‘حادث فردي ومعزول’!؟ تكرر هذا الوصف للعملية الإرهابية ضد مخابرات البقعة، في أكثر من تصريح رسمي؛ ما يشير إلى سذاجة سياسية أو قرار باستمرار حالة الإنكار الرسمي للظاهرة الإرهابية في البلاد؛ فأما السذاجة السياسية، فتتمثل في خسارة التحشيد الشعبي ضد مواجهة الأخطار الإرهابية لحساب أهداف دعائية فارغة؛ ذلك أن أحدا ، في الداخل أو الخارج، سائحا أم مستثمرا، لن يشتري هذا الوصف لعملية موجهة إلى فرع جهاز أمني وأدت إلى استشهاد خمسة من أعضائه. وأما حالة الإنكار؛ فهي المسؤولة عن إراقة دماء أبنائنا في المخابرات؛ فما كانت عملية إرهابية بسيطة إلى هذا الحد، لتنجح لولا حالة الاسترخاء الأمني التي تنكر التهديد الإرهابي في البلاد.معظم العمليات الإرهابية في البلدان التي ليس فيها فوضى أمنية، يقوم بها، عادة، إرهابي واحد أو بضعة إرهابيين أفراد. وما يجعل أي عملية فردية أو غير فردية هو (1) دوافعها، (2) مصدر القرار بشأنها. فعندما نقول ‘ حادث فردي’، فإن ذلك يعني أن المجرم ارتكب جريمته بدافع ذاتي جنائي أو سيكولوجي، وأنه هو بالذات صاحب القرار بالتنفيذ. وهذا لا ينطبق على حالة منفذ الجريمة الإرهابية ضد مخابرات البقعة؛ فالمجرم هو إرهابي مرتبط بجماعة ‘ جيش الإسلام’ الإرهابية العاملة في سوريا، وكان معتقلا لدى المخابرات بسبب نشاطه الموالي لها؛ أي أن دافعه لارتكاب الجريمة ليس جنائيا ولا سيكولوجيا، وإنما هو دافع أيديولوجي سياسي. وفي هذه الحالة، فإن جريمته إرهابية بامتياز؛ أما القرار بالتنفيذ، فليس بالضرورة أن يأتي مباشرة من مسؤول تنظيمي، بل بتوجيهات على الشبكة العنكبوتية أو حتى بفتوى ذات طابع عام؛ ففي وثيقة عثر عليها الأمن العراقي لدى أحد مراكز الدواعش، توجيه عام من ‘ الخليفة’ بالانتقال نحو ساحات أخرى.وليس ‘ حادثا معزولا’…. فكيف يكون كذلك في إقليم يعاني من ظاهرة إرهابية واسعة النطاق وغير مسبوقة وشاملة ومتداخلة؟ بالعكس، عملية البقعة جاءت في سياق أمني ـ سياسي؛ (1) فالضغط الحاصل الآن على الإرهابيين في سوريا والعراق يلزّهم إلى افتتاح جبهات أخرى، (2) والتطورات الدولية والإقليمية تدفع بكل التنظيمات التكفيرية ( ‘ المعتدلة’ والمتطرفة معا) إلى التدامج، ولم تعد الاتفاقات الأمنية السابقة ذات معنى، (3) والتحشيد التكفيري والسلفي والطائفي المذهبي الداخلي، مرتبطا بالأزمة المعيشية، بلغ حدا لا يمكن معه إلا أن يظهر ويعبر عن نفسه.من المؤسف أن تستمر حالة إنكار الظاهرة التكفيرية الإرهابية المتعاظمة في البلاد، وتجاهل أسبابها في المناهج المدرسية وانتشار الدعاة التكفيريين وأنصار ما يسمى ‘ الثورة السورية’ التي هي مجرد ظاهرة إرهابية، وتحظى بالتعاطف لأسباب طائفية. ولعله من المدهش أن يكون الإرهابي مرتكب جريمة مخابرات البقعة، معتقلا سابقا بتهمة التخابر مع داعش وتجنيد عناصر لجيش الإسلام، ويتم ، مع ذلك، إطلاق سراحه! وفي الواقع، هناك المئات مثله يعملون بصورة علنية ونصف علنية من دون خوف أو حساب.في صفوف الإرهابيين في سوريا والعراق هناك ما بين 2000 إلى 3000 أردني. ومن المنتظر عودة هؤلاء في وقت قريب إلى البلاد، حيث يتمتعون بحواضن اجتماعية؛ فأين هو الحادث الفردي والمعزول؟إنكار الظاهرة الإرهابية، والركون إلى اتفاقات أمنية عفا عليها الزمن، يدفعان إلى الاسترخاء الأمني، وفقدان القدرة على التوقع، وفقدان الحيطة والحذر. وهو ما مكّن إرهابي بسلاح ناري من ضرب موقع سيادي، وارتقاء خمسة شهداء من شبابنا.