عضو مجلس بلدية قانا الذي يملك ناصية البيان، كان، لدهشتي، أقل عاطفية، وأكثر تركيزا على الجوهري. بدأ الكلام، فشد انتباهنا، نحن جمهوره الصغير من الكتّاب والأدباء العرب، الذين يزورون قانا، معظمهم لأول مرة، محتشدي الوجدان نحو لحظة عاطفية.كنا شاهدنا، للتو، تفاصيل مجزرة قانا على الأرض. ولكن الخطيب استذكرها بأناة ودقة، ووهج. وعندما خشيت ان يتبدد هذا الاتصال الروحي الى لا شيء، كان يدخل مع ضمائرنا في حوار مباشر: يحثنا، باسم شهداء قانا، على ان نكون، في عملنا الصحافي والثقافي، أكثر صلابة في مجابهة الدعوات الى التطبيع مع القتلة.محدّثنا البليغ.. كان يمكن ان يحلّ محله، اي من الشباب الذين استقبلوا وفدنا (وفد الاتحاد العام للكتاب والأدباء العرب) في قانا. ربما ببلاغة أقل، ولكن بالوعي نفسه، بالحرارة نفسها.. في هذه الاستعادة الكاملة لمشهد العزاء، حتى انني استطعت ان أرى لحم الأطفال المحترق في القاعة »الدولية« التي احتموا بها، فأصبحت هدفا للقصف الاسرائيلي الذي قصد، واعيا، الى ارتكاب مجزرة.التفاصيل على الارض، تقول، بوضوح، ان المجزرة في قانا، لم تحدث »خطأ«، ولا حتى بقرار ميداني، وانما بقرار مدروس تجاوز، مع سابق الإصرار والترصد، اعتبارين. فالقصف استهدف تجمعا مدنيا خالصا، أولا، ويحتمي بالقوات الدولية، ثانيا… مما يضعك، مباشرة، أمام هول العقل الاجرامي البارد لحزب »اليسار« الاسرائيلي، »المحبوب« عربيا.واضح ان المجزرة، بعد سنتين ونصف سنة من وقوعها والتهديد بمثلها، لم تحقق أهدافها، بل ربما حققت عكس تلك الأهداف: فإرادة الصمود، عند أهالي قانا، لم تنكسر. ووعي ناس قانا.. صلب وواقعي معا، وقادر، بالتالي، على توظيف الموت من أجل الحياة.انها مجزرة جماعية كاملة، جريمة كاملة، برنامج سياسي كامل، ودين كامل: فأحد الاسرائيليين الذين نفذوا مجزرة قانا، علّق على ما جنت يداه، ببرود، قائلا: »انهم غوييم«! وهذا، اسرائيليا، تبرير كاف للقتل. »فالغوييم« الاغيار، غير اليهود ليسوا بشرا، ودماؤهم مهدورة لليهود.. شرعا! بل ان رب الجنود »يهوه« كان يغضب عندما تأخذ بملوك اسرائيل »الشفقة«، فلا ينفذون المجازر الجماعية التي يأمر بها، بالشمولية والإتقان المطلوبين دينيا!لجنة تخليد شهداء قانا، شيدت المدافن الجماعية، بتصميم بسيط وموح. فالقبور الرخامية المستطيلة، المتداخلة، لأشلاء مئة وستة شهداء، تنطبع في الوجدان، بوصفها علامة لا بوصفها »مكانا«.هنا: مسلمون ومسيحيون، مدفونون معا.هنا: لبنانيون وفلسطينيون وعراقيون، مدفونون معا.هنا: شيوخ وأطفال، رجال ونساء، مدفونون معا.هنا.. معا..فخذوا العبرة!رمز هي هذه المدافن، يا شباب قانا.. رمز هي حقا. بيد ان المرموز له ما يزال طيّ الحلم العصيّ المجروح.إلا هنا، في قانا، حيث يرسل المهاجر ولديه الى جدّيهما، لكي يضاعف الرموز: يتعلمان العربية ويموتان بالقصف الاسرائيلي!