجد ورعا!
في محل لبيع الجلديات، رأيت رجلا يأخذ قياسات امرأة؛ أردت استفزاز مرافقي لأعرف رأيه بالمشهد؛ قال لي إن الرجل يقوم بواجبه المهني، ولكن العرب لا يستطيعون التفكير إلا بالجنس. هناك خراب في العقل العربي!
لكن الرجال من أصول عربية والفرس المستعربين هم في الواقع النخبة الحاكمة في إيران. وكيساري عربي، وقفت أمام حقيقة محيّرة : الإيراني العلماني ـ الذي اتفق معه فكريا ـ لا يحب العرب، و يجد أن إيران تستنزف مواردها في دعم المقاومات العربية، بينما الإيراني الملتزم دينيا ـ الذي لا اتفق معه فكريا ـ أراه عربيا أكثر من العرب، وفلسطينيا أكثر من الفلسطينيين!
على كل حال، ساجلت مضيفيّ بضرورة التوقف عن التعامل مع الأردن من خلال الاسلام السياسي؛ رأيي أن أفضل وسيلة لتحسين العلاقات بين البلدين، تكمن في تطوير العلاقات الإيرانية مع الدولة الأردنية من جهة، ومع الحركة الوطنية الأردنية العلمانية من جهة أخرى.
طالبت الجانب الإيراني بإنشاء جمعية إيرانية للصداقة مع الشعب الأردني، تنظم البعثات العلمية والتبادل الثقافي والتجاري وتخدم الاعلاميين والمثقفين ورجال الأعمال. وقبيل سفري أبلغني المعنيون بالموافقة على طلبي. ومن المنتظَر ترتيب زيارة وفد أردني شعبي لهذه الغاية، جنبا إلى جنب مع العمل على تحسين العلاقات الرسمية بين البلدين في مجالات عديدة نافعة، لا تتطلب، بالضرورة، التوافق السياسي.
لدى الإيرانيين، الرغبة في التعرّف على فكر وواقع الحركة الوطنية الأردنية، وبرامجها، وعلاقاتها بالدولة والعشائر، والتعرف إلى وجهة نظرنا في المشروع الصهيوني للوطن البديل. وفي وكالة أنباء فارس، تحدثت، في لقاء مطوّل، عن كل ذلك، وبددت الكثير من الدعايات المسيئة التي الحقها ببلدنا وشعبنا وحركتنا الوطنية، أعداء وخصوم من أبناء جلدتنا.
ينظر الإيرانيون إلى استقرار الأردن كمكسب للمنطقة ككلّ، وهم يتطلعون إلى علاقات إيجابية مع بلدنا تتجاوز الخلافات السياسية. ولا بدّ لي من القول إنني حظيت كوطني أردني علماني باحترام الإيرانيين، بفضل صراحتي في التعبير عن آرائي في الوطنية الأردنية والعروبة والعلمانية، وحتى باعلاني الصريح عن هويتي الفكرية كيساري؛ واكتشفت، بذلك، مرة أخرى، أن المرء يحصل على الاحترام خارج بلده، بقدرما يحترم هو نفسه، بلده وشعبه. وهذا هو نهجي في كل اتصالاتي الإقليمية والدولية؛ فالصداقة الحقيقية مع الشعوب والدول الأخرى، تقوم على الصراحة واحترام الذات الوطنية. ولسوء الحظ، فإن هذا التقليد ما يزال ضعيفا في صفوف السياسيين والمثقفين الأردنيين.
هذا الاعلان صرّحتُ به أمام آية الله العظمى تسخيري نفسه؛ هذا الرجل الذي لا يُشبَع من مجلسه؛ فالدين عنده يتلخص في كلمة واحدة هو الحب. يقول الإمام علي ( عليه السلام) الناس اثنان: أخ لك في الدين، أو نظيرٌ لك في الخلق، أي في الانسانية؛ لا تكفير ولا تعصب ولا ذبح ولا حرق ولا الغاء للآخر.
سألت آية الله العظمى تسخيري عن المذاهب، فوجدته يمتدحها كلها كطرق للوصول إلى الله، لكنه يتبع شرح خصوصيات كل مذهب، بقول رقيق: لقد أخطأوا في هذا أو في ذاك.
قلت لآية الله العظمى تسخيري إن عربيتك صافية ولهجتك عراقية؛ قال أنا من تلاميذ النجف الأشرف، واتبعها بهوسة عراقية، قال إنها من تأليفه؛ سألته هل تكتب الشعر؟ قال بلى. رجوته اسمعني يا شيخنا شيئا من الغزل، فقرأ لي غزلية بديعة. ولولا ضغط الوقت، لكنا قضينا الساعات، نتبادل أشعار الغزل وحب العراق.
اكتشفت أن الإيرانيين المعنيين في الخارجية، يتابعون الكتابات الأردنية؛ سألني مختص عن مقال لي نُشر في عمون حول الدور القيادي المحتمل للأردن. لفته المقال، كما لفتته الامكانية التي اتحدث عنها من خلال بناء سياسة حصيفة تقوم على مكافحة الطائفية والمذهبية والارهاب، انطلاقا من وثيقة ‘ رسالة عمان’ كما من خلال اعتبار الهاشميين على مسافة واحدة من جميع المذاهب الاسلامية.
…….
في العيد السادس والثلاثين للثورة الإيرانية، تبدو الجمهورية الإسلامية في طريقها إلى تحقيق أهدافها القومية الكبرى؛ استعادت إيران موقعها كقوة إقليمية رئيسية معترف بها دوليا، إنما من موقع الاستقلال والاختلاف، وعاجلا أم آجلا، سوف تنتزع الاعتراف بها كدولة نووية، ليس بالضرورة عن طريق الاتفاق مع الغرب؛ ذلك أن الحرب الباردة الجديدة، تفتح أمام الإيرانيين، فرصة تعميق علاقة استراتيجية مع الاتحاد الروسي (والصين)، تؤذن بقفزة إيرانية على المستوى التنموي والدفاعي والتأثير السياسي والثقافي؛ ويبدو أن استثمار تلك الفرصة، يقع في الأولويات الإيرانية اليوم.
……..
لم يكن التلويح بالفيتو الروسي لمنع صدور قرار دولي حول اليمن تحت الفصل السابع، مفاجئا؛ هذه خطوة أولى نحو تبني الروس لمشروع أنصار الله لإدارة المرحلة الثورية الانتقالية في هذا البلد الذي يتوق إلى الاستقرار والبناء والتحرر من النفوذ الخارجي والتهديد الإرهابي والتدخل الأميركي.
موسكو، المنخرطة في صراع عالمي ضد الغرب وحلفائه الفاشيين، العرقيين والدينيين، تدرك أن نجاح الثورة الحوثية ، يصب في مصلحتها، لكن هناك، أيضا، الدبلوماسية الإيرانية التي أنشأت جسرا متينا بين الروس وثوريي اليمن.
إيران ـ التي تلح على رفض بحث الملفات الإقليمية مع الغرب، على هامش المفاوضات حول ملفها النووي ـ تعمل على توسيع نطاق التفاهم الاستراتيجي مع روسيا، حول تلك الملفات؛ بحيث يغدو تفاهم الدولتين حول سوريا، نموذجا ينطبق على العراق واليمن والبحرين .. ومصر، وعلى الموقف من السعودية والنفوذ الأميركي في المنطقة، وعلى التعاون في مكافحة الإرهاب.
هذا ملخّص ما قاله لي مصدر رفيع في الخارجية الإيرانية، كان يعتذر لي عن الغاء موعد محدد مسبقا مع مستشار المرشد، علي أكبر ولايتي.. ولايتي الآن في طريقه إلى موسكو، في زيارة طارئة، حاملا رسالة من المرشد السيد علي الخامنئي إلى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين.
العلاقة الاستراتيجية مع روسيا هي الأكثر حضورا بين موضوعات النقاش في طهران اليوم؛ يقول الإيرانيون أن موسكو أضاعت عقدا ونصف العقد من فرص التحالف بين الدولتين، والآن يجب تكثيف العمل المشترك.
في العقد الأول من الثورة الاسلامية في إيران، كان الصراع الأيديولوجي طاغيا على العلاقات مع روسيا السوفياتية التي كان العراق بزعامة الرئيس الراحل صدام حسين، حليفا تقليديا لها. ومع أن موسكو كانت ضد الحرب بين الدولتين الشقيقتين، كانت، بطبيعة الحال، ميّالة إلى العراقيين، ومجروحة من حملة القمع التي واجهها الحزب الشيوعي الإيراني ( توده).
لكن الروس انتقلوا ، في العقد التالي بين ال90 والألفين، من الأيديولوجيا الشيوعية إلى أحضان الغرب؛ كانوا يتطلعون إلى الانخراط في العالم الغربي، فلم تعد إيران لتعنيهم، ايجابا أو سلبا. وفي مطلع التسعينيات، اصطف الإيرانيون، عمليا، مع الغرب ضد روسيا الضعيفة في يوغسلافيا السابقة؛ كان حافز الإيرانيين، أيديولوجيا؛ توجهوا إلى نصرة البوسنة المسلمة في مواجهة الصرب الأرثوذكس الذين طالما دعموا صدام حسين.
حين تربع بوتين على عرش الكرملين، وبدأ بتنفيذ خطة انقاذ روسيا والحفاظ على وحدتها واستقلالها وتعزيز قدراتها الاقتصادية والدفاعية، كان ما يزال يأمل بشراكة ندية مع الغرب؛ حتى وقت قريب كان الخطاب الدبلوماسي الروسي، يتحدث عن ‘ شركائنا الغربيين’. وقد انعكست هذه السياسة المزدوجة على النظرة الروسية نحو إيران؛ من جهة، بدأت تنشأ علاقات ثنائية تعزز المصالح الروسية، ومن جهة أخرى، ظلت موسكو على الحياد السلبي في المواجهة الإيرانية ـ الغربية؛ فأيدت والتزمت بالعقوبات الأممية على طهران، المفروضة عليها بحجة المخاوف من عسكرة برنامجها النووي.
في فترة بوتين، خصوصا منذ فرض العقوبات على الجمهورية الإسلامية، كانت طهران تقترح على موسكو، وتسعى لبناء علاقات استراتيجية معها، لكن الكرملين كان ما يزال يأخذ بالحسبان، ردة فعل الغرب.
روسيا وإيران معا، واجهتا مطلع ما يسمى ‘الربيع العربي’، باضطراب؛ موسكو ارتكبت خطأها الكبير الذي ستندم عليه لاحقا بتمرير قرار ضرب ليبيا بحجة مساعدة ‘الثوار’، أما طهران، فقد ذهبت إلى وصف ما يجري في العالم العربي بأنه ‘ صحوة إسلامية’، قبل أن يتبين بأن هذه ‘الصحوة ‘، طائفية وتكفيرية وإرهابية.
الحليفان المقبلان اصطدما بالواقع المر من خلال هجمة ‘ الربيع’ الأسود على الحليف المشترك، سوريا؛ فبدآ يتقاربان وينسقان سياساتهما واجراءاتهما للحيلولة دون وقوع هذا البلد المركزي، جيوسياسيا، في أيدي الغرب والعصابات التكفيرية والمليشيات العميلة.
رئيس لجنة الأمن القومي في مجلس الشورى الإيراني، علاء الدين برو جردي ، لاحظ، في حديث خاص معه، أن نقطة التحوّل النوعية في العلاقات الروسية الإيرانية، تمثلت في انفجار الأزمة في أوكرانيا، وما تبعها من هجمة أميركية وغربية شرسة على روسيا؛ اغتصاب حياد الجار الأوكراني، والتهديد العسكري، والعقوبات المؤذية، والخفض الاصطناعي لأسعار النفط، وحتى التلويح بإثارة العصابات الإرهابية في الشيشان وسواها من الجمهوريات الروسية المسلمة.
وجدت موسكو أنها تقف، موضوعيا، مع إيران، في الخندق نفسه، وإزاء الأعداء أنفسهم؛ هكذا انفتح الأفق لتحريك عجلة العلاقات الاستراتيجية بين الدولتين اللتين تمثلان، مع الصين، عناوين نهضة الشرق.
مضمون السياسة الإيرانية نحو روسيا، ليس جديدا ولا طارئا؛ بل هو مؤسس في الفكر الاستراتيجي للإمام الخميني الذي كان يرى أن ميزان القوى العالمي يستقيم مع ‘ روسيا مقتدرة وإيران مستقلة’.
يعكس هذا الشعار، جملةً معقدةً من الاعتبارات التاريخية والجيوسياسية والاستراتيجية؛ كانت روسيا القيصرية مقتدرة لكنها كانت تفرض حمايتها على الشمال الإيراني، بينما كانت بريطانيا متنفذة في جنوب البلاد؛ القيصرية وقفت ضد النزعات التحررية للإيرانيين، وكانت القوة الرئيسية في قمع الثورة الدستورية الديموقراطية لعام 1906، المعروفة ب ‘ المشروطة’. كذلك، فإن روسيا السوفياتية، حالما أصبحت ‘ مقتدرة’ خلال وبعيد الحرب العالمية الثانية، فرضت وجودها العسكري وحضورها السياسي في إيران، ودعمت انشاء جمهورية ‘مهاباد’ لأكراد إيران، وظلت تشكل عاملا رئيسيا في السياسة الإيرانية إلى فرض الأميركيون نفوذهم على إيران بعد الإطاحة بمصدّق، العام . لكن الحضور الأميركي الذي اجتثته الثورة الإسلامية، كان، بالأساس، سطحيا؛ فلم يتجذر في الثقافة المحلية، وبين النخب التي ما يزال فيها، حتى اليوم، متعاطفون مع روسيا .. وآخرون مع بريطانيا! هؤلاء الذين سماهم مصدر إيراني ب ‘ عملاء الإنجليز’، سوف يتم اقصاؤهم عن مواقعهم، حسب تأكيده، في صيف العام 2015. بالنسبة لي، اعتقد أن هذا الوعيد مرتبط بإمكانية فشل التوقيع على اتفاقية تسوية الملف النووي مع الغرب.
ما يزال التاريخ حاضرا في شارع الجمهورية، المتفرع عن شارع فردوسي؛ هناك تتواجه السفارتان اللتان تعودان إلى القرن التاسع عشر، في وسط طهران، وتعبّران ـ بالاتساع المفرط للعقار، و ضخامة المباني الكلاسيكية ، وانسراح الحدائق الغناء، وعلو الأشجار والأسوار ـ عن الماضي الامبراطوري للتنافس الروسي ـ البريطاني في إيران، وعليها.
لكن الذاكرة التاريخية لا تلغي الواقع الجيوسياسي؛ روسيا ليست بريطانيا أو الولايات المتحدة اللتين يمكن طردهما من المنطقة، روسيا هي الجار الأكبر لإيران، ودكتاتورية الجغرافيا تفرض أشكالا متنوعة من العلاقات الثنائية، في كافة الحقول، الاقتصادية والدفاعية الخ.
وعلى المستوى الاستراتيجي، يشكل التحالف بين البلدين الكبيرين، قلعة حصينة لمصالحهما، ومصالح حلفائهما. غير أن تحالف كذاك، ينبغي، بالطبع، ألا يمسّ باستقلال إيران.
روسيا الضعيفة هي مدخل لإيذاء الجمهورية الإسلامية، لكن الثورة الإيرانية، كانت ، بالأساس، ثورة استقلال لا يمكن التفريط به لصالح أي تحالف؛ بل إن رئيس مؤسسة كيهان الصحفية، حسين شريعتمداري، يرفض استخدام مصطلح ‘ التحالف’، ويلح على مصطلح ‘ العلاقة الاستراتيجية’. وفي هذا التمييز الدقيق بين المصطلحين، يظهر التشدد الإيراني في التوجه الاستقلالي الصارم.
إلا أن هذا السجال لا يبدو أساسيا، بالنظر إلى أن موازيين القوى الحالية بين روسيا وإيران، لا تسمح للأولى بالهيمنة على الثانية؛ بل إن ما يلاحظه زائر طهران من نشوة السياسيين بما يمثله ‘انضمام روسيا إلى النهج الإيراني في مقاربة الملفات الإقليمية والدولية’، من فوز لاستراتيجية الجمهورية الإسلامية.
تتلاحق التطورات على الخط الساخن الدينامي بين طهران و موسكو؛ كأن الدولتين تريدان استدراك ما فاتهما من تعاون العقود في أسابيع وأيام. في 20 كانون الثاني الماضي، كان وزير الدفاع الروسي في زيارة مفصلية إلى طهران، تمخضت عن اتفاقية نوعية في المجال الدفاعي.
مصدر إيراني رفيع معني بالملف، أوضح لي أن الصناعة العسكرية الإيرانية المتطورة والنشيطة، تؤمن احتياجات القوات المسلحة من الدروع والدبابات والمدافع والصواريخ الخ؛ لكن ما يحتاجه الإيرانيون من الصناعة العسكرية الروسية، يقع في ثلاثة أبواب: منظومات اس 300 و400، وشبكات رادرار متطورة تقنيا، وطائرات حربية استراتيجية.
هل وافق الروس على هذه الطلبات؟ يقول المصدر: ‘من الناحية السياسية، نعم؛ فنيا، نحن بصدد الترتيبات والاجراءات’. وأسأل أيضا: هل يمكن التوصل إلى ربط الصناعة العسكرية في البلدين؟ هنا، يبدأ التحفظ الإيراني التقليدي المرتبط بحساسية الاستقلال. إنما في تقديري أن المسار الواقعي للعلاقات الدفاعية بين روسيا وإيران، سوف يفرض صيغا من التعاون، ربما لم تتوصل إلى تخمينها النخب التي عادة ما تحتاج وقتا للتفكير خارج الصندوق.
على المستوى الاقتصادي؛ حققت روسيا وإيران، انجازا تاريخيا في اتفاقية ليس مهما حجمها المتواضع ( بقيمة عشرين مليار دولار)، لكن المهم أنها تؤسس لطرد الدولار الأميركي من العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين اللذين سيعتمدان في مبادلاتهما على عملتيهما الوطنيتين؛ هذه المعادلة، سوف تؤدي إلى انفجار في المبادلات الروسية ـ الإيرانية، وتحفّز المشاريع والاستثمارات المشتركة. ما زلنا ، بالطبع، في أول الطريق؛ لكن الطريق ممهد ومتسع إلى ما لا نهاية.
وضعت إيران سككها وشبكة أنابيبها في تصرف الصادرات النفطية ـ ولاحقا غير النفطية ـ الروسية إلى الموانئ الإيرانية على الخليج ( الفارسي ـ العربي)؛ هي الموانئ نفسها التي ستستقبل زيارات الأسطول الروسي الذي سيتمكن، إذاً، من التزويد والإقامة ، للمرة الأولى، على موانئ خليجية صديقة.
في الملف النووي، سوف يواصل الروس، بناء المفاعلات الإيرانية، بغض النظر عن توقيع اتفاقية التسوية مع الغرب ورفع العقوبات الدولية أم لا؛ موسكو التي وصلت، على لسان رئيسها، إلى وصف الولايات المتحدة ‘ بالذئب’، تفتح أبواب معاهدة شنغهاي الدفاعية أمام إيران التي طالما رأت في ذلك العدو المشترك، ‘ الشيطان الأكبر’؛ نحن أمام لحظة استراتيجية في التاريخ العالمي: تحالف روسيا المقتدرة وإيران المستقلة، نبوءة الخميني التي تتحقق.
…………….
اتفاق .. لا اتفاق ؟
حين خرجت من مكتب رئيس هيئة الطاقة الذرية الإيرانية، صالحي، بدا لي أن الإيرانيين والغربيين يتجهون نحو التوافق فيما يخص الملف النووي؛ أوضح صالحي أن جميع العقبات الفنية العالقة في هذا الملف، قد تم تجاوزها، أو أن هنالك أفكارا إيرانية لتجاوزها. بالمقابل، كان شريعتمداري حاسما لجهة القول أن الاتفاق مع الغرب، ليس ممكنا؛ تحليل وجد صداه في إشارة الخامنئي إلى أن الولايات المتحدة ‘ معادية، في الأصل، للشعب والثورة في إيران’. يرى شريعتمداري أن تحقيق مطلب الرفع الكامل للعقوبات الدولية والثنائية ـ وهو شرط لا بد منه بالنسبة للقيادة الإيرانية ـ هو انتصار للشعب الإيراني لن يقبل به الغرب الذي يسعى للحفاظ على هيمنته العالمية، بكل الوسائل، بما فيها العقوبات والمؤامرات و الحروب الإقليمية؛ ليس هناك، إذاً، امكانية لاتفاق نووي جيد بالنسبة لإيران،’ يحافظ ـ بتعبير الخامنئي ـ على مصالح الجمهورية الإسلامية وكرامتها’؛ لكن من يدري؟’