في مذكرات شيخ المناضلين, الدكتور يعقوب زيادين, نادرة ذات دلالة. فعندما أرادت مجموعة من الطلاب الأردنيين في سورية ولبنان, تأسيس حزب شيوعي في الأربعينيات, اقترح أحدهم تسمية هذا الحزب ‘ بالحزب الشيوعي الهاشمي ‘!
ينظر الأردنيون إلى المَلَكية الهاشميّة باعتبارها محايدة, اجتماعيا وسياسيا. وهو حياد يفتح الباب أمام الخيارات الأيديولوجية والاستراتيجية. في الأعوام 55 و56 و57 عاش الأردنيون مع سليمان النابلسي والتيار القومي اليساري, ربيع التحرر الوطني والديموقراطية, لكن تجربتهم التاريخية الأبرز كانت مع وصفي التل والتيار الوطني الاجتماعي ,حين إنخرطوا في عملية بناء دولة قطاع عام ناصرية المضمون في إطار المَلَكية. وهي تجربة فريدة في السياق العربي.
ولقد فشلت التجربتان, لكنهما ظلتا تلوّحان بالممكنات التي يختزنها المستقبل. وفي العام 1989 أنهت هبة نيسان الشعبية, نظام الأحكام العرفية, وانفتحت إمكانية جديدة لتجربة وطنية إغتيلتْ في صفقة عقدها الإخوان المسلمون ( ما أشبه اليوم بالبارحة) قبل أن تدخل المنطقة حقبة الإنهيارات وأوسلو ووادي عربة وتتفكك القوى الاجتماعية الوطنية لمصلحة الكمبرادور والنهج النيوليبرالي. تلك حقبة سوداء آذنت بالتراجع منذ ربيع 2010 ، حين ولد الحراك الأردني.
الحراك الأردني مشحون بالمطالب, لكنه ليس مطلبيا. إنه, بالأساس, تعبير عن إنبعاث الروح الوطنية الشعبية التي تجمع تجربتيّ النابلسي والتل معا, وتريدهما معا.
وقد تطلّب هذا الإنبعاث, إعلان تلاشي الروابط السياسية التقليدية,لكن مع بقاء الأمل بتغيير النَظْمة المسيطرة وإنْ في إطار المَلَكية. وهذا هو ما يفسّر تلافي الحراك والملك, كلاهما, الصدام السياسي والأمني, وفي الوقت نفسه, عدم التوصل بعد إلى صيغة سياسية.
روابط الماضي انتهت. وكل محاولات إحيائها هي مجرد محاولات كاريكاتورية. ومن الأفضل توفير الجهد والوقت المصروف, بلا جدوى, في هذه المحاولات. ومن الواقعي توجيه الأنظار نحو ترتيب روابط جديدة للمستقبل.
الأردنيون – وهم جماعة وطنية يتمتعون بحنكة الصحراء وصلابة الجبال وواقعية الفلاحين معا – ليسوا ‘رجعيين’ أو قاصرين سياسيا أو سذّجا; إنهم ينظرون إلى المَلَكية باعتبارها وظيفة أردنية لضمان المساواة فيما بينهم داخليا ولضمان مصالحهم الخارجية. وكانت تلك النظرة في صلب اجتماعيّ تأسيس الدولة في العام ,1920 أي قبل أن يأتي الأمير – الملك عبد الله الأول إلى البلاد.
ما يزال الأردنيون يريدون المَلَكية اليوم, وللوظيفة نفسها, لكنهم, في الوقت نفسه, مصممون على الإطاحة بالنَظْمة السياسية القديمة وبالطبقة الكمبرادورية الحاكمة من خلال إلحاحهم على الحكم الدستوري و محاكمة واستئصال الفاسدين ومراجعة الخصخصة, ملفات ونهجا, واستعادة القطاع العام ودوره الحاسم في المجالات الإقتصادية والاجتماعية والتربوية والثقافية.
وإنني لآمل الإنتباه إلى هذه النقطة الشديدة الأهمية في فهم الحراك الأردني. فقد كانت وطنيّة الأردني وشخصيته السياسية, حتى وقت قريب, مرتبطتين بالنظام لا تتمايزان عنه. وما نراه اليوم, هو أن الطلائع الشعبية, في تمثيلها العضوي لحركة المجتمع, عبرت وتعبّر عن إتجاه عام نحو النضج السياسي والإستقلالية. ولعلّ القلق العميق على مستقبل الدولة الأردنية هو الحافز الرئيسي وراء ذلك الإتجاه. فالأردني يريد أن يأخذ زمام مصيره بنفسه, للتخلّص من الهواجس على الدولة والكيان والهوية.
ولعل هذه أن تكون من أفضل ثمار الحراك, فقد بدأ الآلاف والآلاف من الأردنيين يستشعرون القوة والثقة بالنفس, وكأنهم يرددون أنشودة جماعية تسترجع تيسير السبول: أنت منذ اليوم .. لي يا وطني. كيانك واستقلالك وهويتك ومشروعك الديموقراطي الاجتماعي ومستقبلك, مسؤوليتي!
وباعتقادي أن هذا التطور يمثّل فرصة إستثنائية لإعادة ترتيب البيت الداخلي على أساس العلاقة التعاقدية, الدستورية والسياسية, بين الشرعيّتين القائمتين في البلاد, شرعية الوطنية الأردنية – بوصفها المضمون – وشرعية المَلَكية – بوصفها الإطار -.
(العرب اليوم)