*
من المفارقات أن تكون القمة العربية في دمشق ـ التي مارس السعوديون ضغوطاً هائلة لإفشالها ـ هي نفسها المسمار الأخير في نعش الحقبة السعودية المستمرة منذ 1973. فالرياض لم تستطع ابتزاز سوريا سياسياً بالتهديد بإفشال القمة، ولم تستطع منع انعقادها أو تأجيلها. وبالمحصلة، ظهر جلياًَ مدى تراجع النفوذ السعودي حتى في دول مجلس التعاون الخليجي، التي لم تتبنَّ السياسة السعودية إزاء دمشق. ويمكننا أن نرسم لوحة قلقة لحلفاء الرياض العرب: جبهة 14 آذار في لبنان، العاجزة عن الحسم وربما الصمود في الصراع الداخلي، والنظام المصري المعزول شعبياً، والمرجّح، حسب تقديرات محمد حسنين هيكل، ألّا يستمر في السلطة أكثر من سنة واحدة، والقصر الأردني المشدود موضوعياً إلى علاقات خاصة مع سوريا، تحكمها المصالح الثنائية والمخاوف من المشاريع الإسرائيلية، ولا تكبحها سوى الضغوط السعودية المعززة بالمساعدات المالية الضرورية لإنعاش الاقتصاد الأردني المريض.
لقد تقلص مدى الهيمنة السعودية، إذن، إلى حدود مأزومة ومتغيرة ومنحسرة. وإذا ما قررت الرياض مواصلة الصراع مع سوريا والمعارضة اللبنانية إلى الحد الأقصى، فلن يبقى لها حلفاء في المنطقة سوى أمراء الحرب الأهلية اللبنانيين… وإسرائيل. فالشعبان المصري والأردني لن يسمحا بأيّ مواجهة مع سوريا، ولا النظامان في البلدين لهما المصلحة أو القدرة على الاشتباك مع سوريا أو الانضمام إلى حلف مع إسرائيل ضدها.
لا غنى للرياض عن إسرائيل في مواجهة مفتوحة مع سوريا. فأدوات الصراع اللبنانية أعجز من المغامرة بمجابهة عسكرية مع حلفاء سوريا في لبنان. والطرفان يعوّلان على تدخل عسكري أميركي، ليس وارداً بالنظر إلى فشل التجربة العراقية التي تقيّد القوة الأميركية. واقتراح واشنطن لتجاوز هذا المأزق هو إنشاء حلف عربي ـ إسرائيلي في مواجهة الحلف الإيراني ـ السوري. وأزمة هذا الحلف تكمن في العقدة الفلسطينية، إذ لا تجد إسرائيل نفسها مضطرة إلى تقديم تنازلات على هذا المسار، إنّما تريد الحصول على معظم الضفة الغربية وشطب قضية اللاجئين والاعتراف بها كـ«دولة يهودية» لقاء دورها في حلف مع السعودية ضد سوريا.
إسرائيل، في المقابل، ترى أنّ لها مصلحة أساسيّة في الاستفادة من الضغوط السعوديّة على دمشق، للتوصّل إلى سلام مع السوريّين يكفل إغلاق الجبهة الشمالية، حيث الحرب مكلفة وغير مضمونة النتائج، سواء على جبهة الجنوب أو على جبهة الجولان. وتجد إسرائيل في هذا السلام ـ الممنوع أميركياً ـ فرصة تاريخية للتفرغ لتصفية القضية الفلسطينية، وتهجيرها إلى الأردن.
هذه التعقيدات هي التي تضع السعودية في دائرة مغلقة، تستهلك نفوذها، وتهوي بأدائها إلى حدود التطابق مع أداء الميليشيات اللبنانية. ويعبّر هذا التطابق، في النهاية، عن أزمة النظام السعودي في ظل المتغيّرات الإقليمية.
بدأت الحقبة السعودية عام 1973، بُعيد حرب تشرين. وكان من شروط نجاحها ما يأتي:
1 ـ اتخاذ السعودية قراراً مستقلا بقطع الإمدادات البترولية عن الغرب تضامناً مع الدولتين العربيتين المحاربتين، مصر وسوريا، وما تلا ذلك من ارتفاع أسعار النفط، وتحسين شروط إنتاجه وعوائده.
2 ـ أتاح ذلك للسعودية فائضاً مالياً كبيراً استخدمت قسماً منه في إمداد البلدان العربية والحركات والهيئات الاجتماعية الدينية بالمساعدات، في إطار مستقل نسبياً، للعلاقات في الداخل العربي والإسلامي.
3 ـ انتقال مصر المنهَكة إلى المعسكر الأميركي، ما حرّر السعودية من القطب المضاد، ووضعها في الموقع الأول داخل الحلف الأميركي ـ العربي،
4 ـ بدء مسيرة السلام مع إسرائيل، وصولاً إلى كامب ديفيد 1978 ـ 1979، وعزل مصر، والانفراد بالهيمنة على العالم العربي.
5 ـ توظيف الوهابية والحركات الدينية الجهادية في القتال ضد الشيوعية في أفغانستان.
6 ـ الحرب العراقية الإيرانية التي حيّدت العراق، وجعلته مضطراً إلى الخضوع للمساعدة السعودية.
7 ـ العدوان الإسرائيلي على لبنان 1982، ما أتاح إعلان المبادرة السعودية للسلام في قمة فاس في السنة نفسها، وصيرورتها عنواناً للسياسات العربية.
8 ـ إعادة مصر الضعيفة إلى الجامعة العربية معترفة بالقيادة السعودية من دون لبس، ما أتاح تعزيز الترويكا الثلاثية مع سوريا، وهي التي سيطرت على الاتجاهات الأساسية للسياسة العربية بما فيها، بل عنوانها، إنهاء الحرب الأهلية اللبنانية وذيولها في «الطائف» على أساس تقاسم النفوذ في هذا البلد بين الرياض ودمشق.
9 ـ وكانت الفترة من بدء العدوان والحصار الأميركي على العراق عام 1991، حتى غزو البلد في 2003، فترة الذروة في الحقبة السعودية، قبل أن تبدأ بالتلاشي.
لقد كان من أبرز نتائج غزو العراق ظهور إيران كقوة إقليمية أساسية منافسة، معززة بالانقلاب «الشيعي» العراقي المدعوم أميركياً. وهو ما جعل السعودية تظهر بمظهر المتحفّظ على سياسات الاحتلال الأميركي في العراق. لكنها في الممارسة السياسية داخل البلد تساوقت كلياً مع برنامج المحتلّين لتمزيق الشعب والمقاومة في العراق على أسس مذهبية. وهي الخطة نفسها التي سعت الرياض إلى تنفيذها في لبنان وسوريا، لكنها فشلت. وأساس هذه الخطة هو إحداث انقلاب «سنّي» في البلدين، في مقابل الانقلاب «الشيعي» في العراق، بحيث تأتي إلى السلطة في بلاد الشام قوى سنّية من الطينة نفسها التي جاءت منها القوى الشيعية إلى كراسي الحكم في بلاد الرافدين، أي ذلك الخليط من الإقطاعيين ورجال الأعمال الكومبرادوريّين والميليشيات الإجرامية.
ومسلسل الأحداث اللاحقة معروف للقارئ، من «ثورة الأرز» التي كان مخطّطاً لها أن تمتد داخل سوريا، إلى شبكة الحريري الانقلابية في النظام السوري، إلى مسعى ضرب حزب الله وحلفائه بالعصا الإسرائيلية عام 2006، إلى التصعيد الداخلي في محاولة إشعال الحرب الأهلية المذهبية في لبنان أيضاً. وقد أحاق الفشل الذريع بكل تلك المساعي. وبدلاً من إحراق لبنان وسوريا بنار الاحتراب المذهبي، تراجع هذا الاحتراب في العراق نفسه، وانتقل الصراع في ذلك البلد، إلى ميدان جديد، هو الحرب الأهلية داخل الشيعة على أساس الموقف من الاحتلال الأميركي والنفوذ الأجنبي، مما يفتح أفقاً لنشوء المقاومة الوطنية العراقية الشاملة، وهي التي ستلحق الاضطراب بالأوراق الإقليمية، وتعزل السعودية وتضعف النفوذ الإيراني، وتالياً الصراع بين البلدين، وتضع الرياض في مواجهة بلد تصهره المقاومة، وتستعيد له مكانته الإقليمية، وربما تصحّح الخلل القائم في التعاطي الانتهازي للسياسة الإيرانية مع المشروع الأميركي في العراق.
الحقبة السعودية كانت موافقة لزمن الصعود الإسرائيلي الخشن والهيمنة الأميركية الناعمة، لكنها تتفكك في زمن التراجع الإسرائيلي والسيطرة الأميركية التي لم تعد ممكنة إلا بقوة السلاح، ما يجعل وجودها مسألة وقت لا غير. وعلينا أن نلاحظ أن السياقات الإقليمية التي كانت تكفل للسعودية حضورها القوي قد تلاشت هي أيضاً. فالمقاومة اللبنانية لم تعد أسيرة التفاهم مع وكلاء السعودية في لبنان (آل الحريري وشركائهم)، بينما (بتحررهم المتصاعد من فتح ونهجها)، تحرر الفلسطينيون من الهيمنة السعودية التقليدية على العمل الفلسطيني، وباءت محاولات الرياض لاستيعاب المقاومة العراقية مذهبياً بالفشل. فالمقاومة العراقية تتحول إلى حركة وطنية خارج أي إطار إقليمي. وفي الوقت نفسه فإن إحكام السيطرة الأميركية على القرار والنفط السعوديين يجعل أيادي الرياض مغلولة في التحرك للحصول على حلفاء خارج التعليمات اليومية للإدارة الأميركية.
لقد كانت الحقبة السعودية، على بؤسها الشديد، محيرة فعلاً. فليس لدى السعودية ما تقدمه سوى المال. وهي لا تتوافر على أي عنصر من عناصر القوة العسكرية أو السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية، سوى الأنموذج الوهابي البدائي في نتاجيه المتشابكين: الرجعية الدينية المتأمركة والرجعية الدينية الإرهابية. وقد أظهر الأمير بندر بن سلطان في تهديداته نصف العلنية باستخدام الإرهاب عند اللزوم، أن الحبل السري لم ينقطع قطّ بين النتاجين الأسودين للحقبة السعودية. ومع نهاية تلك الحقبة، تكون ترويكا النظام العربي قد أصبحت من الماضي البعيد، بينما تهل ضرورة إنشاء ترويكا المقاومات العربية. ولدى سوريا الآن فرصة ذهبية لإنشاء حلف المقاومات، جدارها الأخير ولكن الأقوى.
* كاتب وصحافي أردني
نهاية الحقبة السعوديّة
Posted in Uncategorized.