بينما كان بواسل القوات المسلحة، في حالة اشتباك مع الإرهابيين في إربد، بدأت أصوات الإجماع الوطني تنطلق من كل التيارات السياسية والاجتماعية والعشائرية، بلا تردد، لدعم المعركة ضد الإرهاب.
إنه، بالأحرى، تفويض سياسي نادر عربيا؛ ففي سوريا والعراق ومصر، مؤيدون علنيون للإرهاب، سواء أبحجّة المعارضة أو المظلومية المذهبية أو المظلومية الإخوانية. وإذا كان الوضع في تونس مختلفا؛ حيث لا يوجد تأييد علني لـ’داعش’ وسواها من التنظيمات التكفيرية الإرهابية، إلا أنه لا يوجد في تونس إجماع بمضمون التفويض السياسي؛ فمن المعروف أن ثمة تعاطفا مع السلفيين والتكفيريين في مفاصل حزب تونسي رئيسي هو حزب النهضة بقيادة راشد الغنّوشي.
لدينا في الأردن، إذاً، ذلك التفويض السياسي الذي تطمح إليه أنظمة عديدة، ولا تحصّله. صحيح أن هناك بؤرا تكفيرية في البلاد، وحواضن لها، وحتى ارتباطات مباشرة بين إسلاميين أردنيين وجبهة ‘النصرة’ الإرهابية، ورفض لإدانة ‘داعش’؛ إلا أن كل ذلك يبقى في مجال أقلويّ، ناشز، لا يعرقل الإجماع.
وواضحٌ، أولا، أن ما أظهره الأردنيون من تفويض سياسي ينصب في صالح القوات المسلحة بكل صنوفها، ولا يمتد ليشمل الحكومة أو البرلمان أو النخب السياسية؛
وواضحٌ، ثانيا، أن الإجماع الوطني غير قائم بالنسبة للسياسات المسيطرة، وإنما هو يتعلق، حصريا، بالحفاظ على الوطن واستقراره وأمنه، في ظل ظروف إقليمية كارثية.
وخلاصة هاتين الحقيقتين بالغة الأهمية: يوجد، أقلّه، اجماع أردني على هدف وطني (استئصال التيارات التكفيرية والإرهابية) وتفويض سياسي لمؤسسة وطنية هي المؤسسة العسكرية. وفي اعتقادنا أن ذلك كافٍ لتأسيس مرحلة جديدة، هي مرحلة الإنقاذ الوطني.
الإنقاذ الوطني؟ نعم؛ فالمخاطر الجمّة تحاصرنا من الداخل والخارج معا؛ أزمة المالية العامة المتفاقمة بالمديونية والعجز إلى حدود مهدِّدة، وأزمة ملفات الفساد والامتيازات، وأزمة البطالة والفقر والتهميش، والأخطر أزمة الفوضى وضعف الإنتاجية والتسيّب وتردّي مستوى التعليم على كل المستويات، ثم أزمة العلاقات مع الحلفاء الخليجيين الذين يعانون من أزمات مالية واقتصادية وسياسية وتكوينية عميقة، بحيث وصلوا إلى خيار معي أو ضدي. وهو ما يغلق هوامش الحركة، ويقيد السياسات الأردنية.
في أساس الأزمات الأردنية، هناك محوران، أولهما يتعلق بالنهج النيوليبرالي الذي قوّض الإقتصاد الوطني وامكانيات التنمية لصالح القطاعين المالي والعقاري، وخلق، بالتالي، أولغارشية فظة أشاعت قيم الأنانية واللاوطنية وتدني مستويات التحصيل والثقافة والإنتاجية؛ وثانيهما يتعلق بالفشل المرير في التوصل إلى تحديد إطار قانوني للمواطنة وإطار سياسي للهوية.
التهديد الأكبر يأتي من إسرائيل التي واجهت في السنوات الأخيرة، وضعين متناقضين، أنهى الأول دورها الإقليمي وقدرتها الردعية حيال سوريا ولبنان ومصر، ومنحها الثاني فرصة إقامة علاقات تكاد تكون استراتيجية مع دول عربية نافذة.
وعلى ذلك، يدفعها تخلخل قدرتها الردعية في مصر والشام، وتمدد تحالفاتها في الجزيرة العربية، إلى غير المتوقّع من انسحاب أحادي مفاجئ من مناطق الكثافة السكانية في الضفة الغربية، فاتحة الباب أمام حرب أهلية فلسطينية، تضعنا أمام موجة لجوء جديدة، أو تضطرنا إلى التدخل وتحمل أعباء السكان دون السيادة على الأرض.
ومع ذلك كله، فإن التحولات الكبيرة على الساحة الدولية، بما في ذلك صعود القطب الروسي الصيني والتفاهم الواقعي بين واشنطن وموسكو، تمنح الأردن فرصة استثنائية لاتخاذ خطوات إنقاذية، من اتباع سياسة خارجية متوازنة، وتطوير الاستقلالية من خلال العلاقة المتساوية المسافة مع القوتين الأعظم، وتركيز الجهود على انضمام المملكة إلى مشروع إعادة الإعمار في سوريا والعراق.
المخاطر والفرص، ينبغي بحثهما في إطار اجتماعي ـ سياسي أوسع، وأكثر جدية، وصولا إلى استنهاض الإرادة السياسية لإعادة بناء الدولة الأردنية، وسياساتها واقتصادها وهويتها وتركيبتها الاجتماعية.
الانتخابات النيابية لن تفيد في هذا السياق؛ فهي لن تفرز، في النهاية، برلمانا أفضل من الحالي، يؤكد موقعه الدستوري في القرار، ولا حكومة أفضل من الحالية في التمتع بالولاية العامة على الشؤون الداخلية والخارجية.
الخيار الأكثر نجاعة هو حكومة عسكرية تفيد من التفويض السياسي لاستئصال التيارات التكفيرية ووضع حد للفوضى والفساد والشروع في خطة استعادة دور الدولة الاقتصادي الاجتماعي وإدارة الملفات الداخلية والخارجية.
وفي رأينا أن هذا الخيار يحظى بدعم أغلبية كاسحة من الأردنيين، بحيث أن ضغوط الليبراليين والجهات الدولية، سوف تتبدد أمام صخرة الإجماع الوطني.