هزيمة بني إرشيد وانتصار ” الإخوان”

بغض النظر عن السلوك السياسي البراجماتي لـ ‘الإخوان المسلمين’, فإن لديهم قاعدة جماهيرية لن يخسروها. وهذه القاعدة مؤلفة من الأقسام المحافظة من البرجوازية الصغيرة, والأقسام غير المسيسة وغير العشائرية من الفئات الشعبية. وهذه وتلك, تهتم بالبعد الرمزي للحزب الديني والسلوك الثقافي المحافظ, وليس بالسياسة. وإذا واصلنا الحفر الاجتماعي للقاعدة الإخوانية في بلدنا, فسوف نجد أن الفئات الاجتماعية المذكورة أعلاه, في الغالب اهتمامها السياسي الرئيسي ينصب, على الشؤون الفلسطينية بالدرجة الأولى.ولذلك, فان قاعدة ‘ الإخوان’ تغفر لهم, البراجماتية المنهجية إزاء قضايا الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.. إلخ, لكنها, بالطبع, لا تغفر لهم, أية مرونة في الموقف المبدئي إزاء إسرائيل, والتنازلات إزاءها والتطبيع معها.ولعل هذا هو أحد الأسباب الرئيسية وراء الصدامات التي شاهدناها بين الحكومات و’الإخوان’, منذ 1994 إذ لا يوجد خلاف رئيسي بين الطرفين حول الآيديولوجية الليبرالية الجديدة وحرية السوق والتجارة.. إلخ. كما أن ‘الإخوان’ لم يتوصلوا, بعد, إلى مفهوم عام للديمقراطية, باعتبارها نظاما تعدديا للمشاركة السياسية يقوم على الاعتراف غير الملتبس بالآخر ولذلك, فإن صراعاتهم في هذا المجال, لا تعنى بتطوير عملية ديمقراطية وطنية شاملة, ولكنها تعنى بالدفاع عن مكتسبات ‘الحركة’ وزيادتها.
وتكمن لحمة ‘الحركة’ الأساسية في شبكة المصالح المختلطة في أربعة مستويات 1- المشاريع الخاصة, خصوصا في التعليم والطب والهندسة والمهن , وما تدره من أرباح وتوفره من فرص عمل غير متاحة إلا للأنصار, أعني أن ‘الحركة’ هي, في النهاية, منظمة تضامنية بين عناصر بورجوازية وبورجوازية صغيرة 2- تأمين المصالح الخاصة بشبكة التضامن الإخوانية في النقابات المهنية. وكل من يدرس تاريخ الصراعات الانتخابية النقابية, سوف يكتشف أن التحالفات ‘ الإخوانية’ سيّرتها, دائما, المصالح الخاصة الضيقة للشبكة,وليس التحالفات السياسية 3- الوساطة بين مجتمع ‘الإخوان’, وليس المجتمع, وبين السلطات في تأمين مصالح وحل مشكلات فردية وخاصة, 4- العمل الخيري الذي يديم ولاء أكثر فئات المجتمع ‘ الإخواني’ فقرا.

وبالنسبة للإستراتيجية الحكومية المعتمدة حيال القوى المحلية, فإن إستقلال شبكة ‘ الإخوان ‘ الاقتصادية الاجتماعية, يُعتبر خطرا ماثلا. وهذا, بالتالي, مجال آخر للصراع بين الطرفين.

أخيرا, فإن الليبرالية الاقتصادية الجديدة, الميالة إلى لبرلة الحياة الاجتماعية لأسباب تجارية بالدرجة الأولى, تصطدم مع ‘ الإخوان’ في المجال الثقافي السلوكي. وهو ما حدا بالحكومة الحالية إلى منع ‘الإخوان’ من تولي أي من البلديات الرئيسية, لئلا يعرقلوا اللبرلة الاجتماعية. وما يفسر التناقض بين الإلحاح الحكومي على إخراج ‘الإخوان’ من البلديات, وجرهم إلى المشاركة في الانتخابات النيابية, هو أن رئاسة وعضوية البلديات, على العكس من عضوية المجلس النيابي, تتضمن شيئا من السلطة الفعلية في المحليات.

لكن النفوذ الرئيسي لـ ‘الإخوان’ كان وما يزال في المجال التربوي. صحيح أن الوجود المباشر للقيادات ‘ الإخوانية’ لم يعد بالكثافة التقليدية نفسها في الوزارة, ولكن مناهج ‘الإخوان’ ما تزال هي المسيطرة, في دروس اللغة العربية والثقافة الوطنية خصوصا. وهي دروس تهيء الطلبة للإلتحاق بصفوف ‘ الإخوان’ أو أنصارهم, من دون عناء يبذله التنظيم.

وهو ما يعني أن الليبراليين الجدد, يطمحون إلى ليبرالية ثقافية سلوكية استهلاكية, ويبغضون في الوقت نفسه, التنوير الثقافي, بسبب أخطاره السياسية.

أرجو أن أكون قد قدمت, فيما سبق, لوحة عامة, تفسر السلوك السياسي التحالفي لـ ‘الإخوان’, من حيث تمسكهم يعني: استخدامهم للقوى القومية واليسارية والعشائرية, في التحشيد لمواقفهم في الشأن الخارجي, خصوصا الفلسطيني, ما يزيد من تأثيرهم على قاعدتهم الجماهيرية, وكذلك في الدفاع عن حصتهم السياسية واستثماراتهم وسيطرتهم على النقابات. ولكنهم لم ولن يحوّلوا هذا التحالف الدعائي الاستعمالي إلى تحالف سياسي تتم ترجمته في قوائم انتخابية مشتركة مع القوى التقدمية للنقابات أو البلديات أو المجلس النيابي.

وعلى هذه الخلفية, فإنني ألفت, مرة أخرى, إلى المسعى التجديدي الذي حاوله زكي بني إرشيد بقوة وذكاء. فعلى العكس من تقاليد ‘الإخوان’ يحشد بني إرشيد, القاعدة الإخوانية وراء برنامج الإصلاح السياسي, والتأكيد على محورية تطوير الممارسة الديمقراطية في البلاد, والسعي إلى تحالفات سياسية وانتخابية وبرنامجية مع القوى القومية واليسارية. إلا أن ميزان القوى داخل ‘الإخوان’ لم يسمح لهذا المسعى بالنجاح. وإذا لم يسع بني إرشيد وأنصاره إلى تأسيس حزب خاص, فإن بنية ‘الإخوان’ سوف تدمجهم أو تلفظهم.

Posted in Uncategorized.