*
حين حصلت أسبوعية «السبيل» الإسلامية، في خريف 2008، على رخصة الصدور اليومية، كان لدى طاقمها آمال عراض، تتداخل بين الصحافة والسياسة. فمحررو «السبيل» ـــــ وهذا حقهم ـــــ كانوا يأملون بفرص مهنية جديدة تلبي طموحاتهم الشخصية، وتخدم، في الوقت نفسه، توسّع نفوذ خطابهم السياسي. آمال تبدّدت بعد الصدور، شهراً وراء شهر. لقد اصطفت «السبيل» على هامش الحياة الصحافية والسياسية معاً.
هل يمكن اليومية الحزبية، بالأساس، أن تنجح؟ طالما رأى الصحافيون المحترفون أن ذلك مستحيل أصلاً، حتى إن محمد حسنين هيكل رفض في بداياته المهنية رئاسة تحرير صحيفة إخوانية، لاعتقاده بحتمية فشلها، رغم أن الحركة في مصر، في أواسط الأربعينيات، كانت قد وصلت إلى ذروتها الجماهيرية.
إدارة «السبيل»، في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أظهرت بالمقابل ميلاً للانغلاق، فلم تنفتح على الصحافيين والكتاب المحترفين من خارج صفوف «الإخوان». بل إن إدارة الصحيفة المقرّبة من الخط الحمساوي في الحركة الإسلامية الأردنية، استبعدت الخط الداخلي المنافس داخل الحركة، الذي ظلت قياداته تستخدم المنابر الصحافية العامة للتعبير عن رؤاها وتغطية أخبارها. والمفارقة أن هذا الخط برز أقوى على المستوى الإعلامي من دون أن يتجشّم عناء إصدار مطبوعة خاصة. غير أنّ أزمة يومية «السبيل» ربما كانت تعكس أزمة أكبر مما يمكن مناقشته. إنها أزمة خطاب، وأزمة سياسات، وأزمة حركة.
الحركة الإسلامية محكومة بالانضواء في حركة وطنية ديموقراطية لا تكون قياديّة فيها
الخطاب الإسلامي ـــــ من حيث هو خطاب ديني يؤطّر التدين الشعبي ويناضل لعزل الميول الثقافية العصرية أو الدمج بينها وبين قواعد الإيمان ـــــ أصبح يلهث أمام مؤثرات العولمة التي فجّرت الرغبات أكثر مما فجّرت الطاقات. لكنه انفجار قوي يهزّ أركان المجتمعات العربية والإسلامية بصورة لم تحدث من قبل. فالمؤثرات الليبرالية في الثلاثينيات والأربعينيات، والماركسية والقومية في الخمسينيات والستينيات، لم تهز الثقافة التقليدية، بل كانت تسعى إلى استرضائها والبحث عن قواسم مشتركة معها لتجاوز الصدمة والتركيز على الأبعاد التحديثية والاجتماعية والسياسية. لكن صدمة العولمة الثقافية لا تفعل ذلك، أولاً، لأنها تنتشر من خلال نمط حياتي شامل ووسائل إعلام واتصال نافذة، ولا تستأذن أحداً ـــــ كالفضائيات والإنترنت ـــــ ولا تتطلب مناضلين محليين يبحثون عن تسويات مع مجتمعاتهم، ولا ترتبط بتحفيز سياسي. إنها، على العكس، تخاطب الذاتيات والغرائز والرغبات، وتضخّمها، وتخلق بانتظام احتياجات فردية مستجدة، وتغذّيها. عمان، المدينة شبه المحافظة حتى أوائل التسعينيات، أصبحت اليوم مدينة كوزموبولوتية، تصخب فيها حياة الليل في مئات المرابع والمطاعم والملاهي والمقاهي. وتوفّر «المولات» الضخمة المتكاثرة بيئة للقاءات الحرة بين الشباب والصبايا، الساعين والساعيات إلى تجارب شخصية جديدة. استهلاك الخمور تزايد في العقد الأخير بمعدلات تفوق استهلاك الكتب الدينية. على كل حال، فإن قراءة الكتب والصحافة المطبوعة تراجعت بصورة غير مسبوقة. تفضل الأجيال الجديدة المواقع الإلكترونية. وبالنظر إلى رخص الخدمة المتوفرة في الأردن وجودتها، فإن جمهور «النت» بات اليوم كبيراً. والمواقع الأكثر مشاهدة هي، بالإضافة إلى عدد محدود من المواقع السياسية، مواقع المنوّعات والأغاني والجنس والمنتديات وكرة القدم.
الحركة الإسلامية محكومة بالانضواء في حركة وطنية ديموقراطية لا تكون قياديّة فيها
التغيّر الأبرز في السلوك الثقافي يتمثل في التحوير الذي أصاب الحجاب. أصبح الحجاب، لدى غالبية البنات، زينة تتبع الموضة، ولا تتطلب الحشمة في اللباس الذي يتكون عادة من بنطال ضيق منحسر إلى الأسفل يكشف جزءاً من المؤخرة والبطن، وبلوزة ضيقة، بينما يكتسي الوجه بمكياج كامل على طريقة مذيعة «الجزيرة»، خديجة بنت قنة.
الزاد الديني يأخذه الجيل الجديد من دعاة مثل عمرو خالد. وهو خطاب يمنح الفئات الوسطى الحجة على الإسلاميين التقليديين، ويلقى رواجاً، لا بسبب موجة تدين «مودرن»، ولكن بسبب ما يمنحه من رخص حياتية باسم دعاة يحوزون الشرعية. وتشجّع العائلات هذا اللون الإسلامي لأنه يبتعد بأبنائهم عن العمل السياسي والتعصّب، ويُرضي، في الوقت نفسه، نزوعاتهم الدينية.
هذا ميدان خسرته الحركة الإسلامية الأردنية، وضمر بالتالي معينها الهيمني والاجتماعي. ويظهر أن استراتيجية النظام الأردني لاستيعاب الحركة التي اجتاحت المجتمع نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات، واستقطبت حتى قطاعات علمانية، كانت فعالة للغاية. وتمثلت تلك الاستراتيجية في تقييد الحركة من خلال سلوك مزدوج، يمنحها في آن الشرعية وحق المشاركة السياسية، ويهجم عليها سياسياً وإعلامياً بطريقة منظمة، وهذا ما أدى إلى غلّ يدي الحركة عن الرد. وجرى في المقابل، التفاهم مع الحركة على عزل التيار الجهادي واستخدام الحد الأقصى من العنف ضده. وكسر كل ذلك الاعتراضات الإسلامية على فتح الأبواب بلا تحفّظ أمام مؤثرات العولمة في كل المجالات.
ومع ذلك، ظلت قوة الحركة الإسلامية الأردنية حاضرة بالنظر إلى عاملين: تمثيلها الضمني لفلسطينيي الأردن، وتمثيلها السياسي لحركة «حماس» ذات الشعبية في البلاد.
في انتخابات 2007 البلدية والنيابية، جرى توجيه ضربة موجعة لتأثير العامل الأول. فسواء عن طريق التزوير أو استخدام المال بكثافة، صعدت إلى تمثيل فلسطينيي الأردن عناصر من الوجهاء والتجار والمقاولين… وسبق ذلك وتلاه تكوين وسطاء جدد بين النظام وقاعدته الفلسطينية، هم القادرون على حل مشكلات الجنسية والإقامة والعمل، إلى آخر مشكلات الحياة اليومية. وسوف يعمل استبدال الوسطاء على تحوّلهم إلى ممثلين أكثر فعالية لقاعدة تتجه، تحت وطأة فشل المشروع السياسي الفلسطيني، إلى نبذ السياسة، والالتفات إلى مصالحها الحياتية الخاصة.
وبالنسبة إلى العامل الثاني، فإن شعبية «حماس» ـــــ التي تتجاوز الانقسام الديموغرافي السياسي في الأردن ـــــ بدأت تتآكل بصورة متسارعة تحت تأثير الآتي: 1ــ الانطفاء الموضوعي لصدقية وعودها بالمقاومة، فأكثر ما تطمح «حماس» له اليوم هو فك الحصار مقابل وقف إطلاق النار، 2ــ وهو ما يغلق أي أفق سوى الانكفاء إلى تأسيس إمارة إسلامية انفصالية في قطاع غزة. بل إن هذه الإمارة تتجه إلى أن تكون إمارة طالبانية تركّز على تحفيظ القرآن ونشر المدارس الدينية وتخوض معركة إجبار المحاميات على ارتداء الحجاب، بينما تعيش غزة حالة من البؤس الشديد، ولا تُبذل جهود لبناء جبهة وطنية للبناء والمقاومة تقدّم نموذجاً جديداً على المستوى الفلسطيني، 3ــ وعلى رغم بعض التصريحات العابرة لقياديين حمساويين ضد مشروعات الوطن البديل، فإن تجاهل «حماس» لتظهير موقف سياسي واضح وجدي وفاعل في مواجهة هذه المشروعات، دفع بجمهورها إلى الشك في كونها حليفاً يعتمد عليه.
على الصعيد الحزبي الداخلي، تعاني الحركة الإسلامية الأردنية من شلل ناجم عن انقسامها السياسي الفعلي بين تيارين: التيار الحمساوي والتيار المحلي. يريد الأول إخضاع استراتيجية الحركة في الأردن لدعم الحضور الإقليمي لـ«حماس»، بينما يريد الثاني الانفصال عنها وطرح برنامج ديموقراطي يتمثل في الملكية الدستورية. وقد أدّى التناحر بين التيارين إلى تسمية قيادة تقليدية للحركة للحفاظ على وحدتها التنظيمية، لكن ذلك لا يمكن أن يخفي حقيقة انشقاق الحركة إلى حزبين. مكانة الحزب الأول ترتبط بمآل الدور السياسي الممكن لـ«حماس» في القضية الفلسطينية، وحضورها الإقليمي ومستقبل علاقاتها مع عمان، بينما لا يستطيع الحزب الثاني الصمود وحده. فالحركة الإسلامية على العموم، ضعيفة في صفوف الشرق أردنيين، وليس لديها بينهم قاعدة لبرنامج ديموقراطي، ما سيفرض على التيار المحلي في الحركة، إذا ما أراد البقاء وتحقيق الفعالية، الانضواء في حركة وطنية ديموقراطية واسعة لا يمكن أن يكون للإسلاميين فيها، من الناحية الموضوعية، دور قيادي.
* كاتب وصحافي أردني