في الذكرى الثامنة عشرة للمعاهدة الأردنية ـ الإسرائيلية، المعروفة بمعاهدة «وادي عربة»، نظّم الحراك الشعبي الأردني ـ بغياب الإخوان المسلمين ـ وقفة احتجاج أمام السفارة الإسرائيلية في عمّان، يوم الجمعة الماضي في 19 تشرين الأول 2012، أُحرق، خلالها، علما الولايات المتحدة والكيان الصهيوني. وتعالى الهتاف الساخر من رئيس الوزراء عبد الله النسور، الذي كوّع 180 درجة بانتقاله من المعارضة الموالية إلى ولاء بلا ضفاف: «يا نسور يا تكتيكي ليش الجيش الأميركي»، في صرخة اعتراض على وجود قوة أميركية مؤلفة من 150 عسكرياً في شمالي الأردن، كان وزير الدفاع الأميركي، ليون بانيتا، قد أعلن عن تنسيقها مع القوات الخاصة الأردنية، للتدخل في سوريا بهدف تأمين الأسلحة الكيماوية في حالة سقوط نظام الرئيس بشار الأسد.
كان الشباب المعتصمون بضع مئات، لكن هتافهم كان يعبّر، بالفعل، عن الرأي العام المتبلور في كل أنحاء الأردن، ولدى غالبية الأردنيين: «من الرمثا للعقَبَه فلتسقط وادي عربَه». وقد تعالى هذا الهتاف في المحافظات، في الفعاليات المخصصة لـ«جمعة إسقاط المعاهدة». وفي الكرك، المعقل القومي الراديكالي في جنوب الأردن، جرى تجديد هتاف شعبي قديم: «من الميّه للميّه فلسطين عربيّه». وفي المشهد، تسترعي الانتباه ملاحظتان، استرخاء القوى الأمنية المرافقة للفعاليات القومية اليسارية المناوئة لـ«وادي عربة» والتطبيع ـ ما يعكس نوعاً ما الاجماع الضمني الحاصل على الموقف من إسرائيل ـ والغياب الشديد لحضور الإخوان المسلمين عن تلك الفعاليات. وفي الظلال، هناك الخيط الذي يربط الملاحظتين معاً: أصبح التصعيد ضد السلام مع إسرائيل، ينطوي، ضمناً، على التعريض بـ«الإخوان»!
في قرى «العبيدات» في شمالي البلاد، رفعت منازل العشيرة الأعلام السود بسبب قبول أحد أبنائها، منصبَ السفير الأردني لدى تل أبيب. وهو المنصب الذي ظل شاغراً منذ سحبت القاهرة وعمان، سفيريهما لدى العدو منذ الحرب على غزة في 2009. ولوحظ أنّ مهرجاناً خطابياً تنظّمه العشيرة للتنديد بالقرار المفاجئ، لم يتضمن كلمة إخوانية. «الإخوان» محرجون بشدة؛ فبطلهم، الرئيس المصري، محمد مرسي، هو الذي كسر قرار المقاطعة الدبلوماسية مع إسرائيل، بسفير ودود يرفع نخبها، ويحمل رسالة مرسي التي تتمنى للكيان الصهيوني، الرغد، ولرئيسه السعادة. عمّان، كالعادة، تتبع القاهرة، خطوة بخطوة، في ما يتصل بالعلاقات مع تل أبيب، لكن سفيرها إلى دولة العدو، كان مطارداً بلعنات عشيرته، فلم يجرؤ على ملاطفة شمعون بيريز، ولم تجد الصحافة الإسرائيلية في خطاب سفارته، جديداً يبرر النشر.
طوال الثمانية عشر عاماً من عمر معاهدة وادي عربة، تكوّنت صورة إعلامية كثيفة الألوان عن قيادة الإخوان المسلمين لمعارضتها. وأجد أننا كنا مخدوعين بتلك الصورة ـ التي ركزتها فضائية «الجزيرة» في الأذهان، وتتلاشى، اليوم، لدى تفكيكها إلى عناصرها الفعلية.
في الضحى الحزين ليوم 26 تشرين الأول 1994، كنتُ واحداً من عشرات اليساريين والقوميين في باحة المسجد الحسيني بعمان، نهتف ضد المعاهدة. كان معنا، حينها، ما لا يزيد على أصابع اليد الواحدة من الإخوان المسلمين. والمفارقة أنّه لم يخالجني، وقتذاك، إلا الشعور بأنّ اليسار، رغم مصيبة تفكك الاتحاد السوفياتي في 1990، كان أقدر من «الإخوان» على الحشد والتضحية ـ نظراً إلى التوتر الأمني الشديد الذي رافق توقيع المعاهدة وإقرارها في البرلمان ـ وربما أنّ الرغبة ـ المشروعة ـ في الائتلاف والرد الجبهوي على التحدي، كانت وراء تغييب الأسئلة النقدية: لماذا لم يحشد «الإخوان» جماهيرهم ضد المعاهدة؟ ولماذا لم ينسحبوا من البرلمان الذي أقرها؟ ولماذا كانت أصواتهم خافتة بينما الأصوات الأعلى والأكثر فعالية في مجابهتها ومجابهة موسم التطبيع مع العدو، هي أصوات اليسار والقوميين ورجالات الدولة من طراز رئيس الوزراء الأسبق، أحمد عبيدات، والنائب المخضرم، ليث شبيلات؟ ولماذا تجاوزت جميع حملات الاعتقال بين عاميّ 1994 و2000، أياً من أعضاء «الإخوان»، بينما شملت يساريين ـ كنت واحداً منهم ـ وبعثيين ووطنيين على رأسهم شبيلات؟
أكثر من ذلك، ما معنى غياب «الإخوان»، في تلك السنوات، عن «جمعية مناهضة الصهيونية» التي شكلت تياراً واسعاً مضاداً للتطبيع؟ ولماذا كانت معارضتهم للمعاهدة تستبعد الاقتراب من التنازلات العميقة التي قدمها المفاوضون الأردنيون لإسرائيل، وتلحّ، في المقابل، على رفضها لأسباب عقائدية بعيداً عن الملموسات التي، بتعيينها، يمكن توضيح خطرها وكسب الرأي العام ضدها؟
أستطيع القول، للإجابة عن هذه الأسئلة وسواها، إنّ الإخوان المسلمين الأردنيين والفلسطينيين، كانوا، في الحقيقة، متحالفين مع الملك حسين ضد «فتح» والاتفاقية الفلسطينية ـ الإسرائيلية في أوسلو. وهي التي منحت الفتحاويين، موقع الصدارة، وهمّشت الدور الممكن لحماس في الشأن الفلسطيني. في دعايته الشخصية الكثيفة لـ«السلام» مع إسرائيل، استخدم الملك حسين كل ثقله في خطاب متعدد الأبعاد. ترك الحديث عن المنافع المادية ـ كعادته ـ للمسؤولين والإعلاميين، بينما سعى هو إلى بلورة خطاب استراتيجي، يمكن إيجاز أهمّ عناصره كالتالي:
ـ أصبح الأردن، بعد أوسلو، معزولاً تماماً؛ فعداء السعودية والدول الخليجية للأردن ـ بسبب وقوفه الصريح مع الرئيس العراقي صدام حسين في مسألة الكويت، تحوّل حصاراً انتقامياً. وعلى الخلفية ذاتها كانت العلاقات مع مصر وسوريا، شبه مقطوعة، بينما بوارج التحالف الغربي تحاصر ميناء العقبة، وتفتش السفن القادمة إليه، بحجة منع وصول الممنوعات إلى العراق.
ـ كان لدى الأردن حتى الـ93 ورقة واحدة هي دوره في المفاوضات على المسار الفلسطيني. وقد أسقط ياسر عرفات هذه الورقة في أوسلو. اعترفت إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية مفاوضاً، ولم تعد «المظلة» الأردنية لازمة.
ـ كانت المملكة المعزولة تواجه، بذلك، تحالفاً إسرائيلياً ـ فتحاوياً من شأنه أن يقلب المعادلة الأردنية الداخلية، لمصلحة نوع ما من السيطرة الفلسطينية. وعلى هذه الخلفية، برر الملك حسين، معاهدة وادي عربة، بوصفها رداً يخترق هذا الوضع المأساوي، ويعيد الأردن إلى الميدان مجدداً. مصطفى حمارنة، مستشار الملك حسين وقتها، كان يقول: «نحن لا نفاوض عن القدس، بل عن عمّان». إصرار الملك حسين وإلحاحه على الحصول على تفويض سياسي وشعبي أثارا شعور المراقبين بعمق الأزمة التي وجد نفسه فيها: فـ«وادي عربة»، بالنسبة إليه، كانت مخرجاً من مأزق استراتيجي، لكنها في التفاصيل كانت سيئة جداً. ولذلك، أراد الملك حسين أن يضمن تفهّم الأردنيين لخطوته والحفاظ على صورته لديهم كملك هاشمي، متجنباً صورتي أنور السادات وياسر عرفات التهريجيتين، (لكنه، بعد التورّط، وقع هو نفسه فريسة اللهاث وراء إرضاء الرأي العام الإسرائيلي والأميركي على حساب صورته لدى الرأي العام الأردني والعربي. ونذكر، هنا، مشاركته «الساخنة» في جنازة اسحق رابين 1995، واعتذاره الشخصي المؤلم لأسر ضحايا حادث الباقورة في 1997حين قتل جندي أردني سبع طالبات إسرائيليات على أراض أردنية مؤجرة للإسرائيليين. وقد سبق أن قلت في كتابي «الملك حسين بقلم يساري أردني» أنّ الرجل «مات سنة 1994 وليس عندما وافته المنية سنة 1999»).
لم يأبه «الإخوان»، منذ البداية ودائماً، لتفاصيل التنازلات التي قدمتها عمان في معاهدة «وادي عربة»، ولم يكونوا جادين في معارضتها، وركزوا هجومهم، في المقابل، على فتح والسلطة واتفاقية أوسلو. وكان ذلك، ملائماً للغاية لأغراض الملك حسين، الذي رأى ـ آسفاً وغاضباً ـ اتساع دائرة الجماهير الرافضة لـ«وادي عربة» أو المشككة فيها، فيما كان التأييد الشعبي لأوسلو وعرفات، لا يزال قوياً، ومؤذناً، بالتالي، بضياع فرص الهاشميين في فلسطين. وبينما كانت اتفاقية أوسلو تحرز، في شهر العسل الإسرائيلي ـ الفتحاوي، نجاحات سياسية، تعزّزت، في المقابل، الشكوك حول المعاهدة الأردنية ـ الإسرائيلية. فتحت الضغط، بدأ كوادر من لجان المفاوضات، في مسعى مشروع للدفاع عن النفس، تسرّب أنّ الجهاز الأردني الفني استعد للمفاوضات بملفات كاملة، ووضع أسساً واضحة لاسترداد الحقوق الأردنية المغتصبة من قبل الإسرائيليين، إلا أنّ الأوامر السياسية قطعت طريق التفاوض الفني، ووجهت المفاوضين الأردنيين إلى تسهيل الوصول إلى اتفاقات، بأي ثمن. وهكذا، جرى التوصّل إلى أسوأ شروط بالنسبة إلى الأردن. ومع ذلك، كان خطاب الملك حسين يركّز على استصغار شأن التنازلات الحيثية مقابل المكسب الذي عدّه استراتيجياً، والمتمثل في اعتراف إسرائيل بالمملكة الأردنية الهاشمية ككيان، مقترناً بوعد رابين غير المكتوب بالتخلي عن مشروع الوطن البديل. النقطة الجوهرية التي رفض الملك حسين، التنازل عنها ـ في مقابل أوامره بتسهيل الاتفاق، أي قبول تنازلات جوهرية في مجالات تخص مصالح الأردن الحيوية ـ كانت الحفاظ على دور أردني خاص في القدس. لقد كان متشبثاً بتلك العلاقة الرمزية بفلسطين، التي قد تتحول، مرة أخرى، إلى علاقة سياسية. من الناحية الاستراتيجية، كان الملك حسين ينظر إلى معاهدة وادي عربة كشيء عابر مؤقت يريده عاجلاً ـ مهما كان سيئاً ـ لاستخدامه التكتيكي، فلا يدقق في تفاصيله، ويتساهل في معطياته، بينما غريزته السياسية تدله على الإمكانيات التي يفتحها أمامه صعود حركة حماس.
قبل المعاهدة، لكن بقوة أكبر بعدها، رعى الملك حسين، الحركة التي كان يؤمل أنّها قادرة على إحداث انقلاب في السياسة الفلسطينية، يطيح قيادة ياسر عرفات وهيمنة فتح، ويسمح بعودة العلاقة الوحدوية بين الفلسطينيين والمملكة. وبصورة جدلية، رأى الملك في رفض حماس لأوسلو وإلحاحها على المقاومة، طريقاً يفضي إلى مفاوضات جديدة تفرضها الأحداث، تكون عمّان هي المؤهلة فيها كمفاوض رئيسي، وتتم، خلالها، استعادة وحدة الضفتين في صيغة كان قد اقترحها عام 1972 تحت اسم «المملكة العربية المتحدة». حماس سوف تقلب الطاولة التي خسر عليها الملك حسين، لعبة المفاوضات. وبوصفها امتداداً للإخوان المسلمين الأردنيين ـ الفلسطينيين، رأى الملك في امتداد هذا الحزب الكبير عبر النهر، قاعدة داخلية لتجديد الوحدة الأردنية ـ الفلسطينية، تحت عرشه. لذلك، سوف نستذكر الآن، بانتباه خاص، أنّ المرة الوحيدة التي هدد فيها الملك بإلغاء معاهدة «وادي عربة»، كانت عندما حاول الموساد الإسرائيلي اغتيال رئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل في عمان. بالطبع، كان الملك يريد لربيبه مشعل الحياة، لكنّه بالأساس، أراد أن يفرض على إسرائيل حق الأردن السيادي في التحالف مع حماس، أي حقه في التدخل في الشأن الفلسطيني. وهو حق كان التنازل عنه يجعل معاهدة «وادي عربة»، بتنازلاتها الأردنية، بلا طائل. كانت الفترة الممتدة بين 1994 و1998(حين وقع الملك حسين أسير المرض)، هي الفترة الذهبية في العلاقة بين عمّان وحماس. وفي هذه الفترة، خططت حماس ونفذت ـ ومقرها العاصمة الأردنية بالذات ـ سلسلة من أقوى العمليات الاستشهادية ضد أهداف إسرائيلية. وكانت هذه العمليات، للمفارقة، محط اغتباط الملك حسين، الذي رأى فيها ـ وربما أرادها ـ وسيلة فعالة لتحطيم السلام بين فتح وحزب العمل الإسرائيلي. كان الملك وحماس ـ ومن ورائهما الإخوان المسلمون ـ يلعبون اللعبة نفسها، متفقين على الوسائل والأهداف.
برحيل الملك حسين، انتهت اللعبة الاستراتيجية المحفوفة بالمخاطر والمتوترة بالاحتمالات المفتوحة. وخلال شهور، توافق وريثه، الملك عبد الله الثاني، مع اتجاه البيروقراطية الأردنية ـ المكبوح سابقاً بقوة زعامة الملك حسين ـ على النأي بالنفس عن الشأن الفلسطيني، واتباع سياسة الدعم غير المشروط للسلطة في مشروعها لإنشاء دولة فلسطينية مستقلة. وعلى هذه الخلفية، جرى إبعاد حماس عن عمان، وبدأت مرحلة القطيعة معها.
هنا، ظهر الخلاف، داخل النظام الأردني نفسه، بين تيار وطني محلي يريد اغتنام البيئة الناشئة عن وقف التدخل في الشأن الفلسطيني، لإعادة بناء الدولة بالانفصال عن العامل الفلسطيني ـ وهو ما يقتضي تبريد وربما تجميد السلام مع إسرائيل، وتحديد العلاقات مع تل أبيب في سياق عربي لا ثنائي ـ وتيار رأى في تلك البيئة نفسها، أساساً لإقامة منظومة نيوليبرالية مزدهرة في بلد كوزموبوليتي ناجح اقتصادياً. ومن شأن هذه السياسة التي اتخذت عناوين مثل «الاقتصاد أولاً» ثم «الأردن أولاً» أن تلغي، في تقدير أصحابها ـ مشكلات الهوية والتوطين السياسي والمواجهة مع إسرائيل. وقد انتهى هذا المشروع، كما هو معروف، الى فشل كامل على المستويين الاقتصادي ـ الاجتماعي والسياسي. وهو ما أطلق، مجدداً، الحركة الوطنية الاجتماعية، التي تربط بين بناء دولة القطاع العام الديموقراطية والتحرر من التبعية للغرب وإعادة تعريف إسرائيل كعدو.
في المحصّلة، يمكننا القول إنّ معاهدة «وادي عربة» أصبحت، اليوم، شأناً من الماضي؛ فبينما ترى إسرائيل أنّ تعهدات اسحق رابين الجوهرية للملك حسين بطي مشروع الوطن البديل، فائتة، فإنّ الحركة الوطنية الأردنية، وأقساماً من بيروقراطية الدولة، لم تعد ترى فيها سوى قيد تهرّأ، ولم يعد قابلاً للحياة. الإخوان المسلمون، وحدهم، يلوّحون بقدرتهم على تجديد مضمون «وادي عربة» من خلال كونفدرالية عبر النهر، تضمن لإسرائيل ابتلاع نصف الضفة الغربية والأمن، بشرط تمكين الإخوان من تسلّم السلطة في الكونفدرالية المؤهلة لإنجاز الحل النهائي للقضية الفلسطينية، وإنْ يكن تحت شعار «هدنة» لـ99 عاماً!
هل اتضح، إذاً، سبب غياب الإخوان المسلمين عن الاجماع الوطني ضد معاهدة «وادي عربة» في ذكراها الـ18؟
يستعيد الإخوان الحمساويون، اليوم، مشروع الملك حسين مقلوباً؛ فبدلاً من كونفدرالية أردنية تستوعب الفلسطينيين، تراهم يسعون إلى كونفدرالية حمساوية تستوعب الأردنيين! لذلك، فهم ـ كما فعل الملك حسين سابقاً ـ يبدون الاستعداد لتقديم التنازلات الحيثية لإسرائيل، مقابل توطيد التفاهمات الاستراتيجية معها. لا تزال هذه العملية ـ التي تشرف عليها قَطر ـ في بداياتها، ولا يزال صراع الأجنحة الإخوانية والحمساوية يعرقل تبلورها، من دون أن يمنع ظهور مقدماتها أو يحد من اندفاعها، بانتظار التخلّص من العائق الرئيسي أمامها، أي النظام السوري، سواء بإسقاطه أو بلجمه داخل حدوده في تسوية ما، لا تسمح له بأكثر من السعي إلى مداواة جروحه.
استرداد الحقوق الأردنية: هل هناك بديل عن المقــاومة؟
يهتف شباب الحراك الأردني: «وادي عربة فضيحة». وربما كان الكثير منهم ــ كما الكثير من العرب ــ لا يعرف، بالضبط، حجم هذه الفضيحة المروّعة من التنازلات عن الحقوق الأردنية الصميمة فيها، والتي استعيد هنا أهمّ محاورها عن دراسة أنجزتها بصددها، ونشرت «الأخبار» مقاطع منها في تشرين الثاني 2009.
تزيد الأراضي الأردنية المحتلة «قانونياً» اليوم ــ سواء مباشرة أو بمنح المحتل حقوق التملك والاستثمار فيها بموجب معاهدة «وادي عربة»ــ عن مساحة قطاع غزة! إلا أنّ أهميتها القصوى، بالنسبة للأردن، تتجاوز المساحة والاعتبار الوطني والسيادي إلى صلتها بتآكل الحقوق المائية الأردنية، المغصوب معظمها أصلاً. وهو ما يجعل من المعاهدة الأردنية ــ الإسرائيلية للعام 1994، مزدوجة الإساءة إلى كرامة الأردن ومصالحه في آن.
إلى ذلك، كرست «وادي عربة»، سياسات توطين اللاجئين والنازحين، وألغت حق العودة، مما عرّض ويعرّض البلاد إلى مخاطر الانشقاق الأهلي، ويهدد بنقل الصراع الديموغرافي السياسي من غربي النهر ــ مع الكيان الصهيوني ــ إلى صراع داخلي، شرقيه. وأصبح هذا التنازل الذي قدمه مفاوضو «وادي عربة»، التحدي الرئيسي أمام استحقاق الانتقال الديموقراطي في الأردن.
وأخيراً، وليس آخراً، فإن الأضرار التي لحقت بمنظومة الدفاع الوطني الأردنية، بموجب «وادي عربة»، كشفت البلاد أمام العدوانية الإسرائيلية، وحاصرت حرية قرارها السياسي والتنموي. لكلّ ذلك، لا تعترف الحركة الوطنية الأردنية بمعاهدة «وادي عربة»، وينادي الحراك الشعبي بإسقاطها. لكن اسقاطها يظل بلا معنى إن لم يرتبط بتوفر إرادة وشروط المقاومة لاسترداد الحقوق الوطنية المكرّس اغتصابها في المعاهدة، كالتالي:
أولاً، الأرض: تخلى الجانب الأردني، مسبقاً، عن المطالبة باستعادة بلدة «أم الرشراش» على خليج العقبة والتي احتلها الإسرائيليون العام 1949، أي بعد الهدنة، وفي خرق واضح لها، وأقاموا فيها ميناء إيلات الذي ما فتئ أن توسع على حساب المياه الإقليمية الأردنية لاحقاً.
يحدّد أطلس المركز الجغرافي الأردني (مؤسسة تابعة للقوات المسلحة) الصادر في 1983 ــ والذي سُحب من التداول بعد المعاهدة العام 94 ــ خرائط الأراضي الأردنية المحتلة من قبل «العدو الإسرائيلي»، في «خريطة منطقة الاحتلال في خليج العقبة». ويقول النص المرفق بها والذي كان يمثّل الموقف الرسمي في حينه: « تبيّن الخريطة أنّ خط الهدنة عام 1948 يقع في الطرف الشمالي الغربي من خليج العقبة، وقد ضمنت اتفاقية الهدنة هذا الخط، لكن إسرائيل احتلت الموقع الحالي والمبين في الخريطة، بحجة أن الحد الفاصل بين فلسطين وشرق الأردن في عهد الانتداب كان يمثله هذا الخط. وبذلك تكون إسرائيل قد خرقت اتفاقية الهدنة، ولم تكتف بذلك؛ إذ إنّ المنطقة المخصصة لرسو السفن في ميناء إيلات تتعدى لتشمل مياها إقليمية أردنية صميمة. وإذا اعتبرت العوامات التي تضعها إسرائيل في خليج العقبة، فاصلاً بين المياه الإقليمية الأردنية ــ الإسرائيلية، فإنّ هذا يعني تقليص المياه الإقليمية الأردنية باتجاه الجنوب ليصبح عرضها صفراً، وهو ما تبينه الخريطة» (انتهى).
وقد انطلق مفاوضو «وادي عربة» من الاعتراف بالحجج والوقائع التي فرضها الاحتلال الإسرائيلي، متنازلين، رغم الدستور، عن أراض وطنية ومياه إقليمية، وعن المدى الجغرافي الطبيعي للمنفذ البحري الوحيد للبلاد، وعن الاتصال الجغرافي مع مصر. وتشكّل هذه التنازلات المسبقة كارثة استراتيجية وتنموية وأمنية. على أنّ المفاوضين الأردنيين لم يتمسكوا بالسيادة أو حتى بالمساحات من الأراضي الأردنية المحتلة في منطقتي الاحتلال موضع التفاوض؛ في الباقورة (شمالاً) ووادي عربة (جنوباً). يقول أطلس المركز الجغرافي الأردني (1983) في خريطة «الاحتلال في الباقورة»، ما يلي: «عينت الحدود بين شرق الأردن وفلسطين إبان الانتداب البريطاني، واعتبر نهر الأردن حداً فاصلاً بين القطرين، ونهر اليرموك حداً فاصلاً بين الأردن وسوريا. إلا أنّ اليهود احتلوا المنطقة الواقعة في الجانب الأردني عند ملتقى نهر الأردن ونهر اليرموك في غرب الباقورة والتي بلغت مساحتها 1390 دونماً. ويبدو واضحاً أنّ إسرائيل تهدف إلى السيطرة على ملتقى النهرين، واستغلال المياه من خزان اليرموك» (انتهى).
وقد قدم الجانب الأردني، هنا، تنازلات واسعة وغامضة وخطيرة. فقد قبل بجزء من مساحة المنطقة المحتلة من أراضي الباقورة يبلغ 850 دونماً بينما تنازل للإسرائيليين عن 540 دونماً. وعلى القارئ الانتباه إلى أن مئات الدونمات، هنا، ليست مجرد كمّ مساحيّ، وإنما لها أهمية استراتيجية في ما يتصل بالحقوق المائية الأردنية في نهري الأردن واليرموك.
لكن الأسوأ هو الثمن الذي دفعه الأردن لقاء الاستعادة القانونية وليس السيادية أو الفعلية على تلك الـ850 دونماً، والمتمثل في قبول الجانب الأردني بعدم ممارسة أي لون من ألوان السيادة الحدودية أو القانونية أو الضريبية أو الشرطية على الأرض «المستعادة» التي تم إخضاعها لـ«نظام خاص» يسمح بحقوق تملك واستعمال وإقامة ودخول وخروج الإسرائيليين وشرطتهم وموظفيهم الخ، الى المنطقة من دون قيود، وتمنع المواطنين الأردنيين، بالمقابل، من الدخول إليها إلا بتصاريح، وتجمد سيادة القوانين والمحاكم الأردنية كلياً فيها.
ويظل الأخطر هو حدود منطقة «النظام الخاص» التي تخطت الأراضي «المستعادة» إلى أراض لم تكن محتلة سابقاً، لكن تم إخضاعها لشروط النظام الخاص بمنطقة الباقورة / نهاريم وفق الملحق ( 1/ب) لمعاهدة 1994 والتي ظل تعيين حدودها، سرياً وغامضاً، ولكنه يشمل، على الأقل، الأراضي التي كانت مخصصة، قبل قيام دولة إسرائيل، لشركة كهرباء فلسطين (مشروع روتنبرغ) في الموقع الذي يسميه الإسرائيليون «نهاريم». وهي أراض أردنية صميمة لم تكن محتلة ولكنها موضع مطالبة إسرائيلية بحقوق الملكية، وتبلغ مساحتها 5380 دونماً. وبالمحصلة، فإن إسرائيل ــ وليس الأردن ــ هي مَن حصل على «حق» و«استعاد» حق التملك والاستخدام لأراض أردنية وتحت مظلة قانونية تنزع عنها كل ممارسات السيادة، بما فيها البلدية منها. وبالنسبة للخريطة الخاصة بـ«منطقة الاحتلال الإسرائيلي في وادي عربة»، يقول أطلس المركز الجغرافي الأردني (1983) ما يلي: «قامت إسرائيل بعد عام 67 بتغيير خط الهدنة في وادي عربة، وزحزحت هذا الخط شرقاً لمسافات مختلفة، وصلت في بعض المناطق إلى 8 كلم، بطول 128 كيلومتراً. وأما المساحات التي استولت عليها إسرائيل فقد بلغت 387،4 كيلومتر مربع» (انتهى).
وقد تم الاتفاق بصدد هذه المنطقة على تسوية اعادت قسماً منها إلى الأردن مقابل التخلي عن الحق في الممارسات السيادية الأردنية عليها، بما في ذلك منح المستوطنين فيها حقوق الاستئجار والاستثمار الخ. والسائر في طريق البحر الميت ــ العقبة، يلاحظ المزارع الإسرائيلية الغنّاء في الوادي، ويلاحظ أنّ الجانب الأردني غير مستغَل زراعياً إلا في حدود ضيقة ومن قبل شركات تابعة للأمن. ولا يعود ذلك إلى ظروف طبيعية؛ فالطبيعة واحدة، ولا إلى «كسل الأردنيين»، بل إلى الأفضلية الإسرائيلية في استغلال المياه الجوفية. وبالمحصلة، تخلص الإسرائيليون، في هذا البند، من أعباء حماية مستوطنيهم في وادي عربة، وانتزعوا قوننة استثماراتهم وسرقتهم للمياه الجوفية الفلسطينية ــ الأردنية.
ثانياً، المياه: قد قدّم الجانب الأردني في هذا المجال، ما يُعد كارثة بالنسبة لبلد هو من أفقر عشرة بلدان في الموارد المائية:
(1) أقر الجانب الأردني بالواقع القائم من استئثار إسرائيل بكل المياه العذبة في أعالي نهر الأردن حتى بحيرة طبريا، متنازلاً عن حقوقه المائية في البحيرة وفي المصادر المائية شمالها ــ وتبلغ 100 مليون متر مكعب، هي حقوق أراضي الزور الأردنية ــ وعن حوالي 5 م.م.م من المياه العذبة لإرواء الملكيات الإسرائيلية في أراضي الباقورة وعما مقداره 10 م.م.م لإرواء الأراضي المؤجرة للمستوطنين الإسرائيليين في وادي عربة. وهكذا نلاحظ أنّ التنازل عن السيادة على أراضي الباقورة والغمر في وادي عربة، استتبع التنازل عن حصصهما المائية. وحصل الأردن مقابل ذلك على حق تحلية 60 م.م.م من المياه المالحة جنوبي طبريا وإقرار إسرائيل بحقوقه في تصريف أوديته الداخلية، وحقوقه لدى سوريا في نهر اليرموك!
(2) ورغم أنّ نهر اليرموك هو نهر سوري ــ أردني داخلي، وليس للأراضي الفلسطينية ــ وبالتالي الإسرائيلية ــ أي حقوق عليه، باستثناء حقوق مثلث اليرموك ومقدارها 17 م.م.م، إلا أنّ الجانب الأردني، ومن دون مشاركة سوريا أو موافقتها، أبرم اتفاقاً مع طرف ثالث بشأن الحقوق الثنائية الأردنية ــ السورية في اليرموك! وتنازل للإسرائيليين عن 25 م.م.م من مياه النهر، ووافق على إقامة سد تحويلي مشترك مع الإسرائيليين على هذا المجرى المائي الداخلي بين البلدين الشقيقين. وقد أدى هذا الإجراء العدائي إلى نشوب مشكلة مياه مع سوريا التي لم تعد تعترف واقعياً بالحقوق الأردنية في اليرموك، وتقوم، بالتالي، بالسحب فوق حصتها من النهر وتخزينها في سدود محلية.
(3) اعتمد الاتفاق بين الجانبين الأردني والإسرائيلي، مبدأ الربط المائي الثنائي، وأهم عناصره تخزين فائض المياه الأردنية الشتوية في بحيرة طبريا ــ رغم أن تخزينها محلياً أكفأ وأقل كلفة ــ عبر أنابيب، واستعادتها صيفاً. وتحسن المياه الشتوية العذبة نوعية المياه المستهلكة في إسرائيل التي تضخ، بالمقابل، مياها من نوعية رديئة، وغالباً، ملوثة، إلى الأردن صيفاً. وهو ما فجر فضائح متكررة خلال السنوات الثماني عشرة الماضية.
ثالثاً، اللاجئون: الأردن هو أكبر مستضيف للاجئين الفلسطينيين خارج فلسطين. ويعيش على أرضه حوالي مليوني لاجئ ونازح وفدوا جراء حرب 1948 وحرب 1967. ومن البديهي أنّ إنهاء حالة الحرب والصلح بين الأردن وإسرائيل، يتطلبان وفقاً للشرعية الدولية وموجبات السيادة والمصالح الأردنية، القيام أولاً بإنهاء الوقائع الناتجة من الحرب، وأهمها، بالنسبة للأردن، واقعة اللجوء الفلسطيني. وقد تنازل الجانب الأردني عن حقه كدولة مضيفة وحق اللاجئين بصفتهم تلك ــ وبصفتهم مواطنين أردنيين ــ في العودة والتعويض والملكية. وقد اعتبرت المادة 8 من معاهدة وادي عربة، قضية اللاجئين والنازحين «مشكلة إنسانية» ناجمة عن «النزاع في الشرق الأوسط»! وأحالت البحث فيها إلى لجنة رباعية مع مصر والفلسطينيين (بالنسبة للنازحين) والمجموعة الدولية المتعددة الأطراف (بالنسبة للاجئين). وقد وضعت إسرائيل اللجنتين على الرف، بينما ينفذ الأردن من طرفه الاتفاق الثنائي على البند ج القاضي «تطبيق برامج الأمم المتحدة المتفق عليها وغيرها من البرامج الاقتصادية الدولية المتعلقة باللاجئين والنازحين، بما في ذلك المساعدة على توطينهم». وهكذا نلاحظ أن معاهدة وادي عربة تنص على التوطين صراحة، ولا تذكر حق العودة والتعويض إطلاقاً، وتؤكد «الطابع الإنساني» وليس السياسي للمشكلة، وتحدد المسار الاقتصادي والتوطين لحلها.
تشكل قضية اللاجئين والنازحين، مشكلة رئيسية لقضايا الهوية والمواطنة والديموقراطية والتنمية في الأردن، وتمثل سياسة التوطين قنبلة موقوتة تهدد استقرار ووحدة البلاد. ومما يثير التساؤل قبول الجانب الأردني بالتعامل معها بهذا القدر من الخفّة في معاهدة دولية. غير أنّ الخفّة والتنازلات المعيبة والغموض تميّز كل حرف في معاهدة «وادي عربة» التي أُلحقتْ بعشرات الاتفاقات التفصيلية حول التعاون الثنائي في كل المجالات الممكنة، القائمة والمستقبلية. وهي اتفاقات سمحت لإسرائيل بإحداث اختراقات جرى صدّها من قبل المجتمع مبكراً، باستثناء العلاقات الثنائية الرسمية.
ويظل أسوأ ما في معاهدة «وادي عربة»، تخلي الجانب الأردني، ومن طرف واحد، عن منظومته الدفاعية إزاء إسرائيل، بما في ذلك تفكيك أجزاء من حائط المدفعية الثقيلة الاستراتيجي على طول المرتفعات الأردنية المواجهة لإسرائيل. وهو كان مفخرة الدفاع الأردني خلال حرب الاستنزاف على الجبهة الأردنية 1968 ــ 1970. وإلى ذلك جرى تجميد خدمة العلم والإضرار بمنظومة مكافحة التجسس والعلاقات مع العدوّ التي أصبح الكثير منها «قانونياً».
«وادي عربة» ماتت… تحيا المقاومة
Posted in Uncategorized.