ناهض حتر يكتب : ليس دفاعا عن الملك حسين

ليس هناك ما يحفزني، شخصيا، للدفاع عن الملك حسين؛ ففي عهده اعتُقلتُ مرارا، وعُذِّبتُ تكرارا، ومُنعتُ من السفر، ومن مواصلة تعليمي العالي، كما حُرمتُ من العمل، ومن النشر، وقُدمتُ للقضاء العسكري بتهمة إطالة اللسان، وكان ختام عهده، بالنسبة لي، كارثيا؛ فقد تم الاعتداء عليّ بالضرب المبرح ما أفقدني 240 سم من أمعائي الدقيقة، وألزمني علاجا طويلا، اضطرني لمغادرة الأردن إلى وطني الثاني، لبنان، حيث حصلت على العلاج والرفقة والعمل والتقدير، بما بخل به علي وطني الأول. ورغم ذلك، فقد حدثت وفاة الملك حسين وأنا مقيم في بيروت، فابّنته في على الصفحة الأولى من جريدة ‘ السفير’، وكتبت في ‘ النهار’، ردا مطولا على الكاتب المصري الكبير، محمد حسنين هيكل، بشأن شخصية الملك، فوضعته في ميزان نقدي حساس، وعالجت أهم المسائل المرتبطة بعهده، من وجهة نظر علمية. ( أنظر كتابي: الملك حسين بقلم يساري أردني). ولن أعيد، هنا، ما أفردتُ له كتيبا كاملا، متوفرا في نسخة ‘بي. دي. اف’ على الانترنت.لاحقا، تنبّهتُ إلى غياب أرشيف صحفي للملك الراحل، فأنجزتُ، بدعم من الدكتور رجائي المعشر، الجزء العربي منه، وصنّفتُ ما يزيد على 66000 وثيقة من الصحافة المصرية واللبنانية، على نظام محوسَب جرى إهداؤه إلى جامعة الحسين في معان. وقد صرفتُ في هذا العمل حوالي السنتين، فأعطيت للملك بعد رحيله، ما أعطيته من جهدي وعمري لرجلين آخرين، وصفي التل وغالب هلسا، وأنا أرى أن هؤلاء الثلاثة هم الذين صنعوا أسطورة الأردن الحديث. وأسجّل، هنا، أن الليبراليين في الديوان الملكي لم يُتعبوا أنفسهم بالحضور إلى حفل افتتاح ارشيف الملك الراحل، كما أنهم لم يطلبوا نسخة منه!
ما يزال الليبراليون يكرهون الملك حسين. وهذه الكراهية تجعلني أفكّر، مجددا، في الأسباب الجوهرية العميقة لتلك الكراهية.
هناك خمس ميزات أساسية في تجربة الملك حسين السياسية، هي التي يهملها الليبراليون أو أنهم يكرهونه بسببها:
الميزة الأولى، أنه، منذ حكومة الشهيد وصفي التل الأولى، مطلع الستينيات، استقر الحكم في الأردن على احترام الولاية العامة لمجلس الوزراء في الشؤون الداخلية؛ مما أدى الى استقرار نسبي في الإدارة والمشاريع وانضباطهما بالقيود البيروقراطية، بالمعنى الايجابي للكلمة. ويمكن القول إن الخط العام للولاية العامة لمجلس الوزراء، بقي قائما وفعالا في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات. وربما يكفينا القيام بجردة بسيطة، لكي نكتشف أن 90 بالمائة من انجازات الدولة الأردنية، ومؤسساتها وقطاعها العام، قد تم بناؤه في هذه العقود بالذات. وإذا كانت هذه التجربة في البناء قد انتهت إلى انفجار أزمة المديونية في 1988، فإنه علينا أن نلاحظ أن تلك المديونية كانت، في جزئها الرئيسي، قد تشكلت جراء تمويل انجازات مادية ما تزال قائمة حتى اليوم، وفي بناء مؤسسات تمت خصخصتها لاحقا؛ فكان لهذه المديونية ما يقابلها من موجودات مادية. وكان هناك بالطبع ما جرى تبديده في سوء الإدارة، وفي الفساد. وإذا كان الفساد مرفوضا في كل صوره، فقد كان فساد البيروقراطية، في الواقع، مقيدا إلى حد كبير بالقانون، وينصرف إلى تمويل تحسين شروط حياة البيروقراطيين الكبار، وليس إلى انخراطهم في الرأسمالية. وكان الفساد يحدث على هامش المؤسسة، ولم يكن الفساد مؤسسة، كما حدث لاحقا. وما حدث لاحقا كان كارثيا؛ إذ جرت خصخصة القطاع العام، وبيع موجودات الدولة، وهدر العائدات، واستدانة أكثر من أربعة أضعاف مديونية 1988، من دون انجازات أو بناء؛ فالمديونية الآن ليست مغطاة بموجودات.
في هذا الصدد، يواصل الليبراليون تكرار كذبة أن الخصخصة بدأت في عهد الملك حسين؛ والحقيقة أنه رحل من دون خصخصة أي مؤسسة عامة.
الميزة الثانية أن الدولة الأردنية كانت تتمتع ، في عهد الملك حسين، بقدر من الاستقلالية السياسية؛ ولعلي أذكّر، هنا، بموقفين : رفض كامب ديفيد 1979، والتحالف مع العراق العام 1991 في مواجهة الولايات المتحدة والخليج. نلاحظ ذلك مع تأكيدنا أن استقلال السياسة الخارجية الأردنية النسبي، قد انهار لاحقا، فجرى التوقيع على معاهدة وادي عربة 1994، وخرج الأردن من السياق العربي المشرقي إلى السياق الإسرائيلي والتبعية لواشنطن والسعودية. وأنا اعتبر أن الملك حسين، كتجربة سياسية، مات في تلك السنة المشؤومة.
بالخلاصة، كان لعمان حتى مطلع التسعينيات، حضور إقليمي لا يمكن تجاهله، وسياسات تنطلق من تصور استراتيجي، سواء أكنا موافقين على اتجاهها أم لا. وقد أصبحنا لاحقا في تبعية مصر والسعودية، ثم تراجع دورنا السياسي إلى مجرد دور أمني.
لقد عشت فترة التبادل الحكومي بين الرئيسين زيد الرفاعي ومضر بدران، وحدثني الرجلان، لاحقا، عن عملهما السياسي في السبعينيات والثمانينيات، ويذهل المرء للتفاصيل؛ فحتى في السياسة الخارجية، كانت مساحة الحركة المتاحة لرئيس الوزراء واسعة؛ فكان الرفاعي ينسج علاقات خاصة مع دمشق، بينما ينسج بدران علاقات خاصة مع بغداد، بكل ما لذلك من معاني سياسية. ولم يكن الرجلان مجرد موظفين مشغولين بالملفات الصغيرة ..
الميزة الثالثة، كان للملك حسين مشروع سياسي إقليمي وظّف له علاقاته الإقليمية والدولية، ولم يكن موظفا لدى مشاريع الآخرين، وخصوصا السعودية التي كان ‘الشريف حسين’ يعاملها ندا لندّ، وأكثر من ذلك كان يرى انتماءه للمشرق لا إلى السعودية والخليج. وإذا كانت هزيمة العراق قد كسرت ظهره، وأخذته إلى سياق آخر، فلا أظن أنه، بالنظر إلى ديناميته وحساسيته للتغيرات السياسية، كان ليظلّ عالقا في هذه الشباك.
الميزة الرابعة، أن الطابع السياسي لمشروع الملك حسين، لم يكن مرتبطا بمشروع اقتصادي اجتماعي؛ فالملك كان بعيدا عن الانحياز الايديولوجي الليبرالي، بالعكس، كان ميالا لتعاظم دور الدولة الاقتصادي الاجتماعي.
الميزة الخامسة، هي الصدقية؛ فقد كان الملك حسين يلتزم بالاتفاقات والتفاهمات التي يعقدها على أي مستوى، كان يصادم بقوة، ويتراجع بجدّ، ويعمل بما يقول. وكانت معارضته تتطلب الشجاعة والصدقية والذكاء؛ فكأنما تلعب معه على رقعة شطرنج.
وكان للملك حسين أخطاء كبيرة بحجمه، وهي، أولا، المشاركة في حرب 1967، رغم أن التقديرات الاستراتيجية للدولة الأردنية، كانت خلاصتها هي عدم المشاركة. وفي هذه الحرب، خسرنا الضفة الغربية عسكريا، وتمزقت المملكة، وانتهت تجربة الوحدة بين بلدين، لتصبح وحدة بين بلد ومواطنين لبلد آخر، مما فتح الطريق أمام الانشقاق ومخاطر الوطن البديل الخ ، ثانيا، عدم المشاركة في حرب 1973، على الجبهة الأردنية، رغم الحاح قيادة الجيش العربي على ذلك، مما أدى إلى خسارة الضفة الغربية سياسيا، واعتراف القمة العربية، العام 1974، بمنظمة التحرير ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني، ثالثا، ثم تأخر الملك حسين في القبول بهذه النتيجة حتى العام 1988 حين أعلن قرار فك الارتباط الإداري والقانوني مع الضفة، ولكنه، رابعا، حمّل البلد توطين قسم كبير من اللاجئين في قرار فك الارتباط الذي بقي عائما، فلم يقونن. وكانت للملك الراحل في ذلك أهداف سياسية تتعلق بالضفة الغربية. وللمفارقة أن تلك الأهداف انتهت، لكن بقي قرار فك الارتباط على حاله من التعويم، قبل أن تتخذ حكومة عبدالله النسور، قرارا سريا بتجميد التعليمات المرتبطة به.
أما مشكلتنا الكبرى، كأردنيين، مع الملك حسين، فهي أنه، بطغيان شخصيته وأولوية سياساته الإقليمية ، منع تكوّن الشخصية الوطنية الأردنية التي بدأت بالتبلور في عهد الملك عبدالله الثاني، ولكن، بعدما خسرت حاضنتها المتمثلة في الدولة والقطاع العام.

Posted in Uncategorized.